مع الساعات الأولى لفجر الإثنين 3 يونيو/حزيران بدأت أنظار العالم تتابع على شاشات التلفاز متظاهرين سودانيين يفرّون وسط الخيام من الرّصاص الحيّ والقنابل المسيلة للدموع، أجساد ملقاة على الأرض ومصابون يتم إسعافهم ودخان كثيف أحاط بالمكان.. الآن أيقن الجميع بأن المجلس العسكري السوداني قد قرر فضّ الاعتصام الذي دام شهرين أمام مقر قيادة الجيش بالعاصمة الخرطوم.
فجأة وبعد وقوع 13 قتيلاً وإصابة العشرات تم الاعلان عن تراجعت قوات الدعم السريع التي تخضع لسيطرة نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان الفريق أول محمد حمدان دقلو الملقب بـ "حميدتي" عن مقر الاعتصام ونفى المتحدث العسكري فضهم للاعتصام.
لا يمكن الجزم في هذا الوقت المبكّر عن النية الحقيقية للهجوم على الاعتصام، لكن هناك 3 سيناريوهات تفسّر لنا لماذا أقدم المجلس العسكري على تلك الخطوة التصعيدية، وهل هي محاولة للضغظ على المتظاهرين ليقبلوا بشروطه التي يتمسك بها، والتي تضمن استمراره بشكل أو بأخر في السلطة.
السيناريو الأول: بروفة الفضّ الأكبر
مع اللحظات الأولى للهجوم على مقر الاعتصام اليوم اعتبرها البعض مجرد بروفة للفضّ الأكبر الذي قد يضطر له المجلس العسكري في حال عدم الاتفاق مع القوى المنظمة للتظاهرات، الهدف منه بطبيعة الحال التعرف على استعدادات المتظاهرين ومدى قدرتهم على التصدي لمحاولات الفضّ مستلهمين بذلك التجربة المصرية، حيث حاولت القوات المصرية فض اعتصام رابعة العدوية قبل 6 سنوات عدة مرات حتى نجحت في عملية الفضّ في 14 أغسطس/آب 2013.
يعزز من هذا الاحتمال التقارب الكبير بين مصر والمجلس العسكري وزيارة رئيس المجلس العسكري الفريق أول عبدالفتاح البرهان للقاهرة وتأديته التحية العسكرية أمام الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
لكن يظل تكرار سيناريو رابعة العدوية بارتكاب مذبحة تراق فيها دماء المئات أمراً ليس بالخيار السهل، خاصة أن من بين قادة المجلس العسكري مَن هم متهمون بطبيعة الحال دولياً بارتكاب مجازر في دارفور وغيرها، وهم الآن تحت العيون الدولية.
السيناريو الثاني: أمريكا وبريطانيا: يجب أن يتوقف الفضّ
هذا السيناريو قد يفسر لماذا توقف المجلس العسكري فجأة عن عملية الفض، رغم أن الساعات الأولى كانت تشير إلى أن عملية الفضّ قد بدأت بالفعل.
فقد انتقدت السفارتان الأمريكية والبريطانية محاولة الفضّ، وقالت السفارة الأمريكية في الخرطوم إن "هجمات قوات الأمن السودانية ضد المتظاهرين خاطئة، ويجب أن تتوقف، وأن المسؤولية تقع على المجلس العسكري". وأضافت: "المسؤولية تقع على عاتق المجلس المجلس العسكري".
من جهته قال سفير بريطانيا لدى الخرطوم، عرفان صديق: "يساورني قلق شديد إزاء إطلاق النار الكثيف الذي كنت أسمعه من مقر إقامتي، والتقارير التي تفيد بأن قوات الأمن السودانية تهاجم موقع الاعتصام ووقوع إصابات".
وأضاف الدبلوماسي البريطاني في تغريدة له على تويتر: "لا عذر لأي هجوم من هذا القبيل، ويجب أن يتوقف الآن".
لكن قد لا يعوّل كثيراً على الموقف الدولي الذي قد يكتفي بالشجب والاستنكار إذا ارتكبت مذبحة مشابهة لمذبحة رابعة، خاصة أن قادة الجيش الذين يقودون السودان الآن يحظون بدعم مصري إماراتي سعودي كبير، وربما يشجعهم هذا الدعم الذي يقف خلفه دعم أكبر ممثلاً في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لفعل ما يحلو لهم حتى لا تصل السلطة إلى أيدي المدنيين.
وقد رأينا كيف أن مكالمة هاتفية أجراها ترامب مع الجنرال خليفة حفتر في السودان جعلت الموقف الدولي الذي كان يتعامل مع حكومة طرابلس المعادية لحفتر على أنها الحكومة المعترف بها قد تبدل لصالح الجنرال المدعوم من الإمارات ومصر.
السيناريو الثالث: ستقبلون بشروطنا في الحوار.. وإلا
ربما يكون هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، خاصة أنه قد تكرر بشكل أقل حدة في المرات السابقة، فكلما تعثر الحوار بين ممثلو قوى التظاهرات والمجلس العسكري كنا نشهد عدواناً على مقر الاعتصام، لكنها كانت أقل حدة من محاولة اليوم، ما يرجح أن محاولة اليوم كانت قرصة أذن قوية حملت رسالة مباشرة تقول: ستقبلون بشروطنا في الحوار وإلا سيكون الفضّ هو الخيار البديل.
