أصبح واضحاً للعيان أن الولايات المتحدة قررت تحميل الصين مسؤولية كارثة وباء كورونا، وبوجود دونالد ترامب في البيت الأبيض ليس مستغرباً أن يكون التركيز على التعويضات المادية وليس الجانب السياسي أو القانوني، فكم المبلغ الذي يمكن أن تجد بكين نفسها مطالبة بسداده للمتضررين؟ وما السيناريو الأمريكي المتوقع لإجبارها على ذلك؟
التركيز على نشأة الفيروس
مساء أمس الأربعاء 15 أبريل/ نيسان قال ترامب إن إدارته تحاول تحديد ما إذا كان فيروس كورونا قد خرج من معمل في مدينة ووهان الصينية، مردداً ما جاء في تقرير لشبكة فوكس الإخبارية -الشبكة الأكثر دعماً للرئيس والوحيدة التي يستثنيها من هجومه على وسائل الإعلام- بشأن نشأة الفيروس القاتل في المعمل الصيني، ليس كسلاح بيولوجي ولكن بطريق الخطأ.
السيناريو الأمريكي الجديد إذاً يستبعد فكرة تعمد الصين تصنيع سلاح بيولوجي، وهذا السيناريو أكثر قبولاً لدى الرأي العام العالمي، ويمكن من تسويقه عالمياً بصورة أكثر سلاسة وهذه نقطة قد تكون حاسمة في المعركة التي يجري التحضير لها حالياً، على الرغم من كون المعركة ضد الفيروس أبعد ما تكون عن نهايتها.
وكان رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي قد قال أول من أمس إن المخابرات الأمريكية تشير إلى أن الفيروس نشأ على الأرجح بشكل طبيعي ولم يتم تخليقه في معمل بالصين، لكن لا يوجد ما يؤكد أياً من الاحتمالين.
تقرير "فوكس نيوز" وتقارير أخرى كانت قد أشارت إلى أن ضعف معايير السلامة في المعمل الذي تتم فيه التجارب المتعلقة بالفيروسات في ووهان تسبب في إصابة شخص ما بالعدوى وظهورها في سوق حيث بدأ الفيروس الانتشار.
وسُئل ترامب في مؤتمر صحفي في البيت الأبيض عن التقارير عن تسرب الفيروس من معمل ووهان فقال إنه على علم بتلك التقارير، وأضاف: "نحن نجري تحقيقاً شاملاً بشأن الوضع المروع الذي حدث".
الاتهامات الأمريكية ليست جديدة، وكان معهد ووهان لعلم الفيروسات المدعوم من الدولة قد نفى في فبراير/شباط الماضي الشائعات بشأن كون الفيروس ربما تم تخليقه في أحد معامله أو أنه تسرب من أحد المعامل.
واليوم الخميس 16 أبريل/نيسان أعاد المتحدث باسم الخارجية الصينية تأكيد نفس النفي، مستشهداً بمنظمة الصحة العالمية التي كانت قد أعلنت أنها لم تجد أي دليل على أن فيروس كورونا تم إنتاجه في أحد المعامل، وهذه النقطة بالتحديد -الاستشهاد بمنظمة الصحة العالمية- ربما لا يكون لها وزن في ظل الانتقادات الأمريكية للمنظمة والتي وصلت حد إعلان ترامب تعليق التمويل الأمريكي لها.
وزير الخارجية الأمريكي ظهر على شاشة "فوكس" في أعقاب المؤتمر الصحفي لترامب، وركز على نقطة الشفافية المطلوبة من الجانب الصيني، كما يفترض بممثل الدبلوماسية أن يفعل؛ فقال بومبيو: "نعلم أن هذا الفيروس قد نشأ في ووهان بالصين"، ومعهد علم الفيروسات على بعد بضعة أميال من السوق، وأضاف: "نريد من الحكومة الصينية أن تتحلى بالوضوح، وتساعد في تفسير دقيق لكيفية انتشار الفيروس. ينبغي للحكومة الصينية أن تعترف".
