الأمريكيون يطلقون النار على أقدامهم.. يستخدمون مضادات حيوية تهدد حياة الملايين لمواجهة بكتيريا نقلتها حشرة صينية

عربي بوست
تم النشر: 2019/05/20 الساعة 08:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/05/20 الساعة 08:51 بتوقيت غرينتش
مزارع أمريكي يرش لحمضيات بمضادات حيوية/ نيويورك تايمز

في قرارها بالموافقة على عقارين لأشجار البرتقال والجريب فروت، تجاهلت وكالة حماية البيئة الأمريكية إلى حدٍّ كبير اعتراضات مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، وإدارة الغذاء والدواء، اللذين يخشيان من أن التوسع في استخدامها في المحاصيل النقدية يمكن أن يغذي مقاومة المضادات الحيوية لدى البشر.

تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية أشار إلى استشراء داء خبيث في أشجار البرتقال بمزارع روي بيتيواي. وفشلت كافة جهود السيطرة على تلك العدوى البكتيرية التي تنتقل عن طريق حشرة صغيرة مجنَّحة قادمة من الصين، ما أدى إلى تدمير صناعة الحمضيات في فلوريدا، وإجبار عشرات المزارعين على التوقُّف عن العمل.

ومؤخراً، بعد ظهيرة أحد الأيام، شغَّل بيتيواي بخاخه الصناعي في محاولةٍ أخيرة للسيطرة على العدوى، ورش الأشجار بمبيدٍ جديد للآفات؛ وهي المضادات الحيوية المستخدمة لعلاج مرض الزهري والسل والالتهابات البولية وعدوى أمراض أخرى تصيب البشر.

بينما كان يشاهد والده وهو يعالج أشجار العائلة التي يبلغ عمر بعضها 50 عاماً، قال روي، 33 عاماً، نجل بيتيواي: "هذه المبيدات الحشرية تعطينا الأمل، لأنَّ الأمر يبدو الآن كما لو أنَّنا نتخبط في الماء ونبتلعه دون طوق نجاة".

منذ عام 2016، سمحت وكالة حماية البيئة لمزارع الحمضيات في فلوريدا باستخدام عقاقير الستربتومايسين والأوكسيتراسيكلين في حالات الطوارئ، إلا أنَّ الوكالة تعمل الآن على توسيع نطاق استخدامها المسموح به عبر 764 ألف فدان في كاليفورنيا وتكساس، وغيرها من الولايات المنتجة للحمضيات.

الاستخدام المكثف للأدوية المضادة للميكروبات يهدد أرواح الملايين

وافقت الوكالة على الاستخدام الموسَّع على الرغم من الاعتراضات الشديدة من إدارة الغذاء والدواء ومركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، اللذين يحذران من أنَّ الاستخدام المكثف للأدوية المضادة للميكروبات في الزراعة يمكن أن يحفز الجراثيم على التحوُّر، حتى تصبح مقاومةً للأدوية، مما يهدد أرواح ملايين الناس.

وقد اقترحت وكالة حماية البيئة الأمريكية السماح برشّ ما يصل إلى 650 ألف رطل (295 طناً) من الستربتومايسين على محاصيل الحمضيات كل عام. وبالمقارنة، يستخدم الأمريكيون 14 ألف رطل (6.3 طن) من الأمينوغليكوزيدات سنوياً، وهو أحد أصناف المضادات الحيوية التي تحتوي على الستربتومايسين.

حظر الاتحاد الأوروبي الاستخدام الزراعي لكلٍّ من الستربتومايسين والأوكسيتيتراسيكلين، وكذلك الأمر بالنسبة للبرازيل، التي يواجه فيها مزارعو البرتقال نفس الوباء الجرثومي، الذي يُطلَق عليه "هوانغ لونغ بينغ"، والمعروف أيضاً باسم مرض اخضرار الحمضيات.


"السماح بالزيادة الهائلة في أدوية الزراعة بمثابة وصفة لتحضير كارثة"

يقول ستيفن روش، كبير المحللين في مجموعة Keep Antibiotics Working: "السماح بمثل هذه الزيادة الهائلة في هذه الأدوية في الزراعة بمثابة وصفة لتحضير كارثة"، وتابع: "هذا يُقدِّم احتياجات صناعة الحمضيات على صحة الإنسان".

