سد النهضة وتغيّر المناخ.. “عربي بوست” يتتبع بالبيانات كيف تواجه مياه مصر تهديداً مزدوجاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/19 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/19 الساعة 08:56 بتوقيت غرينتش
يمثّل سد النهضة مع التغيّر المناخي المقبل تحدياً كبيراً بالنسبة إلى مصر – "عربي بوست"

تثير توقعات المناخ في مصر للعقدين المقبلين على الأقل، احتمالات لزيادة تأثر مصر سلبياً ببناء إثيوبيا سد النهضة، الذي شكّل محور خلاف مستمر بين القاهرة والخرطوم من جهة، وأديس أبابا من جهة أخرى، وسط خشية مصر من أن يؤثر السد على حصتها التاريخية من مياه النيل، الذي يمثل شريان الحياة لـ104 ملايين مصري.

تُشير بيانات تتبعها "عربي بوست" من البنك الدولي، ومراصد التغير المناخي، بالإضافة إلى نتائج من أبحاث علمية، إلى أن مصر مقبلة، كعديد من الدول في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، على مزيد من الجفاف وارتفاع في درجات الحرارة، ما سيؤدي إلى زيادة في تبخر المياه، وتشكيل ضغط أكبر على الموارد المائية.

وعلى الرغم من أن الآثار الفعلية لبناء سد النهضة وملئه لم تظهر بشكل واضح في مصر حتى الآن، فإن المؤشرات المناخية للسنوات المقبلة تظهر أن التأثير قد لا يكون لحظياً، بل تدريجياً ومتنامياً مع مرور الوقت.

تغيّرات مناخية تعمّق الأزمة

تعتمد مصر بنسبة 97% على المياه القادمة من خارج حدودها، ويمثل نهر النيل المصدر الرئيسي للمياه في البلاد، وبحكم هذا الاعتماد الكبير، تظل مصر عرضة وبشدة لأي تغيير في السياسات المائية لدول المنبع، وعلى رأسها إثيوبيا.

وبالتالي، فإن أي توجه مستقبلي من دول المنبع نحو احتجاز كميات إضافية من المياه في أراضيها، لا سيما في حال تعرض منطقة حوض النيل لجفاف يمتد لسنوات طويلة، سيؤدي إلى تداعيات مباشرة على الأمن المائي لمصر.

وتبرز بيانات نشرها "البنك الدولي" تصاعداً مستمراً في درجات الحرارة في مصر، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2024، وهو أحدث عام تتوفر حوله بيانات مناخية.

الأزرق الداكن: يشير إلى سنوات أكثر برودة من المتوسط.

الأزرق الفاتح: سنوات أبرد قليلاً من المتوسط.

الأبيض/ الأصفر الفاتح: سنوات قريبة من المتوسط.

البرتقالي/ الأحمر: سنوات أكثر دفئاً من المتوسط.

الأحمر الداكن: سنوات أكثر سخونة بكثير من المتوسط.

تُشير البيانات إلى أنه بدءاً من العام 2000 وحتى العام 2024، باتت تسيطر الألوان البرتقالية والحمراء بشكل واضح، وتحديداً منذ العام 2012، ما يعكس واقعاً مناخياً أكثر سخونة عاماً بعد عام، فيما تظهر توقعات المناخ أن يستمر هذا الاتجاه في الاحترار في المستقبل القريب.

تأثير سد النهضة مصر
بدءاً من العام 2000 وحتى العام 2024 بدأت مصر تشهد مزيداً من السخونة في المناخ – البنك الدولي

وتظهر بيانات إضافية نشرها "البنك الدولي" أن مصر، خلال الفترة من 2020 وحتى 2039، تشهد وستشهد مزيداً من الأيام الحارة، ما يُنذر بضغط متزايد على الموارد المائية المحدودة للبلاد.

يُقصد بـ"الأيام الحارة" تلك التي تشهد ارتفاعاً في درجات الحرارة يتجاوز 30 درجة مئوية، ما يؤدي إلى تسارع معدل تبخّر المياه، لا سيما في مناطق الخزانات المائية الكبرى.

وفقاً للبيانات، فإن عدد الأيام الحارة سيزداد في المحافظات المصرية بشكل ملحوظ بحلول عام 2039، فمثلاً:

القاهرة: سيزداد متوسط عدد الأيام الحارة في المحافظة من 158.2 يوم إلى 174.1 يوم.

أسوان: التي تتواجد فيها بحيرة ناصر، سيزداد متوسط عدد الأيام الحارة من 236 يوماً إلى 248 يوماً.

