كشف تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية عن التناقض الصارخ بين رد فعل الشارع الأمريكي تجاه مشهد تنين دينيريس تارغريان أحد أبطال مسلسل Game Of Thrones "صراع العروش" وهو يصب نيرانه دون تمييز على سكان مدينة كينغزلاندينغ في سعيها لغزو المدينة، وهو رد الفعل الغاضب والرافض تماماً لاستخدام القوة دون تمييز ضد المدنيين، وقارن التقرير بين رد الفعل الغاضب على مشاهد تخيلية في مسلسل تليفزيوني وبين رد الفعل الذي لا يرى مشكلة في قصف المدن بالقنابل الحارقة من الطائرات وهي أمور فعلها الجيش الأمريكي على مدى تاريخه.
في الحلقة قبل الأخيرة من مسلسل "Game of Thrones"، فزع المشاهدون لرؤية إحراق دينيريس تارغاريان، وهي قائدة عادةً ما صوَّرها المسلسل مدافعةً عن حقوق الإنسان، مدينةً مكتظة بالمدنيين المذعورين وهي تمتطي تنينها. قال البعض إنَّ هذا التحوُّل بدا منافياً لشخصية دينيريس. وقال آخرون إنَّه بالنسبة لكونها نقطة تحوُّلٍ في حبكة المسلسل، فقد كان حدثاً ركيكاً في تطوره والتمهيد له، ودمر التحوُّل صورة بطلةً نسوية في المسلسل.
استهداف المدنيين يعتبره الأمريكيون جريمة بشعة
لكنَّ السبب الكامن وراء احتجاج المشاهدين ظلَّ مسكوتاً عنه، وهو الاستهداف المقصود للمدنيين من الجو، باستخدام أسلحةٍ حارقة يستحيل الهرب منها، هو أمرٌ يعتبره الأمريكيون بحق جريمةً بشعة، فعلٌ لا يقترفه الممثلون الطيبون.
ومع أنَّه يبدو بديهياً لنا أن يعارض الأمريكيون جرائم حربٍ مثل تلك، لكنَّه لم يكن أمراً محتوماً في التاريخ، فالولايات المتحدة ارتكبت بعض أبشع عمليات القصف الجوي في التاريخ باستخدام قنابل حارقة، وبدعمٍ من أغلب العامة إلى حدٍ كبير.
يقدر أحد الباحثين أنَّ قصف المدنيين في الحرب العالمية الثانية قتل نحو 750 ألف شخص، وهو عددٌ يبلغ أضعاف مَن قُتِلوا في القصف النووي لمدينتيّ هيروشيما وناغازاكي، حُرِق أطفالٌ أحياء وهم على ظهور أمهاتهم، واختنقت عائلاتٌ بأكملها في الأقبية، لكنَّ الأمريكيين لم يبالوا في أغلب الأمر، بحسب تقرير فورين بوليسي.
المبدأ الأخلاقي متغير؟
إذن ماذا يخبرنا تصوير شبكة HBO المنتجة للمسلسل القصف الناري، والغضب الذي تلاه، عن جرائم الحرب في نظر الضمير الأمريكي في الوقت الراهن؟ هل كان الأمريكيون يصدرون أحكاماً على دينيريس بهذه السرعة إذا لم تستسلم المدينة قبل أن تبدأ هيَ فورة القتل؟ هل كان سيُبدي الأمريكيون غضباً أخلاقياً مثل هذا إذا ما كانت حيوات قوَّات الولايات المتحدة نفسها في خطر؟ والآن في ظلِّ تذمُّر إدارة ترامب بشأن الحرب مع إيران، في الوقت ذاته الذي كان المشاهدون يشهقون فيه ذعراً من دمار مدينة كينغز لاندينغ الخيالية، لم تَعُد هذه الأسئلة فرضيات أكاديمية.
في يوليو/حزيران عام 2017، قرب الوقت الذي نزلت فيه دينيريس بجزيرة دراغونستون، نشر اثنان من علماء السياسة بجامعة ستانفورد وكلية دارتموث الأمريكيتين استطلاعاً سألوا فيه 780 مواطناً أمريكياً هذا النوع من الأسئلة تحديداً. طُلِب من المشاركين بالاستطلاع أن يتخيلوا ما إن كان بإمكانهم، في حالة اندلاع حربٍ دموية ومستعصية مع إيران، الموافقة على شنِّ قصفٍ جوي على مدينةٍ مأهولة بالسكان على طريقة التارغاريان، يُحتمَل أن يقتل 100 ألف مدني، حتى تُجبَر إيران على الاستسلام وبالتالي تُنقَذ حيوات 20 ألف جندي أمريكي. عندما طُرِحَت عليهم الفكرة بهذه الصيغة، مال ثلثا المشاركين في الاستطلاع تجاه اختيار قصفٍ "صادم" لمدينةٍ مدنية فضلاً عن دخول حربٍ برية دموية وممتدَّة. كان استنتاج مُعدي الدراسة هو أنَّ "دعم الرأي العام الأمريكي لمبدأ حصانة المدنيين سطحيٌ وسهل التغلُّب عليه بفعل ضغط الحرب".
