تقنيات “المهام القذرة”.. “عربي بوست” يتتبّع استخدام أدوات تجسّس ومراقبة إسرائيلية في نصف دول العالم؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/12/22 الساعة 06:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/12/22 الساعة 06:53 بتوقيت غرينتش
أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية تُستخدم في نصف دول العالم - عربي بوست

تقف شركات إسرائيلية خاصة خلف ترسانة عابرة للحدود من تقنيات المراقبة والاختراق والتجسّس، جرى استخدامها في أكثر من نصف دول العالم، ما في ذلك دول تُصنَّف ضمن الأنظمة الديمقراطية، وتمتد استخدامات التقنيات من التتبّع الرقمي إلى مهام ترتبط بالقمع وانتهاك الخصوصية، فيما يُظهر تحليل نشاط الشركات أن عدداً منها أُسِّس أو يُدار على يد إسرائيليين خدموا سابقاً في المؤسستين العسكرية والاستخباراتية.

ويتتبع "عربي بوست" نشاط عشرات الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال المراقبة والاستخبارات، ورصد بيانات تسجيلها للتأكد من أنها لا تزال نشطة حتى الآن، كما تتبع خلفيات مؤسسيها ومديريها، إلى جانب تحديد المناطق التي استُخدمت فيها التقنيات الإسرائيلية.

تم استخدام أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية في معظم قارات العالم، في مؤشر على أن نشاط هذه الشركات لا يقتصر على كونه عملاً تجارياً تقليدياً فحسب، بل يشكّل إحدى أدوات تعزيز النفوذ الإسرائيلي دولياً، عبر بوابة الأمن السيبراني والتكنولوجيا الأمنية العابرة للحدود.

هذا الانتشار الواسع للتقنيات الإسرائيلية لا يجري بعيداً عن أعين السلطات الإسرائيلية، إذ تخضع صادرات تقنيات المراقبة والاختراق والأمن السيبراني لآلية ترخيص مشددة، تفرض الحصول على موافقة مسبقة من وزارة الدفاع من خلال "وكالة مراقبة الصادرات الدفاعية"، ووفق هذه الآلية، لا يُسمح لأي شركة إسرائيلية بتسويق أدوات متقدمة في هذه المجالات خارج البلاد من دون ضوء أخضر رسمي.

وتمنح هذه التقنيات الجهات التي تستخدمها قدرة واسعة على النفاذ إلى كمٍّ هائل من البيانات بوسائل غير مشروعة، تشمل الاختراق والتجسّس، وفي بعض الحالات لا يقتصر استخدامها على استهداف أفراد بعينهم، بل يتوسع ليطال أنماطاً من المراقبة الشاملة للسكان، كما هو الحال في الأراضي الفلسطينية.

أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية في نصف دول العالم 

أظهرت البيانات المتاحة أن تقنيات وبرمجيات المراقبة والتجسّس التي طوّرتها شركات إسرائيلية خاصة استُخدمت في ما لا يقل عن 102 دولة حول العالم، في واحدة من أوسع حالات انتشار أدوات أمنية سيبرانية عابرة للحدود في العصر الرقمي.

يُبيّن تحليل التوزيع الجغرافي لاستخدام التقنيات الإسرائيلية تصدّر قارة آسيا للمشهد، مع تسجيل استخدام التقنيات الإسرائيلية في 35 دولة داخل القارة، تليها أوروبا بـ31 دولة، ثم إفريقيا بـ20 دولة، فيما سُجِّل الاستخدام في 8 دول في أمريكا الشمالية، و7 دول في أمريكا الجنوبية، إضافة إلى دولة واحدة في أوقيانوسيا.

هذا الانتشار الواسع يعكس كيف باتت تقنيات المراقبة والتجسّس الإسرائيلية جزءاً من البنى الأمنية الداخلية لدول ذات أنماط حكم متباينة، تشمل أنظمة سلطوية تعتمد الرقابة المكثفة على السكان، إلى جانب دول ديمقراطية تُدرج استخدام هذه الأدوات تحت عناوين الأمن، ومكافحة الجريمة، ومواجهة الإرهاب.

