على الرغم من أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمواجهة تفشي وباء كورونا هي الأخف بين دول المنطقة، فإن التداعيات الاقتصادية التي منعت الدخل عن الملايين من العمال وأصحاب المشاريع الصغيرة ربما تفرض حتى رفع تلك الإجراءات رغم الارتفاع الملحوظ في أعداد الإصابات، فما قصة المعادلة المستحيلة؟
صحيفة فايننشال تايمز البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "المصريون يواجهون معاناة اقتصادية رغم تخفيف إجراءات الإغلاق"، ألقى الضوء على الآثار السلبية للوباء القاتل على ملايين المصريين والاقتصاد الهش.
إجراءات شكلية
فرضت مصر قيوداً أقل حدة من البلدان الأخرى حرصاً على حماية اقتصادها الهش، لكن الأضرار التي تُلحقها الجائحة باقتصادها لا تزال بالغة.
تعاني شوارع القاهرة من الاختناقات المرورية، حيث يملأ العمال مواقع البناء ويسافر الملايين للعمل عن طريق مترو الأنفاق، ولكن حتى في ظل الاكتفاء بفرض قيود جزئية واستمرار معظم الشركات في العمل تباطأ النشاط التجاري في أكبر دول العالم العربي سكاناً، وتوقفت القطاعات الحيوية مثل السياحة بالكامل.
يقول منير ويصا، الذي يمتلك قاربين من قوارب النزهات النيلية ويؤجر ثالثاً: "الخسارة كانت بنسبة 100%"، وأضاف أنه خسر شهرين من موسم النزهات النيلية، ولا يعلم على وجه اليقين موعد عودة السياح، إذ توقفت الرحلات الدولية منذ مارس/آذار.
وأُغلقت المساجد والكنائس والمقاهي والمطاعم، ولكن يُسمح بفتح المحلات التجارية حتى الساعة الخامسة مساءً، فيما لا تزال المصانع مستمرة في عملها، وخفَّفت الحكومة حظر التجوال ليلاً الشهر الماضي ساعة إضافية، ليبدأ بحلول التاسعة مساءً قبل شهر رمضان، ولكن يُسمح للسيارات التي تنقل عمال المصانع بالسفر بعد بدء حظر التجول.
ورغم ذلك، تهاوت إيرادات الشركات، ويقول ديفيد أوين، الخبير الاقتصادي في شركة IHS Markit، التي تراقب نشاط القطاع الخاص: "الشركات المحظوظة كفاية لتظل مفتوحة شهدت تراجعاً في نشاطها على نطاق واسع بسبب الانخفاض الحاد في المبيعات المحلية والطلب الأجنبي".
وتعد المئات من اللوحات الإعلانية الفارغة فوق الطرق الرئيسية والجسور في القاهرة من العلامات الجليّة على هذا الانكماش التجاري.
موسم الإعلانات
وتجلّى الضرر أيضاً في انخفاض الطلب على الإعلانات التلفزيونية خلال شهر رمضان، الذي يعتبر عادةً موسم ذروة المشاهدة، ويقول محمد خليفة، رئيس وكالة الإعلانات Creative Lab Group، إن نشاط القطاع الخاص تراجع بنسبة 50% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي. وقال: "العديد من العملاء ليسوا واثقين مما سيأتي به المستقبل. بعض المشاريع قيد التنفيذ، ولكنهم يريدون الانتظار حتى نهاية شهر رمضان لتقرير ما إذا كانوا سيواصلونها".
ويقول رؤوف غبور، الرئيس التنفيذي لشركة GB Auto، التي استحوذت على خُمس سوق سيارات الركاب في مصر، العام الماضي، إن مبيعات شركته تضرّرت جراء ساعات التسوق المحدودة وإغلاق هيئة المرور الحكومية لمدة ستة أسابيع.
وقال غبور: "القوانين تُلزم بإغلاق صالات العرض بحلول الساعة الخامسة مساءً، ولكن سوق السيارات في مصر يعمل عادةً في المساء. وأضف إلى ذلك، لا يشتري الناس السيارات إذا لم يتمكنوا من ترخيصها"، وقال إن مبيعات شركته في أبريل/نيسان انخفضت عما كانت عليه في فبراير/شباط بنسبة 40%، قبل أن تضرب الجائحة البلاد، واستؤنف ترخيص المركبات هذا الشهر بعد شكوى مُصنعي السيارات.