لكن بالنسبة لمزارعي البرتقال والجريب فروت المكافحين في ولاية فلوريدا، ستستغرق هذه الموافقات بعض الوقت. يبدو اليأس واضحاً في القسم الأوسط الرملي من الولاية، وهو امتدادٌ مسطح كان خصباً من قبل ومغطى بأشجار الحمضيات، ومعظمها أشجار برتقال العصير التي تقوم عليها صناعة تبلغ قيمتها 7.2 مليار دولار، ويعمل فيها 50 ألف شخص، أي أقل بنحو 40 ألف شخصٍ عمَّا كان عليه الحال قبل 20 عاماً.

في هذه الأيام، تسيطر البساتين المهجورة على المشهد، وتُعد الأوراق الصفراء الطويلة لأشجارها المتناثرة دلالةً واضحة على المرض.

ويقول بيتيواي إنَّ المضادات الحيوية قد ساعدت في إعادة إحياء العديد من أشجاره.

قال الرجل ممسكاً بورقة خضراء زاهية ولامعة من شجرة مليئة بثمار ما زالت في طور النمو: "كان لديهم التهاب رئوي، والآن الأمر ليس أكثر من نزلة برد".

صدرت موافقةٌ مؤقتة على هذه العقاقير في عهد الرئيس باراك أوباما، لكن في ديسمبر/كانون الأول، في عهد الرئيس ترامب، أصدرت وكالة حماية البيئة الأمريكية الموافقة النهائية على استخدام الأوكسيتراسيكلين على نطاقٍ أوسع، واقترحت الوكالة أيضاً التوسُّع في استخدام الستربتومايسين وفق شروطٍ مماثلة.

يمهِّد القرار الطريق لأكبر استخدام للمضادات الحيوية المهمة طبياً في المحاصيل النقدية، ويتعارض هذا مع الجهود الأخرى التي تبذلها الحكومة الفيدرالية للحدِّ من استخدام الأدوية المضادة للميكروبات.

منذ عام 2017، حظرت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية استخدام المضادات الحيوية لتعزيز نمو الحيوانات في المزارع، وهو قرارٌ أدى إلى انخفاض بنسبة 33% في مبيعات المضادات الحيوية للماشية.

تسبَّب استخدام المضادات الحيوية في زراعة الحمضيات في زيادة تعقيد النقاش الدائر حول ما إذا كان الاستخدام المكثف لمضادات الميكروبات في الزراعة يهدد صحة الإنسان بإضعاف قدرات الأدوية في قتل الجراثيم. وركَّزَ معظم هذا النقاش على مزارعي الماشية، الذين يستخدمون 80% من المضادات الحيوية التي تباع في الولايات المتحدة.

على الرغم من أنَّ الأبحاث المُتعلِّقة باستخدام المضادات الحيوية في المحاصيل ليست كثيرة، يقول علماءُ إنَّ نفس الديناميكية قد بدأت بالفعل مع مبيدات الفطريات، التي تُرَشُّ دون قيودٍ على الخضراوات والزهور في جميع أنحاء العالم.

ويعتقد باحثون أنَّ الزيادة في عدوى الرئة المقاومة للأدوية، التي يطلق عليها الرشاشيات، ترتبط بمبيدات الفطريات الزراعية، ويشتبه الكثيرون في أنَّ العقاقير وراء ظهور داء المبيضات، وهو عدوى فطرية قاتلة.

تقتل العدوى المقاومة للعقاقير 23 ألف أمريكي كل عام

ووفقاً لمركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، تقتل العدوى المقاومة للعقاقير 23 ألف أمريكي كل عام، وتصيب مليوني شخص بالأمراض. ويتزايد التهديد مع تحوُّر المزيد من الجراثيم.

مع وجود عددٍ قليل من الأدوية الجديدة الجاري إعدادُها، تقول الأمم المتحدة إنَّ العدوى المقاومة يمكن أن تودي بحياة 10 ملايين شخص على مستوى العالم بحلول عام 2050، متجاوزةً بذلك الوفيات الناجمة عن السرطان.

يمكن للمضادات الحيوية التي تُرَشُّ على المحاصيل أن تؤثر في عمال المزارع أو الأشخاص الذين يستهلكون الفاكهة الملوثة بشكلٍ مباشر، لكنَّ أكثر ما يقلق العلماء هو أنَّ العقاقير تؤدي إلى زيادة مقاومة البكتيريا المسببه للأمراض في التربة، ومن ثم ستجد طريقها للسكان عبر المياه الجوفية أو الأغذية الملوثة. وتتعلَّق المخاوف الأخرى بأنَّ هذه البكتيريا ستشارك آلياتها المقاومة للعقاقير مع الجراثيم الأخرى، ما سيجعلها أيضاً مستعصيةً على أنواعٍ أخرى من المضادات الحيوية.