لكنَّ مشاهدي التلفاز لم يستجيبوا مثلما توقَّعت نتائج استطلاع الرأي عندما رأوا نار التنين. تِلك الاستجابة لها آثارٌ تتعدَّى حاجز الأحداث الخيالية. ولأنَّ المسلسلات التليفزيونية الناجحة تنقل مشاهديها إلى عالمٍ يشعرون أنَّه واقعي، يدرك المشاهدون ذلك العالم، ويستجيبون له، بشكلٍ يماثل استجابتهم للواقع. ربما تعني ردود فعل الجمهور على التحوُّل الأخير بسير أحداث مسلسل Game of Thrones، بأعدادٍ تفوق كثيراً حجم عينةٍ من 780 شخصاً، شيئاً آخر، ربما تعطينا الاستجابة تِلك تمثيلاً أفضل لاستجابة الأمريكيين المحتملة حيال قصفٍ بالقنابل الحارقة اليوم.
انظر للتعليقات الأبرز على الحلقة قبل الأخيرة من المسلسل، لم نرَ أي معلِّقين يجادلون بأنَّ قصف كينغز لاندينغ كان ليصبح أمراً مبرراً كليةً إذا لم تستسلم المدينة، مثلما رفضت طوكيو الاستسلام قبل قنبلة هيروشيما وكما رفضته إيران في السيناريو التخيُّلي الذي طرحه عالميّ السياسة في دراستهما. ولم يرد إلى علمنا أن قال أحدهم إنَّه كان على دينيريس أن تحرق المدنيين في ما ينتظر جنودها سالمين خارج أسوار المدينة.
انظر أيضاً لردود الفعل على الحلقة الأخيرة نفسها، اختلفت الشكاوي والاعتراضات لكن قلَّ مَن جادلوا بأنَّ دينيريس استحقَّت العرش بعد ما فعلته، إذ لم يستمر سوى 11% من المشاهدين الأمريكيين في مساندتها بعد تدمير كينغز لاندينغ. بالنسبة لأغلب المشاهدين، لم يكن السؤال وقتها عمَّا إن كان المسلسل سيُعاقب دينيريس على جرائمها بل كيف. وهذا أمرٌ يؤكده أنَّ العقوبة قد وُقعَت بيد الابن المُتبنَى لنيد ستارك، وهو رجلٌ كان آخر قرارٍ له في السلطة هوَ الحكم على رجل بالموت، وبرغم الجدال بعكس بذلك، فإنَّ الرسالة الأساسية التي يقدِّمها المسلسل هوَ أنَّ الحكَّام يتجاوزون الأعراف الأخلاقية على مسؤوليتهم. بالطبع قُطِعَت رأس نيد، وجُنَّت دينيريس، لكنَّ سير أحداث القصة مال في النهاية إلى اتجاه العدالة، يتذمَّر المعجبون بشأن أمورٍ كثيرة لم يكن من بينها مصير دينيريس المحتوم.
الأمريكيون يهتمون بثقافة الحروب
مثلها مثل تجارب استطلاع الرأي، يمكن للثقافة الدارجة، واستجابة الجمهور لها، أن تكون نافذةً على قيم المجتمع، ما كشفه لنا مسلسل Game of Thrones أوضح من أي استطلاعٍ هوَ أنَّ أغلب الأمريكيين يهتمُّون بقتال الحروب أكثر ممَّا يُروِّج العلماء السياسيون، والأهم من ذلك هو أنَّ الأمريكيين يهتمُّون باتباع قوانين الحرب: تكشف تجارب استطلاع الرأي أنَّ معارضة التعذيب واستهداف المدنيين تزداد كلَّما أُعطي المشاركون معلومات أكثر عن القانون الدولي.