مخاوف من زيادة حالات الإصابة
ولتخفيف الأزمة الاقتصادية، تخطط الحكومة لتخفيف القيود بالسماح بإعادة فتح الفنادق للسياح المحليين، لكنها ستفرض تدابير إضافية لمنع انتشار الفيروس بين النزلاء.
لكن بعض المصريين يخشون أن يؤدي تخفيف القيود في ظل استمرار ارتفاع أعداد الحالات إلى انهيار الخدمة الصحية، وطالب آخرون، مثل منى مينا، وهي عضوة سابقة في نقابة الأطباء المصرية، بتشديد إجراءات الإغلاق خلال الأسبوعين المقبلين.
ويُشار إلى أن مصر سجّلت ما يقرب من 11 ألف حالة إصابة بفيروس كورونا و571 حالة وفاة حتى يوم الخميس 14 مايو/أيار، وهو رقم منخفض وفقاً للمعايير العالمية بالنظر إلى عدد السكان الذي يزيد عن 100 مليون نسمة، لكن الدولة لم تُجر سوى حوالي 111 ألف تحليل فيروس كورونا.
وحثت الحكومة أصحاب الشركات على الاحتفاظ بموظفيهم، وجعلته شرطاً لتلقي مساعدة الدولة. ولتخفيف الضربة، سنّت القاهرة إجراءات دعم تشمل تأجيل الضرائب ودفع بعض الرواتب في قطاع السياحة وتقديم قروض منخفضة الفائدة، وقال غبور إنه لا يعتزم تسريح الموظفين، لكنه سيعطي بعضهم إجازة وسيوقف نفقات رأس المال وتوظيف العاملين الجدد.
اقتراض من صندوق النقد
ولتعزيز مواردها المالية، عادت الحكومة إلى صندوق النقد الدولي، بعد أشهر فقط من استكمالها برنامجا مدته ثلاث سنوات بموجب اتفاقية قرض بقيمة 12 مليار دولار، وتلقّت هذه المرة 2.8 مليار دولار من تمويل الطوارئ، وتسعى للحصول على قرض جديد بموجب اتفاقية احتياطية مدتها عام واحد، بقيمة 5 مليارات دولار، بحسب تقارير صحفية محلية.
وكتب محمد أبو باشا، رئيس تحليل الاقتصاد الكلي في بنك الاستثمار الإقليمي EFG-Hermes، في مذكرة بحثية أن طلب مساعدة صندوق النقد الدولي قبل زيادة المتطلبات بدرجة كبيرة خطوة إيجابية، وقال إن مصر ستواجه نقصاً في التمويل يُقَّدر بما يصل إلى 12 مليار دولار على مدى الأشهر الـ12 أو الـ18 المقبلة، لكن لديها مخزون احتياطي سيمكنها من "التعامل مع الصدمة".
ماذا عن عمال اليومية؟
لكن التأثير على الملايين من العمال الذين يعملون باليومية والتجار الذين يعيشون على الكفاف ولا يملكون مدخرات لا يزال غير محدد، وتمنح الحكومة مليوني عامل يومي مسجل ما يعادل 32 دولاراً شهرياً لمدة ثلاثة أشهر. وسجلت الجمعيات الخيرية ارتفاعاً كبيراً في الطلب على صناديق الطعام من الأشخاص الذين فقدوا مصادر رزقهم.
يقول أحمد جابر، فني تركيب أجهزة استقبال الأقمار الصناعية في إحدى مناطق القاهرة الفقيرة، إن الطلب على خدماته توقف بالكامل. وقال أحمد الذي رُزق بأربعة أبناء: "الناس لا يشترون أجهزة التلفاز لأن لديهم أولويات أخرى الآن. وأنا لست معتاداً على الاقتراض، ولست من النوع الذي يصطف أمام أحد المساجد ليتلقى الصدقات. ولا أعرف ماذا ينتظرني".