وفي عدد من الحالات، لم يقتصر اعتماد الدول على تقنية واحدة فقط، بل توسّع ليشمل منتجات وأنظمة صادرة عن أكثر من شركة إسرائيلية. في الهند مثلاً، جرى استخدام ما لا يقل عن 4 تقنيات مختلفة طوّرتها شركات Cellebrite وCognyte وNice وNSO Group، تُوظَّف في مجالات استخراج بيانات الهواتف، واختراق الأجهزة، وتنفيذ عمليات مراقبة رقمية.

وتشير بيانات "منظمة الرقابة" التي تتبع انتشار وتوسع صناعة المراقبة والتجسس حول العالم إلى أن دولة مثل المكسيك استُخدمت فيها 6 تقنيات إسرائيلية، في مجالات الاختراق، واستخراج البيانات، وتتبع المواقع، واعتراض الاتصالات.

وحظيت تقنيات بعض الشركات الإسرائيلية بانتشار عالمي لافت، يفوق ما حققته شركات أخرى في القطاع نفسه. وتبرز في هذا السياق مجموعة NSO الإسرائيلية، التي وجدت نفسها في قلب فضيحة دولية عام 2021، عقب كشف تحقيقات استقصائية عن استخدام برمجيتها "بيغاسوس" في التجسّس على صحفيين وناشطين ومسؤولين دوليين.

استُخدمت تقنيات المجموعة في ما لا يقل عن 51 دولة حول العالم، تتوزع في 4 قارات: آسيا، وإفريقيا، وأوروبا، وأمريكا الشمالية.

وينطبق الأمر نفسه على شركة Cellebrite، المتخصصة في تطوير أدوات التجسّس الرقمي واختراق الأجهزة، إذ تشير البيانات إلى أن منتجاتها وُظِّفت ضد أفراد في ما لا يقل عن 50 دولة حول العالم.

ويُظهر تحليل البيانات أن أهداف استخدام التقنيات الإسرائيلية للمراقبة والتتبع والتجسّس شهدت اختلافات باختلاف القارات التي استُخدمت فيها، وهو ما توضحه الخريطة المرفقة.

أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية
أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية تُستخدم في نصف دول العالم تقريباً – عربي بوست

تقنيات إسرائيلية لتنفيذ "المهام القذرة"

أظهر تتبّع نشاط الشركات الإسرائيلية العاملة في مجالي المراقبة والتجسّس، والتي لا تزال تنشط حتى اليوم ولم تُستحوذ عليها جهات أو شركات أجنبية، وجود ما لا يقل عن 25 شركة إسرائيلية تعمل في هذا القطاع.

أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية
شركات تُنتج أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية تُستخدم في نصف دول العالم تقريباً – عربي بوست

تُعدّ الأراضي الفلسطينية المحتلة أكثر البقاع الجغرافية كثافة في استخدام التقنيات الإسرائيلية للمراقبة والتجسّس والتتبّع، وتُظهر البيانات توظيف ما لا يقل عن 19 تقنيةً ونظاماً إسرائيلياً في هذا السياق.

وتشير نشاطات الشركات الإسرائيلية التي وردت أسماؤها إلى أن الأراضي الفلسطينية شكّلت، على مدى سنوات، بيئة اختبار وتطبيق مركزية لهذه التقنيات، قبل انتقالها لاحقاً إلى أسواق دولية أخرى، لا سيما في ما يتعلق بتقنيات التعرّف على الوجوه، واستخدام الطائرات المسيّرة لتحديد الأهداف، واعتراض الاتصالات.

كذلك، برزت مراقبة المهاجرين واللاجئين كأحد مجالات إعادة توظيف هذه التقنيات. ففي اليونان، استُخدمت أنظمة تحليل الفيديو والتعرّف على السلوك التي طوّرتها شركات إسرائيلية داخل مخيمات اللاجئين، ضمن نظام "Centaur" المموّل أوروبياً، والذي تعرّض لانتقادات حقوقية بسبب خلقه بيئات مراقبة شبيهة بالاحتجاز.

وفي الولايات المتحدة، استُخدمت تقنيات مثل "FalcoNet" في إطار عمليات مراقبة المهاجرين، فيما لجأت دول أخرى إلى أدوات إسرائيلية لمراقبة الحدود، وتعقّب التحركات البشرية، وإدارة الهجرة بوسائل رقمية مكثّفة.

