قبل شهر، تعرَّض الحراك السوداني لهجوم عنيف، وأصابته حالة من الفوضى، ولجأ المتظاهرون إلى الاختباء، بعد أن اجتاحت قوات الدعم السريع ساحة الاعتصام وسط الخرطوم، وأطلقت النار على عشرات الأشخاص، ونهبتهم، واغتصبتهم، وقُطع الإنترنت، وحتى الجثث كانت تُنتشل من نهر النيل.
ثم أقدم قادة الاحتجاج وأعداؤهم العسكريون، الأسبوع الماضي، على عمل غير اعتيادي: جلسوا في الغرفة نفسِها وجهاً لوجه، وفي غضون يومين توصَّلوا إلى اتفاق لتقاسم السلطة لإدارة السودان، حتى يصبح من الممكن إجراء الانتخابات في فترة تزيد قليلاً عن ثلاث سنوات.
ما الذي حصل لقوى التغيير؟
تنازلات كبيرة: مع أن تفاصيل الاتفاق لا تزال قيد الإعداد، فإنَّه يمنح شعبَ واحدةٍ من أكبر الدول الإفريقية، وأهمها من الناحية الاستراتيجية أملاً ضعيفاً في الانتقال إلى الديمقراطية، بعد 30 عاماً من الديكتاتورية حكم خلالها الرئيس السابق عمر حسن البشير، الذي أُطيح به في أبريل/نيسان 2019.
وكان لِزاماً على قادة الاحتجاج المشاركين في المفاوضات تقديم تنازلات كبيرة، إذ سيدير جنرالٌ بالجيش شؤون السودان لأول 21 شهراً من الفترة الانتقالية، ثم يخلفه مدني لمدة 18 شهراً، لكنّ كثيرين يشكِّكون في أن الجيش قد يفكر في تقاسم السلطة يوماً. والآن، أصبح المجلس الحاكم يضمُّ خمسةَ مدنيين، وخمسة قادة عسكريين والعضو الحادي عشر توافق الطرفان عليه.
دور الوسطاء: وبينما كان وسطاء الاتحاد الإفريقي يضطلعون بمهمة التوصل اتفاق تقاسم السلطة النهائي، أُبرم هذا الاتفاق في أسبوع حافل بتظاهرات احتجاجية جامحة يُحرِّكها الغضب الشعبي إزاء الوحشية العسكرية، بالإضافة إلى سلسلة من الجلسات الدبلوماسية المكثفة خلف الكواليس، التي توسَّط فيها "تحالف استثنائي يضم القوى الأجنبية التي كانت في السابق، على خلاف حول مصير السودان"، كما تقول صحيفة New York Times الأمريكية.
الاتفاق بدأ في التبلور خلال اجتماع سري
خلف الكواليس: تقول الصحيفة الأمريكية، إن دبلوماسيين من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات اجتمعوا مع قادة عسكريين وقادة للاحتجاجات، في أول اجتماع لهم منذ ارتكاب الجيش لمذبحة 3 يونيو/حزيران، التي قُتل فيها 128 شخصاً على الأقل، وفقاً لأطباء.
وحتى ذلك الحين، كان السعوديون والإماراتيون يدعمون علانية الجيش السوداني في مواجهته مع المدنيين، فيما بدا أنه يشير إلى قلقهم من أن الثورة يمكن أن تشكِّل سابقةً خطيرةً في حكمهم الاستبدادي. وأيَّد مسؤولون أمريكيون وبريطانيون صراحة المتظاهرين ومطالبتهم بالديمقراطية.
لكن يوم السبت الماضي 29 يونيو/حزيران، التقى الدبلوماسيون معاً لاستضافة اجتماع سرّي في منزل أحد رجال الأعمال السودانيين البارزين في الخرطوم، وهو اجتماع يهدف إلى كسر الجمود بين الطرفين.
