في مقالة نشرها بموقع Lobelog الأمريكي، يعتقد الباحث جيمس زغبي، رئيس المعهد العربي الأمريكي، أنَّ "الورشة" الاقتصادية التي اقترحت الإدارة الأمريكية إقامتها في البحرين نهاية الشهر الجاي، للإعلان عن الشقّ الاقتصادي من صفقة القرن، سوف تفشل، ليس لأنَّ الفلسطينيين لن يشاركوا، وإنما للسبب الذي من أجله لن يشارك الفلسطينيون. فهم يعرفون أنه دون سيادة واستقلال لا يمكنهم تنمية اقتصادهم. وقد كان يجدر بفريق ترامب أن يتعلموا هذا الدرس الذي كان من شأن الفلسطينيين تعليمهم إياه، بدلاً من تجاهله، بحسب رأي الكاتب.
الدرس الذي لم تتعلمه إدارة ترامب
يقول زغبي: لقد رأيت هذا الدرس للمرة الأولى في الدار البيضاء، منذ 25 عاماً، عندما أدرت حلقة نقاشية حول الاقتصاد الفلسطيني في القمة الاقتصادية الدولية في الدار البيضاء بالمغرب. كنت هناك بصفتي الرئيس المشارك لمشروع Builders for Peace (بناة السلام) وهو مشروع أنشأه نائب الرئيس آل غور للمساعدة في تنمية الاقتصاد الفلسطيني دعماً لعملية أوسلو للسلام التي كانت حينها ما تزال وليدة.
يردف: تعلمت الكثير من قمة الدار البيضاء ومن أكثر من ثلاث سنوات قضيتها في مشروع بناة السلام، فعندما وصلنا هناك، في شهر يناير/كانون الثاني 1994، وجدنا الأجواء حيوية، إذ كانت الحكومات والشركات من جميع أنحاء العالم هناك. فبالإضافة إلى القيادة العليا لإدارة كلينتون، جلب مشروع بناة السلام وفداً من قادة الشركات الأمريكية، وكانت الحكومات العربية والمستثمرون العرب موجودين هناك بكامل قوتهم، وكذلك الإسرائيليون الذين كانوا متحمسين بشكل واضح للترحيب بهم، للمرة الأولى، في عاصمة عربية. وفي بعض الأحيان بدا من شبه الهزلي رؤية رجال أعمال إسرائيليين يرون عربياً يرتدي ثوباً ثم يسارعون إليه لالتقاط صورة معه لإرسالها إلى أهلهم.
كانت القيادة الفلسطينية هناك وكانت تشعر بالتفاؤل بشأن إمكانية تحقيق دولة فلسطينية خلال فترة الخمس سنوات التي توقعتها أوسلو. وكذا، فقد كانوا شغوفين للبدء ببناء هياكل دولتهم وتأمين الاستثمارات الضرورية لخلق شركات ووظائف من شأنها تمكينهم من تطوير اقتصاد مستقل.
كان هناك فرصة لتكوين اقتصاد فلسطيني قوي
خلال العقود الأولى من الاحتلال الإسرائيلي فقد الفلسطينيون الوصول لمعظم مياههم وأراضيهم الصالحة للزراعة، وعزل بعضهم عن بعض من قبل نظام احتلال قاسٍ، وعزلوا عن العالم الخارجي. ونتيجة لذلك، خضعت أراضيهم لعملية من نزع التنمية وأصبحت تعتمد باطراد على الإسرائيليين، فصبَّت الشركات الإسرائيلية منتجاتها في ما أصبح بالنسبة لهم سوقاً أسيرة. أما الشركات الفلسطينية، إن وجدت، فلم يكن لها وصول للعالم الخارجي إلا لو تاجرت من خلال وسيط إسرائيلي. وكان أكبر مصدر للتوظيف للفلسطينيين هو العمال اليومية، المهينة غالباً، والمتدنية الأجور في إسرائيل.
يقول الكاتب، ما شجع جهودنا كان دراسة أجراها البنك الدولي قالت إنَّ الاقتصاد الفلسطيني مستعد للانطلاق لو توافرت له الاستثمارات والوصول للأسواق الخارجية. وكانت الولايات المتحدة قد تعهدت بالفعل بـ150 مليون دولار سنوياً لمدة 5 سنوات دعماً للفلسطينيين، وتبعتها دول أخرى.