كما تُظهر المعطيات أن بعض التقنيات الإسرائيلية استُخدمت في مراقبة المهاجرين واللاجئين داخل أوروبا، وذكرت منظمة I Have Rights أن مهاجرين في إيطاليا خضعوا للمراقبة عبر نظام يعمل بالذكاء الاصطناعي، كان لشركة إسرائيلية تُدعى Viisights دور في تطويره.

من الجيش والاستخبارات إلى صناعة المراقبة 

ترتبط صناعة تقنيات المراقبة والتجسّس الإسرائيلية بشكل ملحوظ بالقطاع السيبراني داخل المؤسستين العسكرية والاستخباراتية، وهو ما يتضح من مراجعة مسارات تأسيس الشركات الخاصة العاملة في هذا المجال، إذ إن عدداً من مؤسسي هذه الشركات انتقلوا مباشرة من الخدمة في وحدات عسكرية واستخباراتية متخصصة إلى سوق التكنولوجيا الأمنية الخاصة.

تبرز الوحدة 8200 الاستخباراتية في الجيش الإسرائيلي بوصفها الحاضنة الأهم لهذه الصناعة، ووفقاً لما نشرته صحيفة "هآرتس"، فإن نحو 80% من مؤسسي ما يقارب 700 شركة ناشئة سيبرانية في إسرائيل هم من قدامى وحدات الاستخبارات العسكرية، وعلى رأسها الوحدة 8200.

وتُعرف هذه الوحدة بأنها الذراع الرئيسية للحرب الإلكترونية والاستخبارات السيبرانية، والمسؤولة عن اعتراض الاتصالات، وتحليل البيانات، وتطوير أدوات اختراق متقدمة، وهي المهارات ذاتها التي تشكّل الأساس التقني لشركات المراقبة الخاصة.

لا يقتصر هذا الدور على الوحدة 8200 وحدها، إذ تؤدي الوحدة 81 – الوحدة التكنولوجية التابعة لمديرية الاستخبارات العسكرية – دوراً مكمّلاً في هذه المنظومة. ففي حين تركز الوحدة 8200 على البرمجيات واستخبارات الإشارات، تختص الوحدة 81 بتطوير حلول تكنولوجية متقدّمة تشمل العتاد التقني وأدوات سيبرانية مخصّصة لدعم العمليات الخاصة.

ورصد "عربي بوست" عدداً من الشركات التي جاء مؤسسوها من خلفيات استخباراتية وعسكرية، مثل شركة BeeSense، المتخصصة في تطوير أنظمة المراقبة وجمع المعلومات الاستخباراتية.

تأسست الشركة على يد إسرائيل كاشر، الذي سبق أن خدم في وحدة تقنية تابعة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية. وتشير تقارير إلى أن الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) استعانت بتقنيات الشركة في سياق مراقبة المهاجرين، في مثال يعكس انتقال هذه الأدوات من ساحات الاستخدام العسكري إلى إدارة الحدود والهجرة.

وتُعدّ مجموعة NSO المثال الأكثر شهرة وإثارة للجدل في هذا القطاع، فقد أسسها نيف كارمي، وأومري لافي، وشاليف هوليو، وجميعهم خدموا سابقاً في الوحدة 8200، وطوّرت المجموعة أدوات لاختراق الهواتف المحمولة، أبرزها "بيغاسوس" و"سيركلز"، التي استُخدمت في عشرات الدول حول العالم لأغراض المراقبة والتجسّس.

كذلك شغلت المتحدثة باسم الشركة، أرييلا بن أبراهام، منصب لواء سابق ورئيسة الرقابة العسكرية الإسرائيلية في وقت سابق.

أثار سوء استخدام تقنيات إسرائيلية غضباً رسمياً أمريكياً من بعض الشركات الإسرائيلية، وأصدرت واشنطن عقوبات ضد بعضها.

في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أدرج مكتب الصناعة والأمن (BIS) التابع لوزارة التجارة الأميركية شركتَي NSO Group وCandiru على القائمة السوداء، بسبب انخراطهما في أنشطة وصفتها واشنطن بأنها تتعارض مع الأمن القومي أو مصالح السياسة الخارجية للولايات المتحدة.