توترٌّ شديد: بحسب نيويورك تايمز، كان الوضع شديد التوتر. ووجد زعماء الاحتجاج أنفسَهم جالسين أمام اللواء محمد حمدان، قائد قوات الدعم السريع شبه العسكرية، المتهم بإصدار الأوامر بشنِّ الحملة الوحشية في الخرطوم يوم 3 يونيو/حزيران، التي أصابت الحركة الاحتجاجية بالصدمة. وفي الأسابيع التي تلت ذلك، أصبح اللواء حمدان محط كراهية المحتجين، في الوقت نفسه الذي تنتشر فيه قواته في جميع أنحاء المدينة لتأكيد سلطته المتنامية.
وأفصح مسؤولون غربيون وسودانيون، لم تُحدَّد هويتهم بسبب الطبيعة الحساسة للمفاوضات، عن تفاصيل الاجتماع، الذي كشف عنه لأول مرة المبعوث الأمريكي إلى المنطقة، دونالد بوث، في مقابلة مع إحدى الصحف الإماراتية في الأول من يوليو/تموز.
السعودية والإمارات تبحثان عن نهج أكثر "دبلوماسية" مع السودانيين
تغيير الخطط: كان الاهتمام المفاجئ للسعوديين والإماراتيين بجمع الطرفين معاً مدفوعاً بتكتيكات اللواء حمدان الوحشية، التي بدا أنها قد تجاوزت الحدود، حتى بالنسبة لبلدين واجها سيلاً من الانتقادات لسلوك قواتهما في اليمن.
وقد أدركوا أيضاً، وفقاً لمسؤول غربي، أن الكثير من السودانيين انقلبوا على الجنرال حمدان، مما أجبر دول الخليج على دعم نهج "أكثر دبلوماسية" إلى جانب استمرار دعمهم للجيش.
وكان الحكام السعوديون والإماراتيون يدعمون علناً جنرالات السودان، متعهِّدين بتقديم 3 مليارات دولار للمساعدة في تعزيز قواتهم. وقد رحَّب ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، ونظيره الإماراتي، محمد بن زايد، بجنرالات السودان في عاصمتي بلديهما.
وكان السعوديون والإماراتيون مدفوعين أيضاً بالرغبة في حماية جهودهم الحربية في اليمن. إذ تولى اللواء حمدان، منذ عام 2015، قيادة قوة كبيرة من الجنود السودانيين الذين يقاتلون إلى جانب التحالف الذي تقوده السعودية ضد الحوثيين في اليمن.
لكن مع ارتفاع حصيلة القتلى بعد المذبحة التي وقعت في الخرطوم في بداية يونيو/حزيران، زعم مسؤولون سعوديون وإماراتيون أنهم "مصدومون" من الإشارات القائلة إنهم قد "أعطوا الضوء لانتهاج العنف". ومن ثم، فقد انضمّوا بهدوء إلى "الجهود الدبلوماسية الغربية"، لإيجاد حلٍّ للأزمة قائم على المفاوضات.
وفي حين أنَّ الاجتماع المنعقد في منزل رجل الأعمال قد جمع الطرفين معاً، فلم تكن هناك ضمانات لنجاحه. توقف الاجتماع لفترة راحة، وقبل أن يُستأنف مرة أخرى، داهمت قوات اللواء حمدان مكاتب المعارضة في الخرطوم، وصار من المستحيل توقع ما قد يحدث مرة أخرى.
المحتجون يقلبون الطاولة: لكن في اليوم التالي، غَيَّر استعراض باهر لقوة الشعب مجريات الأمور. فقد ملأ مئات آلاف من السودانيين، نحو مليون شخص وفقاً لبعض التقديرات، شوارع السودان الأحد الماضي، 30 يونيو/حزيران، للمرة الأولى بعد إراقة الدماء التي وقعت في الثالث من الشهر نفسه، في صيحة غضب ضد الهيمنة العسكرية. وقال مسؤولون غربيّون إنَّ لواءات السودان "اندهشوا" من حجم المظاهرات وقوتها.
وقُتل 11 شخصاً على الأقل خلال يوم الأحد، لكن هذا الحشد الشعبي قد بدَّد مزاعم اللواءات بأنَّ المظاهرات تتضاءل، أو بأنها تمثل جزءاً واحداً فقط من الشعب. ومن ثم، أُجبر اللواء حمدان على الحديث.