يؤكد استطلاع رأيٍ جديد صحة هذا الافتراض حتى في حالات القصف الجوي، مناقضاً نتائج استطلاع ستانفورد/دارتموث، ففي ورقةٍ بحثية مبدئية قُدمَت مؤخراً في جمعية الدراسات الدولية، سألنا 2250 أمريكياً ما إن كانوا يتَّفقون مع الرأي القائل إنَّ استهداف المدنيين في الحرب هو فعلٌ خاطئ قطعاً، قال 80% من المشاركين إنَّهم "يتفقون بشدة" أو "يتفقون إلى حدٍ ما" مع هذا الرأي.
طُلِّب من المشاركين كذلك شرح سَبب إجابتهم تِلك، لمَ استهداف المدنيين خاطئ؟ كانت النتائج مدهشة. رفض كثيرٌ ممَّن اتفقوا بشدة مع خطأ استهداف المدنيين الإجابة عن السؤال من الأساس. رفض هؤلاء عقد مقارنةً بين الثمن والمنفعة لفعل مثل هذا أو أن يضعوا باعتبارهم اللائمة الأخلاقية التي تقع على المدنيين أنفسهم أو حتى أن يستشهدوا بتفسيراتٍ مثل اتفاقيات جنيف. قال هؤلاء في التعليقات المفتوحة: "إنَّه أمرٌ خاطئ وحسب" أو "لا يمكنك فعل هذا وحسب". وكتب أحدهم: "كيف لك أن تسأل سؤالاً مثل هذا؟".
النتائج تختلف باختلاف طبيعة الأسئلة
عندما كرَّرنا تجربة ستانفورد/دارتموث السابقة، لكن باستخدام أسئلةٍ مفتوحة الإجابة فضلاً عن إجبار المشاركين على انتقاء أحد خيارين بشعين، وجدنا أنماط تفكيرٍ أخلاقية أكثر دقةً ممَّا وجده مُعدا الدراسة الأصلية. رفض أغلب الأمريكيين الحرب البرية والقصف الجوي على حدٍ سواء في سيناريو إيران التخيُّلي، طارحين خياراتٍ أخرى: قوَّة جوية دقيقة تستهدف الأهداف العسكرية، أو حلولاً دبلوماسية، أو الانسحاب. وجدنا دَعم فكرة القصف يتراجع أكثر حتى من ذلك عندما أُعلِم المشاركين بالقوانين والأعراف الدولية، أو حتى عندما طُلِب منهم التفكير في الواقع الأخلاقي، وهو أمرٌ طالما حثَّ مسلسل Game of Thrones مشاهديه على فعله.
رد الفعل رسالة لترامب؟
تؤكد أبحاثنا الدليل المُلاحظ في ردود فعل المشاهدين على الحلقة الأخيرة من المسلسل. كان الأمريكيون ليختاروا أن تستخدم دينيريس القوَّة الجوية لكن ضد الأهداف العسكرية فقط مثل الأسطول الحديدي. كانوا ليريدونها أن تحدّ استخدام النيران داخل أسوار المدينة لتجنُّب وقوع خسائر جانبية. كانوا يريدونها أن تستهدف فقط قلعة الريد كيب، إذا ما بدت الحاجة، وليس شوارع حي Flea Bottom الفقير. كان الأمريكيون ليختاروا أن يُترَك للجنود أمر القتال على الأرض بأن يخترقوا الريد كيب ويقبضوا على سيرسي لانيستر وأن يقاتل جيش الأنساليد، والدوثراكي، ورجال الشمال جنوداً لا أن يذبحوا الأبرياء. تبيّن كل هذه الحجج فهماً واضحاً ومتسقاً وحساسيةً لقوانين الحرب الدولية.
وبهذا، سوف تظل مشاهدة شخصياتٍ محبوبة تتحوَّل لمجرمي حربٍ أمراً مثيراً للضيق الشديد لدى الجمهور الأمريكي، مثلما يرى الجمهور السياسي خزياً وطنياً في محاولة ساسة البلاد أن يجعلوا من طيّاري وقوَّات الولايات المتحدة مجرمي حرب أو يعفوا لغيرهم ارتكاب جرائم بشعة. على القصف الناري الذي حلَّ بمدينة كينغز لاندينغ الخيالية، وردود فعل المشاهدين عليه، أن يكون بمثابة تحذيرٍ للرؤساء الذين يريدون عودة التعذيب، وللساسة الذين يدعون لعودة القصفٍ الجوي، أو غيرهم ممَّن قد يفكِّرون بارتكاب أفعال أخرى من استراتيجية "الصدمة والترويع" في أي حربٍ مقبلة.