في مناطق دلتا النيل التي تتواجد فيها مساحات زراعية واسعة، سيزداد متوسط عدد الأيام، مثلاً في محافظة الدقهلية، من 139.7 يوم إلى 158.9 يوم.

وفي محافظة الشرقية، سيزداد متوسط عدد الأيام الحارة من 170.5 يوم إلى 185.3 يوم، في عام 2039.

ووفقاً للخريطة التي نشرها البنك الدولي حول توقعات المناخ في مصر، فإن المنطقة الجنوبية والجنوبية الشرقية من مصر ستكون أكثر عرضة للأيام الحارة، ما يسلط الضوء على تحدٍ مهم، وهو "بحيرة ناصر"، التي تُعدّ الخزان المائي الاستراتيجي للبلاد، والتي تقع في أقصى الجنوب، ضمن أكثر المناطق التي ستكون عرضة لارتفاع الحرارة.

تأثير سد النهضة مصر
عدد الأيام الحارة في مصر سيزداد بحلول عام 2039 – البنك الدولي

في مؤشر آخر، على أن مناخ مصر يتجه نحو مزيد من القسوة، تظهر مؤشرات المناخ المرتبطة بمعدل الاحترار في مصر، أن درجات الحرارة في مصر، سترتفع بحلول عام 2050، نحو درجتين مئويتين، وهو ارتفاع من شأنه أن يؤدي إلى إجهاد أكبر لموارد المياه وتبخرها، وزيادة في الجفاف. 

احتجاز المياه في سد النهضة

يقع سد النهضة الإثيوبي على نهر النيل الأزرق بالقرب من الحدود مع السودان، وبدأت إثيوبيا في تشييده منذ العام 2011، بتكلفة بلغت 4 مليارات دولار، وتبلغ السعة الإجمالية للسد 74 مليار متر مكعب.

برّرت إثيوبيا بناء السد بحاجتها الماسة إلى توليد الطاقة الكهربائية لسكانها البالغ عددهم الآن نحو 129 مليون نسمة، ومن المتوقع أن يصبح السد أكبر مصدر للطاقة في إفريقيا.

تُظهر صور الأقمار الصناعية بوضوح التحول الذي طرأ على مجرى النيل في منطقة إقامة السد، وتحوّله من ممر مائي ضيّق إلى خزان مائي كبير يحتجز كميات ضخمة من مياه نهر النيل في إثيوبيا، وذلك منذ أن بدأت أديس أبابا في ملء السد منذ العام 2020.

سد النهضة
منطقة سد النهضة ما بين عامي 2020 و2025 – سنتنل – عربي بوست

يفسر باحثون في تأثير تشييد سد النهضة سبب عدم التأثر الواضح لمصر والسودان حتى الآن بعملية بناء السد، ويعزون ذلك إلى أن الظروف المناخية خلال السنوات القليلة الماضية أدت إلى التخفيف من الأثر المباشر لعملية الملء الأولي لسد النهضة.

نظام مراقبة الأرض التابع لوكالة الفضاء الأمريكية "ناسا"، أشار إلى أن المنطقة شهدت أمطاراً استثنائية خلال عامي 2019 و2020، تجاوزت المعدلات الطبيعية، وهو ما وفر تدفقاً مائياً إضافياً ساهم في امتصاص أثر ملء سد النهضة.

لكن "ناسا" نبهت في الوقت نفسه إلى أنه في حال "أزلنا هذا الشذوذ الإيجابي واستبدلناه بكميات أمطار عادية، فسنرى أن حجم الملء الذي حدث في هذين العامين كان كافياً لخفض منسوب المياه في بحيرة ناصر. ولو كنا في فترة جفاف، لشهدنا انخفاضات كبيرة جداً في مستويات المياه."

عجز مائي كبير في مصر

في ظل تصاعد حدة المناخ الحار في مصر، تواجه البلاد تحدياً كبيراً يتمثل في عجز مائي كبير، إذ يُقدَّر العجز المائي الحالي في مصر بنحو 54 مليار متر مكعب سنوياً، ويُقصد بالعجز المائي معدل استهلاك المياه مقارنة بما توفره الموارد المائية المتجددة فعلياً.

تبلغ موارد مصر من المياه 60 مليار متر مكعب، لكن البلاد تحتاج سنوياً إلى 114 مليار متر مكعب لتلبية احتياجات سكانها المتزايدة والزراعة الواسعة.

وتشير البيانات التاريخية المسجّلة منذ أربعينيات القرن الماضي إلى أن حصة الفرد المصري من المياه في تراجع مستمر، فخلال عام 1947 كان نصيب الفرد من المياه العذبة 2526 متراً مكعباً سنوياً، لكنه الآن نحو 560 متراً مكعباً فقط، أي تحت عتبة الندرة المائية التي تبلغ 1000 متر مكعب.