التركيز على الجانب الاقتصادي
النظرية الأمريكية الجديدة لا تركز على فكرة السلاح البيولوجي التي لن تجد آذاناً صاغية إلا إذا توفر دليل مادي حاسم، وهو أمر يبدو مستحيلاً، أما التركيز على نشأة الفيروس في مدينة ووهان وإخفاء الصين حقيقته في مراحله الأولى، فالشواهد والأدلة عليها كثيرة ومتعددة المصادر والعالم كله يتحدث عنها بالفعل، بحسب تقرير الغارديان البريطانية اليوم، وبالتالي يسهل جمع الأصوات المؤيدة لتحميل الصين المسؤولية عن الكارثة التي حلت بالعالم، بحثاً عن تعويضات مادية للمتضررين.
وقد تم رفع قضية تعويض بالفعل في أكثر من ولاية أمريكية، من جانب مكاتب قانونية تجمع توقيعات وتفويض من مواطنين أصيبوا بالفيروس أو فقدوا أفراداً من أقاربهم ووصل عددهم إلى أكثر من 5000 في ولاية فلوريدا فقط، يطالبون بتعويضات مادية من الحكومة الصينية بسبب أضرار فيروس كورونا، وهذا العدد خلال أقل من شهر فقط، ومنتظر أن يرتفع بصورة أكبر بكثير، بحسب تقرير لموقع VOANEWS. يذكر هنا أن عدد حالات الإصابة بالفيروس حول العالم -وقت كتابة هذا التقرير اليوم الخميس 16 أبريل/نيسان- وصل إلى مليونين و100 ألف حالة والوفيات تخطت 136 ألفاً، نصيب الولايات المتحدة منها نحو 645 ألف إصابة و28500 حالة وفاة.
وهناك دعوات مماثلة تم رفعها بالفعل في ولايتي نيفادا وتكساس، وأرسلت مجموعة بيرمان للمحاماة التي رفعت الدعوى في فلوريدا بياناً لموقع "فويس أوف أمريكا" قالت فيه: "قضيتنا معنية بهؤلاء الذين تعرضوا لأضرار جسمانية جراء التعرض للفيروس.. كما أنها تتناول النشاط التجاري للصين فيما يخص تجارة الأسواق الرطبة".
والدعوى القضائية هنا تقع تحت قانون حصانات السيادة الأجنبية كأساس قانوني للمطالبة بالتعويض، لكن أستاذة القانون في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، تشيمين كايتنر، لا تتفق مع الأساس القانوني للدعوى ضد الصين على أساس أن القانون ينطبق على الأضرار الشخصية الناتجة عن أفعال وقرارات المسؤولين الصينيين على الأراضي الأمريكية وهو ما لم يحدث: "لا يمكنك مقاضاة مسؤولين أجانب على قرارات سياسية اتخذوها".
لكن الجدل القانوني هنا ربما لا يمثل عائقاً مستحيلاً، فالكونغرس الأمريكي يمكنه أن يسن تشريعاً يفتح الباب أمام المواطنين الأمريكيين لمطالبة الصين بتعويضات مادية من جراء أضرار فيروس كورونا، على غرار قانون جاستا الخاص بإمكانية مقاضاة السعودية من جانب أقارب ضحايا أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية في نيويورك.
سيناريو الإفلاس
الواقع أن السيناريو الأمريكي لعقاب الصين يبدو وكأنه يتم إعداده على نار هادئة، عكس طبيعة ترامب تماماً، وكان موقع ناشيونال ريفيو الأمريكي قد نشر تفاصيل هذا السيناريو، الإثنين 6 أبريل/نيسان، تحت عنوان: "كيف يمكن أن نحاسب الصين؟ منظمة الصحة العالمية تحابي بكين، لكننا لسنا مضطرين لذلك".
وكان واضحاً من التقرير أن مسألة اللجوء للقانون الدولي والمنظمات الدولية لاستصدار حكم دولي بإدانة الصين لن يكون مجدياً، لأسباب جيوسياسية لا تخفى على أحد؛ فالصين تحظى بتعاطف القارة الإفريقية بشكل شبه كامل وأيضاً أوروبا الشرقية وكثير من الدول لسبب بسيط يرجع لاستراتيجية الحزام والطريق التي تبناها الرئيس شي بينغ جين وجعلها محوراً لبسط النفوذ الصيني على الساحة الدولية.