شملت حلقتا النقاشية 3 وزراء فلسطينيين -جميعهم يحملون حقائب اقتصادية- حددوا بشيء من التفصيل ما شعروا أنه ضروري لمساعدتهم على النمو. وفي نهاية الجلسة، اقترب مني شاب أمريكي وسألني متحمساً أن أقدمه إلى الوزراء الفلسطينيين، وقال لي إنه فاز بمنحة من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) قيمتها حوالي 10 ملايين دولار للمساعدة على تدريب الفلسطينيين على مهارات ريادة الأعمال.
وعندما نقلت طلبه إلى الفلسطينيين غضبوا. إذ قال لي أحدهم: "لم يستشرنا أحد بشأن ما نحتاجه. لا يحتاج شعبنا إلى التدريب على كيفية القيام بالأعمال التجارية. نحن بحاجة إلى رأس المال لاستثماره في قطاعنا التجاري الصغير ونحتاج الحرية لممارسة الأعمال التجارية". وقد اختبرت طوال فترة عملي في مشروع بناة السلام تنويعات من هذا الإحباط نفسه من المساعدة المبنية على العرض بدلاً من المساعدة المبنية على الطلب.
"كانت خيولنا عند البوابة، لكنَّ البوابة لم تُفتح قط"
يقول زغبي، أحضرنا، في عامنا الأول، وفدين من قادة الأعمال الأمريكيين للقاء الفلسطينيين لمناقشة إمكانيات الاستثمار والشراكة، لكن في نهاية المطاف أجهضت المشروعات التي اتفق عليها أثناء زيارتنا الأولى عندما أدرك الجانب الأمريكي أنهم لا يستطيعون استيراد المواد الخام وتصدير المنتجات النهائية بحرية دون تأمين شريك إسرائيلي (وهو ما أضاف تكاليف غير مقبولة) أو إذن إسرائيلي (وهو ما لم يكن أمراً قريب الحدوث). وقد كان الأمر كما عبرت عنه حينها: "كانت خيولنا عند البوابة، لكنَّ البوابة لم تُفتح قط".
حتى جهود الحكومة الأمريكية اعتُرِض سبيلها. ففي إحدى المناسبات تلقيت مكالمة هاتفية منزعجة من مسؤول في وزارة الزراعة. إذ كانوا قد حصلوا على تمويل لشحن البصل إلى مزارعي غزة لمساعدتهم في تطوير طاقة تصديرية. وأبلغني ذلك المسؤول أنَّ البصل ظلت في الميناء لشهور حتى تعفنت، إذ لم يسمح الإسرائيليون بدخولها.
ما اكتشفناه، جزئياً بعد أن عقد وزير التجارة حينها رون براون مائدة نقاش مستديرة مع الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية وقادة الأعمال، أنَّ الإسرائيليين ببساطة لم يريدوا المنافسة التي قد تنتج من وجود قطاع أعمال فلسطيني صغير مستقل. كان الإسرائيليون أكثر اهتماماً بحماية شركاتهم الصغيرة، من اهتمامهم برؤية الفلسطينيين ينمون ويصبحون مستقلين.
بل إنَّ براون اضطر إلى التعامل مع المقاومة الإسرائيلية للتنازل للفلسطينيين عن الامتيازات التي حصل عليها الفلسطينيون للسماح لهم بتسويق المنتجات الأمريكية في الضفة الغربية وغزة. ومع أنَّ هذه المجالات لم تمثل سوى نسبة ضئيلة من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي، فإنَّ الإسرائيليين لم يريدوا التخلي عن سيطرتهم الاقتصادية.
السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية
يقول زغبي، صحبت براون في زيارة أخرى عقدنا فيها اجتماعاً لسماع مخاوف قادة الأعمال الفلسطينيين. عقد الاجتماع في فندق Ambassador في القدس الشرقية (قبل أن يخضع الكونغرس للضغط الإسرائيلي ويحظر على المسؤولين الأمريكيين الاجتماع بالفلسطينيين في القدس).
بدأ العديد من الفلسطينيين بالمغادرة بعد جزء من الخطاب الافتتاحي لبراون. التفت براون إليّ وسألني إذا ما كان ذلك الخروج الجماعي راجعاً لشيء قاله، فخرجت من الغرفة والتقيت عدداً من أولئك الذين تركوا الغرفة. أظهر لي المغادرون تصاريح السفر التي منحتها لهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي والتي تسمح لهم بعبور نقاط التفتيش والوصول إلى القدس. كانت التصاريح لزيارة مدتها ثلاث ساعات. ولما كان أولئك الفلسطينيون في الغالب من رام الله أو الخليل، وبسبب الصفوف الطويلة على نقاط التفتيش -عند الدخول والخروج- فقد كانوا يخشون من أنهم إذا فاتهم الموعد النهائي للعودة فسوف يحرمون من تصاريح السفر في المستقبل.