وفي تقييمها للاستخدام المُوسَّع للستربتومايسين، قالت وكالة حماية البيئة الأمريكية، التي اعتمدت إلى حدٍّ كبير على بيانات مُصنِّعي هذه المبيدات، إنَّ الدواء تلاشى بسرعة في البيئة. ومع ذلك، لاحظت الوكالة أنَّ هناك خطراً "متوسطاً" يتمثل في توسيع نطاق استخدام هذه الأدوية لتشمل محاصيل الحمضيات، وأقرت بعدم وجود أبحاث حول ما إذا كانت الزيادة الهائلة في الاستخدام ستؤثر على البكتيريا التي تصيب البشر.

وكتبت الوكالة: "علم المقاومة يتطوَّر، وهناك مستوى عالٍ من الغموض في كيفية وتوقيت حدوث المقاومة".

منذ تأكيد وجوده في فلوريدا لأول مرة في عام 2005، تسبب مرض اخضرار الحمضيات في إصابة أكثر من 90% من أشجار الجريب فروت والبرتقال في الولاية. تنتشر مسببات المرض عن طريق حشرة صغيرة هي الديافورينا سيتري، التي تصيب الأشجار وتتغذى على الأوراق والسيقان الصغيرة، لكن قد يستغرق الأمر عدة أشهر لظهور الدليل على وجود المرض. تُسقِط الأشجار المصابة ثمارها قبل أوانها، ويكون معظمها مُراً للغاية ولا يصلح للاستخدام التجاري.

جم استخدام المبيدات قد يرتفع إذا وصلت هذه الآفة إلى بساتين البرتقال في كاليفورنيا

ويقول المسؤولون إنَّه من السابق لأوانه معرفة عدد المزارعين الذين سيتقبلون رشّ المضادات الحيوية، وتشير المقابلات التي أُجريت مع عشرات المزارعين والمسؤولين في هذا القطاع إلى أنَّ العديد من المزارعين ينتظرون لمعرفة ما إذا كان هذا النظام فعالاً أم لا.

أقرّت وكالة حماية البيئة الأمريكية بأنَّ حجم استخدام المبيدات قد يرتفع إذا وصلت هذه الآفة إلى بساتين البرتقال التجاري في كاليفورنيا. وحتى هذا العام، أُصيبت أكثر من 1000 شجرة في حوض لوس أنجلوس، معظمها في أفنية سكنية، أي ضعف العدد المتضرر في نفس الفترة من العام الماضي.

وقال جيمس كراني ، رئيس مجلس جودة الحمضيات في كاليفورنيا: "الأمر مسألة وقت فقط".

جيم أداسكافيج هو أخصائي علم أمراض النبات بجامعة كاليفورنيا في ريفرسايد، ويؤدِّي دوراً استشارياً في مجلس الحمضيات في كاليفورنيا، وهو يؤيد استخدام المضادات الحيوية في الزراعة. وأشار أداسكافيج إلى أنَّ الحكومة قد وافقت منذ فترة طويلة على استخدام كميات أقل من الستربتومايسين والأوكسيتيتراسيكلين للتحكم في البكتيريا المدمرة التي تصيب محاصيل التفاح والكمثرى.

ونظراً لأنَّ وكالة حماية البيئة الأمريكية تحظر استخدام هذه العقاقير قبل 40 يوماً من الحصاد، قال أداسكافيج إنَّ احتمالية تأثر المستهلكين بها ضئيلة، وتابع: "نحن  نستخدمها بأمان منذ عقود".

وقال تاو ريتشاردسون، الرئيس التنفيذي لشركة ArgoSource، التي تُصنّع المضادات الحيوية التي يستخدمها المزارعون، إنَّ الشركة لم تشهد أي مقاومة منذ 14 عاماً منذ أن بدأت في بيع مبيدات الجراثيم. وأضاف: "لا نأخذ مقاومة المضادات الحيوية باستخفاف. أهم ما في الأمر هو استهداف الأشياء التي تُسهم في المقاومة، وألا نشتت انتباهنا بالأشياء التي لا تفعل ذلك".


المضادات الحيوية التي تتسرب ببطء إلى البيئة تزيد من المقاومة بشكلٍ كبير

لا يوافق العديد من العلماء على هذه التقديرات، مشيرين إلى المقاومة المتزايدة لكلا العقارين في البشر. واستشهد هؤلاء العلماء أيضاً بالدراسات التي تشير إلى أنَّ التركيزات المنخفضة من المضادات الحيوية التي تتسرب ببطء إلى البيئة على مدى فترةٍ طويلة من الزمن يمكن أن تزيد من المقاومة بشكلٍ كبير.