كما أن هيئات دولية مثل منظمة الصحة العالمية مثلاً -حجر الأساس في أي تحرك دولي بشأن كورونا ضد الصين- يراها الأمريكيون واقعة تحت سيطرة بكين بشكل كامل، ومجلس الأمن تمتلك فيه الصين حق الفيتو، وكلها أمور تجعل أي معركة سياسية أو قانونية على المستوى الدولي ليست فقط غير محسومة ولكنها تهدد أيضاً باستقطاب دولي على الأرجح سيعيد أجواء الحرب الباردة، وهذا ما لا يريده ترامب ولا يتفق مع سياساته.
هذه المعطيات ربما تفسّر التحول الواضح في موقف ترامب من الصين والذي استبقه بوقف التمويل عن منظمة الصحة العالمية، إضافة لهدوئه الواضح والحديث عن "تحقيق في مصادر المعلومات حتى الوصول للحقيقة" وكلها أمور غير "ترامبية" بالطبع.
التقرير عدّد الطرق المتاحة قانونياً وسياسياً من خلال النظام الدولي الحالي؛ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لا يمكنه إدانة الصين، فهي تتمتع بحق الفيتو شأنها شأن روسيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة (الأعضاء الخمسة الدائمين)، وحتى لو نجحت الدول الكبرى في رفع دعوى قانونية أمام المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية وصدر بالفعل حكمٌ بإدانة الصين، فإنها ببساطة ستتجاهله.
وبالعودة لتقرير "العقاب المالي الأمريكي" فنجد أنه أيضاً متسق تماماً مع "الحرب التجارية بين البلدين"، ويتمثل هذا العقاب في إجراءات وبدائل متعددة؛ منها تجميد أصول وأموال الشركات الصينية المملوكة للدولة، لإجبار بكين على دفع تعويضات، وفي حال لجأت الصين لمقاضاة تلك الدول يتم إذاً الاحتكام للقانون الدولي فيما يخص الوباء ومسؤولية الصين عنه.
لكن ربما تكون تلك الخطوة الأخيرة في سيناريو العقاب الأمريكي، لأنها قد تؤدي لوضع الصين في زاوية ضيقة فيبرز الخيار العسكري الذي لا يمكن استبعاده، فالصين دولة نووية، لكن الأوقع هو فتح الباب من خلال الكونغرس، أمام المواطنين لمقاضاة الصين أمام المحاكم الأمريكية، على أساس أن السلطات الصينية أخفت حقيقة الفيروس عن العالم ما أدى لتحوّله لجائحة بدلاً من التصدي له في مهده.
هذا السيناريو سيفتح باب الجحيم على بكين لأننا هنا نتحدث عن تعويضات تريليونية ربما تؤدي بالفعل -حال تحققها لإفلاس الصين- فالدعوى المرفوعة في فلوريدا وحدها تطالب بتعويضات قدرها 1.3 تريليون دولار، وعدد المدعين فيها 5000 مواطن فقط، فماذا عن 650 ألف مواطن إذاً؟ والقصة هنا مستمرة وهناك نحو 20 ألف مصاب يومياً وأكثر من 2000 حالة وفاة في الولايات المتحدة فقط.
لكن هناك دعوى واحدة ربما تتسبب في كارثة اقتصادية مدمرة للصين حال الحكم فيها لصالح المدعين، حيث رفعت مجموعة فريدوم ووتش الأمريكية وشركة باظ فوتوز ومقرها تكساس دعوى تعويض ضد الصين تطالب بـ 20 تريليون دولار -المبلغ أكبر من الناتج المحلي للصين ككل- وشملت لائحة الاتهامات في الدعوى تسهيل القتل والتستر عليه والتآمر لإصابة وقتل مواطنين أمريكيين، والمتهمين في الدعوى هم الحكومة الصينية برئاسة شي، وقائد الجيش الصيني، ومعهد ووهان للفيروسات ومديره شي زينغلي وغيرهم.