في يوم الأربعاء، 3 يوليو/تموز، اتفق قادة المعارضة على التخلي عن شروطهم الاستباقية وفتح المجال لإجراء محادثات لمدة 72 ساعة، هذا وفقاً لما قاله عدد من المسؤولين.
تفاصيل الاتفاق غير المعلن بعد
اتفاق قيد التطوير: وفي الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة، 5 يوليو/تموز، أعلن وسيط الاتحاد الإفريقي محمد الحسن لبات، أنَّهم توصلوا إلى اتفاق. انطلقت أبواق السيارات في جميع أنحاء الخرطوم؛ حيث احتفل المواطنون في الشوارع مبدين ارتياحهم لتخفيف حدة الأزمة، على الأقل حتى الآن.
هذا، وسيتم الاتفاق على التفاصيل الكاملة للتسوية في اتفاق مكتوب لا يزال قيد التطوير، ومن المتوقع أن يُوقَّع بداية الأسبوع المقبل. يقول مسؤولون غربيون وسودانيون إنهم يتوقعون أن يُعيَّن اللواء عبدالفتاح البرهان، قائد المجلس الانتقالي، زعيماً انتقاليّاً للسودان.
وستُشكّل حكومة تكنوقراط للعمل تحت إشراف المجلس الحاكم، في حين نُحيت جانباً الاقتراحات السابقة بوجود كيان تشريعي يهمين عليه المدنيون.
لا يزال المشهد ضبابياً: وكثير من الأمور لا تزال غير واضحة. فالعسكريّون لم يوضحوا بعد متى ستعود خدمة الإنترنت، وهو مطلب أساسي للمتظاهرين. وأيضاً، فهناك لبس بخصوص ما إذا كانت التحقيقات النزيهة التي وعد بها بشأن من قُتلوا يوم 3 يونيو/حزيران ستجريها جهة حقوق إنسان تابعة للاتحاد الإفريقي أم أخرى سودانية.
وليس من المؤكد ما سيحدث في حال أشارت التحقيقات بأصابع الاتهام بالقتل إلى اللواء حمدان، الشهير بحمديتي، وهي نتيجة قد تفضي بالعملية السياسية إلى اضطرابات. ومع أن قواته قلَّلت من ظهورها في شوارع الخرطوم مؤخراً، فليس هناك شكٌّ في أنها تتولى السيطرة على الأمور.
كما أن طموحاته السياسية تمثل لغزاً: هل يسعى إلى إدارة البلاد، أم يكتفي بالحفاظ على مصالحه الاقتصادية مثل مناجم الذهب في المنطقة الغربية بدارفور؟
هل تنازل المدنيون كثيراً؟
مزيد من الوقت للعسكر: يقول بعض المحللين إنَّ المدنيين قد تنازلوا كثيراً. إذ يرى بايتون كنوبف، مستشار البرنامج الإفريقي في معهد السلام بالولايات المتحدة أنه "ليس هناك أي إشارة أن هذا يعني إعطاء سلطة للمدنين فيما يتعلق بالموارد، أو صنع القرار، أو خدمات الأمن"، مضيفاً: "أنه فقط يعطي مزيداً من الوقت والمساحة للعسكريين وحمديتي لتعزيز قوتهم".
الصالح العام: إلا أنَّ هناك آخرين يقولون إن هذه خطوة أولى ضرورية. يقول أحمد سليمان، وهو متخصص في الشأن السوداني في معهد سياسات تشاتام هاوس: "يرى بعضٌ من المعارضة حمديتي خطاً أحمر، لكن ليست هناك آلية لتنحيته من الصورة الآن، أو في المستقبل القريب. لقد أصبحت القضية الآن هي التطلع إلى الصالح العام، من أجل تحقيق الديمقراطية الشاملة".
أضاف سليمان أنه إذا جرى الانتهاء من الاتفاقية في عطلة الأسبوع هذه، فإنها ستكون بمثابة تخطّي العقبة الأولى لإحلال السلام في السودان، مضيفاً: "هو عمل صعب، وقد بدأ لتوه".