هذه المرة وبينما كانت القوى السياسية قد بدأت تتعامل مع اقتحام مقر الاعتصام على أن قرار الفضّ قد اتخذ وبدأوا تنفيذه، قرر المجلس العسكري فجأة سحب قواته من محيط مقر الاعتصام، نافياً محاولته للفضّ وأنه كان يستهدف عناصر إجرامية قرب منطقة اعتصام الخرطوم.
غير أنه في نفس التصريح الصحفي الذي جاء على لسان الفريق شمس الدين كباشي، المتحدث باسم المجلس العسكري الانتقالي، فقد أعلن التزام المجلس بالمحادثات مع المحتجين، وقال إنهم مستعدون لعقد اجتماع قريباً.
وكان كباشي قد قال لقناة سكاي نيوز في وقت سابق اليوم: "نتوقع أن نعود إلى طاولة التفاوض خلال اليوم أو غداً إن شاء الله".
وشهد الحوار بين قوى التغيير والمجلس العسكري العديد من الجولات، إذ كان يُعلن عن الاتفاق بين الطرفين ثم يحدث خلاف، وظل الوضع مستمراً على النحو التالي:
- في 19 أبريل/نيسان، أعلن قادة الحركة الاحتجاجية عزمهم الكشف قريباً عن تشكيل "مجلس سيادي مدني" يتولى حكم #السودان.
- 21 أبريل/نيسان، عُلّقت المفاوضات التي بدأت في اليوم السابق بين العسكريين و "تحالف الحرية والتغيير" الذي يضمّ المجموعات الرئيسية في الحركة الاحتجاجية.
- 24 أبريل/نيسان، أعلن المجلس العسكري الانتقالي "الاتفاق على أغلب مطالب" قادة الاحتجاجات بعد اجتماع استمر حتى وقت متأخر، فيما استقال ثلاثة من أعضاء المجلس. وفي اليوم التالي، دعا قادة الاحتجاجات إلى مشاركة مليون شخص في الاعتصام في الخرطوم.
- 8 مايو/أيار الجاري، اتهم قادة الاحتجاج العسكريين بمحاولة تأخير العملية الانتقالية، وحضّت #واشنطن المجلس العسكري على التوصل إلى اتفاق مع المتظاهرين.
- 13 مايو/أيار، استؤنفت المحادثات بين المجلس العسكري و "قوى إعلان الحرية والتغيير". ووقعت حوادث تسببت بمقتل 6 أشخاص في العاصمة السودانية.
- 15 مايو/أيار، أعلن المجلس العسكري وقادة الاحتجاج اتفاقاً على انتقال سياسي مدته ثلاث سنوات قبل نقل السلطة إلى المدنيين بشكل كامل. وفي اليوم نفسه قُتل 8 أشخاص بإطلاق نار ضد متظاهرين في محيط المقرّ العام للجيش في الخرطوم.
- 20 مايو/أيار، انتهت مفاوضات جديدة بين الجنرالات الحاكمين وقادة الحركة الاحتجاجية من دون اتفاق حول تشكيلة المجلس السيادي الذي يُفترض أن يؤمن المرحلة الانتقالية.
- دعا قادة الاحتجاجات إلى إضراب عام في 28 و29 من الشهر الجاري لزيادة الضغط على الجيش. لكن حزب الأمة القومي بزعامة الصادق المهدي والمنضوي ضمن تحالف قوى الحرية والتغيير، أعرب عن رفضه الإضراب معتبراً أنه "سلاح علينا استخدامه باتفاق الجميع، وعلينا تجنّب الإجراءات التي ليس عليها اتفاق".
لكن يبدو أن قوى الحرية والتغيير لم تستجب هذه المرة لدعوات المجلس العسكري وقررت وقف كافة الاتصالات والمفاوضات مع المجلس العسكري بعد أن داهمت قوات الأمن مقر اعتصام في الخرطوم.
هل علينا أن نتشكك في رواية المجلس العسكري؟
الإجابة قد لا تكون قاطعة، لكن فكرة أنه لم يكن هناك محاولة للفضّ وأنهم استهدفوا فقط العناصر الإجرامية قد لا تكون مستساغة لعدة أسباب:
- كان من بين المصابين القيادي في قوى الحرية والتغيير مدني عباس مدني، الذي أصيب خلال اقتحام قوات الأمن السودانية الاعتصام، وأظهرت صور نشرتها صفحات مؤيدة للحراك السوداني مدني وهو مُصاب، فيما يحاول مَن حوله مساعدته وإسعافه.
- بالتزامن مع محاوله فضّ اعتصام الخرطوم فضّت قوات حكومية سودانية، الإثنين، وقال حزب المؤتمر السوداني المعارض في بيان مقتضب "تم فض الاعتصام في مدينة النهود وقلعت الخيام في ميدان الاعتصام، وقامت قوات الدعم السريع بالتمركز في ساحة الاعتصام.