بعد عام ونصف من قمة الدار البيضاء، عقدت قمة ثانية في عمان بالأردن. وكان أحد العناصر المهمة غائباً عن اجتماع عام 1995: إذ كان الفلسطينيون غائبين. ذلك أنَّ إسرائيل كانت قد فرضت إغلاقاً للضفة الغربية وغزة في أعقاب مذبحة ارتكبها مستوطن إسرائيلي متطرف في المسجد الإبراهيمي في الخليل. وكذا فقد أغلق رئيس الوزراء في ذلك الوقت، رابين، الأراضي وحظر السفر خوفاً من الانتقام الفلسطيني.
كانت قمة عمّان كارثة بدون الفلسطينيين. إذ كانت، كما قلت حينها، وكأنَّ الفلسطينيين قد فتحوا باب العالم العربي، فدخل الإسرائيليون، ثم أغلقوا الباب خلفهم على الفور.
ولما كنت محبطاً من هذا الإغلاق، فقد أقنعت بعض الأشخاص من مشروع "بناة السلام" وقليلاً من ممثلي الحكومة الأمريكية بالذهاب إلى القدس عقد جلسة رديفة (جلسة استئنافية) ودعوة الفلسطينيين للانضمام إليها. جلسنا ليلة الاجتماع، نحن الأمريكيون والإسرائيليون، لساعات في انتظار وصول الفلسطينيين. مرر لي مسؤول قنصلي أمريكي ملحوظة تقول: "أراهن أنَّ عرفات هو من رفض السماح لهم بالحضور". لكن بعد بضع دقائق تلقينا مكالمة هاتفية من الفلسطينيين. كانوا قد أوقفوا عند نقطة تفتيش ورفض الإسرائيليون السماح لهم بالدخول. وحتى عندما وضعنا وزيراً حكومياً إسرائيلياً ومسؤولاً أمريكياً على الهاتف، رفضت سلطات الاحتلال التزحزح عن موقفها.
طرأت الكثير من التغيرات في السنوات التالية للأسوأ. ففقد فلسطينيو الضفة الغربية المزيد من الأراضي، وقسمت المستوطنات والطرق المخصصة لليهود فحسب الأراضي أقساماً صغيرة. أما الفلسطينيون فيما يسمى بـ "القدس الشرقية" فقد فصلوا تماماً عن الضفة الغربية، وتتعرض غزة للخنق من قبل الحصار الإسرائيلي. وبالنظر إلى هذه الظروف، فقد تدهور الاقتصاد الفلسطيني مزيداً من التدهور، وأصبح أكثر اعتمادية على المساعدات الخارجية لدفع رواتب قطاع عام متضخم، أو الأعمال اليومية في إسرائيل أو في المستوطنات الإسرائيلية.
الاستقلال الاقتصادي الفلسطيني المرجو
وفي ظل هذه الظروف، فإنَّ ما يحتاجه الفلسطينيون أكثر من أي شيء آخر هو الحرية من السيطرة الإسرائيلية والاستقلال الذي يحتاجونه لتنمية اقتصادهم. وتقول دراسة حديثة للبنك الدولي إنَّ الفلسطينيين سيضاعفون معدل نموهم ثلاثة أضعاف إذا ما أزيلت الحواجز المعيقة للتجارة الحرة.
وكذا، فإنَّ محاولة عقد "ورشة اقتصادية" دون ضمان أنَّ الفلسطينيين سيكون لديهم الحرية والاستقلال أولاً، محاولة مصيرها الفشل. لقد خضنا من قبل في الطريق المرصوف بالوعود الزائفة واكتشفنا أنه طريق مسدود. ولأنَّ الحرية لا تجري مناقشتها والفلسطينيون لا يرون أي التزام بالاستقلال في الأفق، فسوف تكون قمة الولايات المتحدة في البحرين عرضاً "لطيفاً" لكنها لن تحدث فارقاً. وكما يقول المثل القديم "لا يمكنك أن تضع العربة أمام الحصان"، لو فعلت ذلك فلن تسير العربة.