ومن جانبهم، يشعر العلماء في مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها بالقلق بشكلٍ خاص حول الستربتومايسين، الذي يمكن أن يبقى في التربة لأسابيع وسُمح باستخدامه عدة مرات في الموسم. وكجزءٍ من التشاور مع إدارة الغذاء والدواء الأمريكية، أجرت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها تجارب على العقارين، ووجدت مقاومةً كبيرة لهما.

وعلى الرغم من أنَّ إدارة ترامب تضغط على وكالة حماية البيئة الأمريكية لتخفيف اللوائح، قال ناثان دونلي، العالم البارز في مركز التنوع البيولوجي، إنَّ مكتب المبيدات التابع للوكالة لديه سجل حافل بتقديم مصالح شركات الكيماويات والمبيدات، وأضاف: "إنَّ ما يخدم مصلحة الصناعة سيتغلب على السلامة العامة في تسعة من أصل كل 10 مرات".

وقال متحدث باسم وكالة حماية البيئة إنَّ الأخيرة قد سعت إلى معالجة مخاوف مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها وإدارة الغذاء والدواء بشأن مقاومة المضادات الحيوية، عن طريق طلب مراقبة إضافية وقصر السماح باستخدامها على سبع سنوات.

لكن بعض المزراعين شعروا بتحسن لمحاصيلهم بعد استخدام العقاقير

ومع ذلك ، لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الأدوية تعمل حتى على المحاصيل. إذ قالت غراسييلا لوركا، عالمة الأحياء الجزيئية في جامعة فلوريدا والخبيرة في مرض اخضرار الحمضيات، إنَّها غير مقتنعة. وفي غياب أي دراسات خاضعة لتقييم الباحثين، اعتمدت لوركا وباحثون آخرون إلى حدٍ كبير على أدلة على ألسنة المزارعين، الذين أبلغوا عن بعض التحسن بعد استخدام العقاقير.

وأضافت: "حتى الآن، هذا مقياس نلجأ إليه بدافع اليأس بالتأكيد".

في وقتٍ قريب، قاد كيني ساندرز سيارته بعد الظهيرة عبر بساتين برتقال فالنسيا وهاملين، وأشار إلى الأشجار المريضة المميزة بشرائط وردية اللون كعلامة لإزالتها.

بلهجةٍ ساخرة، قال ساندرز، المؤدي السابق في مسابقات رعاة البقر والذي كان يسرق الماشية: "إنَّها قبلة الموت. إذا كنتَ تمتلك 40 فداناً، وتقود كاديلاك وترسل أبناءك إلى الجامعة، لن يعود الأمر كذلك بعد إصابة أشجارك".

وقال ساندرز إنَّه حاول استخدام المضادات الحيوية لمدة موسم واحد، لكنَّه توقف بعد أن لاحظ تحسناً طفيفاً. وأضاف أنَّ التكلفة كانت السبب الرئيسي في أنه لم يواصل استخدامها.

في غضون ذلك ، تبنى ساندرز هو والعديد من المزارعين الآخرين مجموعة من العلاجات؛ مثل نزع الأشجار التي تظهر عليها أول علامات المرض، وزرع مخزون جديد وتربيته لمقاومة البكتيريا بشكل أفضل. وهو يغذي أشجاره بانتظامٍ بمزيج دقيق من المغذيات الدقيقة، يقول إنَّها تساعد المحصول في مقاومة المرض.

ويفعل روي بيتيواي كل ما سبق أيضاً، لكنَّه يعتقد أن عملية الرش تستحق التكلفة.

يتحدث الشاب بلطف وتأمّل، فهو يعتبر نفسه صديقاً للبيئة، وعلى الرغم من قلقه من مقاومة المضادات الحيوية، فهو يضع ثقته بوكالة حماية البيئة وتأكيداتها على أنَّ مخاطر الرش بسيطة، ويعتبر ذلك إجراءً مؤقتاً يمكن أن يساعد أشجاره على البقاء حتى يطور الباحثون سلالة مقاومة للأمراض أو علاجات أكثر فعالية.

وبصفته من الجيل الرابع من المزارعين في مزارع عائلته، فإنَّ لديه مخاوف أكثر إلحاحاً من التهديد المبهم نسبياً لمقاومة المضادات الحيوية.

يقول: "هذه الأشجار هي مصدر رزقنا ومستقبلنا. يجب أن أتأكد من أنَّ كل هذا سيكون موجوداً لأبنائي وأحفادي".

علامات:
تحميل المزيد