نص القرار على أن الشركتين طوّرتا وزوّدتا حكومات أجنبية ببرمجيات تجسّس استُخدمت لاستهداف مسؤولين حكوميين، وصحفيين، ونشطاء، وأكاديميين، وموظفي سفارات.

أدوات تجسس ومراقبة إسرائيلية
في العام 2021 أدرج مكتب الصناعة والأمن (BIS) التابع لوزارة التجارة الأميركية شركتَي NSO Group وCandiru على القائمة السوداء

اقتصاد التجسس والمراقبة في إسرائيل 

يشكّل قطاع الصناعات الدفاعية والخدمات السيبرانية أحد الأعمدة الرئيسية في الصناعات الدفاعية الإسرائيلية، إذ تسعى تل أبيب باستمرار إلى رفع قيمة صادراتها في هذا المجال، ويجري ذلك، في كثير من الحالات، عبر تسويق الأسلحة والتقنيات التي جرى اختبارها ميدانياً على الأراضي الفلسطينية، باعتبارها منتجات خضعت لتجربة عملية في "بيئة حرب واقعية"، وهو ما يُقدَّم للدول المستورِدة كدليل على فعاليتها وجدواها.

وفي عام 2024، سجّلت إسرائيل رقماً قياسياً غير مسبوق في صادراتها الدفاعية، بلغ 14.7 مليار دولار. ورغم استحواذ الصواريخ وأنظمة الدفاع الجوي على الحصة الأكبر من هذه الصادرات، فإن أنظمة الاستخبارات والتقنيات السيبرانية تمثل بدورها جزءاً مهماً من هذا السوق.

وتُظهر أرقام رسمية إسرائيلية أن حصيلة الصادرات الدفاعية في عام 2024 توزعت على النحو التالي:

– 8 % لصناعات الأقمار الصناعية وأنظمة الفضاء.

– 8 % للرادارات وأنظمة الحرب الإلكترونية.

– 8 %  للطائرات المأهولة وأنظمة الطيران.

– 6 % لأنظمة المراقبة.

– 4 %لأنظمة الاستخبارات والمعلومات والأنظمة السيبرانية.

ونظراً لضخامة القطاع الإسرائيلي في مجال صناعة المراقبة والتجسس، تجذب الشركات الإسرائيلية الناشئة في هذا القطاع تمويلاً ضخماً، بحسب ما تظهره تقارير الصحافة الإسرائيلية.

موقع calcalistech الإسرائيلي ذكر أنه في عام 2024، جمعت الشركات السيبرانية الإسرائيلية 3.79 مليارات دولار من رؤوس الأموال الخاصة، بزيادة قدرها 56% مقارنة بعام 2023.

وفي مؤشر إضافي على التبنّي الرسمي والدعم الحكومي لهذه الصناعات، أشاد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في ديسمبر/ كانون الأول 2025، بمكانة إسرائيل في قطاع الصناعات السيبرانية.

قال حينها: "من حيث الاستثمارات للفرد، نتقدم بفارق كبير على كل دولة أخرى، وحتى بالأرقام المطلقة فإن المستوى مرتفع جداً"، مشيراً إلى أن إسرائيل تعتزم التحرك بالنهج نفسه والأهداف ذاتها في مجال الذكاء الاصطناعي.

وفي ظل غياب رقابة دولية فعّالة على صادرات تقنيات التجسس والمراقبة والاختراق الإسرائيلية، تواصل إسرائيل تسويق هذه التقنيات بوصفها "ابتكارات" مُجربة ميدانياً.

وبينما تُصدَّر هذه المنتجات تحت عناوين الأمن ومكافحة الجريمة والإرهاب، تكشف خرائط انتشارها وخلفيات مطوّريها وطبيعة عملها عن منظومة تتجاوز، تعمل في فراغ رقابي يسمح بتمدد المراقبة العابرة للحدود دون مساءلة حقيقية، فيما يبقى الثمن الحقيقي مدفوعاً من حقوق الأفراد وخصوصيتهم.

تحميل المزيد