السيناريو الأسوأ لواقع المياه في مصر تحدّثت عنه مبادرة "الدبلوماسية المناخية"، التي أشارت في تقرير لها إلى أن إمدادات المياه في مصر قد تتأثر بعوامل مثل تحويل مياه النيل من قبل دول المنبع في حوض النيل، التي تتطلّع إلى استغلال إمكاناتها في توليد الطاقة الكهرومائية وتوسيع الرقعة الزراعية المروية.

تُشير المبادرة إلى أنه نظراً لأن نهر النيل يوفر ما يقرب من 97% من احتياجات مصر المائية، فإن مثل هذه المشاريع التنموية قد تُحدث تأثيراً كبيراً على أمن مصر المائي.

تذهب توقعات المناخ المتشائمة حيال مصر إلى أن إثيوبيا قد تحجز المياه خلال سنوات الجفاف متعدد السنوات، ما قد يؤدي إلى مواجهة مصر ما يُطلق عليه اسم "جفافاً مصطنعاً"، أي جفاف لا تتسبب به الطبيعة وحدها، بل تساهم به قرارات بشرية.

كانت إثيوبيا قد أعلنت في سبتمبر 2023، عن انتهاء عملية ملء السد، وفي يوليو 2025، أعلنت عن اكتمال بناء السد، ودعت مصر والسودان للمشاركة في حفل التدشين المقرر في سبتبمر 2025، على الرغم من الخلاف الكبير بين إثيوبيا والبلدين العربيين بسبب بناء السد. 

ولا يتعلق القلق المصري والسوداني حيال سد النهضة بمرحلة الملء فقط، بل يتعداه إلى تشغيل السد واستهلاك المياه في عملية توليد الطاقة، وتخشى القاهرة من أن يؤثر تشغيل السد دون تنسيق على كميات المياه المتدفقة إليها عبر النيل.

مؤشر مقلق تعكسه صور أقمار صناعية

توجد على نهر النيل بحيرة ناصر، التي توفر نحو 95% من احتياجات المياه للسكان، وتحصل البحيرة على مياهها من كميات مياه نهر النيل المحجوزة خلف "السد العالي".

تشير خدمة "مراقبة الأرض" التابعة لوكالة "ناسا" إلى أن بناء سد النهضة الإثيوبي قد يتسبب في حدوث عجز في مياه الري في مصر خلال السنوات الجافة، إضافة إلى تراجع في الثروة السمكية.

لفتت الوكالة إلى أن مؤشرات ملفتة ظهرت على مساحة سطح البحيرة بين عامي 2015 و2016، إذ انخفضت مساحة سطح البحيرة بنسبة 14%، مشيرةً إلى أن ذلك ربما يعود إلى أعمال تشييد السد.

وتُظهر مقارنة أجراها "عربي بوست" بصور الأقمار الصناعية تراجعاً في منسوب "بحيرة ناصر" خلال العام 2024، مقارنةً بما كانت عليه في العام 2023.

ولن يكون تأثير انخفاض منسوب المياه في "بحيرة ناصر" بالأمر السهل، لأن انخفاض المياه فيها يعني انخفاضاً في منسوب مياه النيل، وهو ما قد يؤثر سلباً وبشكل كبير على الترع التي تروي الأراضي الزراعية المصرية.

وتُظهر بيانات التدفق الطبيعي السنوي لنهر النيل مؤشرات مقلقة، بسبب انخفاض معدل التدفق بشكل مستمر، إذ تُشير دراسة علمية نشرها موقع Nature، إلى أن متوسط التدفق للنيل انخفض حتى قبل بدء حقبة بناء السدود العملاقة، وذلك بسبب تغيّر أنماط الهطول المطري.

تُشير الدراسة إلى أن متوسط التدفق السنوي لنهر النيل انخفض عند أسوان من 109 مليارات متر مكعب بين عامي 1871 و1897، إلى نحو 86 مليار متر مكعب بين عامي 1900 و2002.

يُعدّ نهر النيل أطول نهر في العالم (6,650) كيلومتراً، ويتكوّن من رافدين: النيل الأبيض، الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا في أوغندا، والنيل الأزرق، الذي يبدأ من بحيرة تانا الإثيوبية.

تحديات أمام مصر

يشكّل بناء سد النهضة تحدياً استراتيجياً كبيراً أمام مصر، فاحتجاز المزيد من المياه لتشغيله سيمثل مصدر قلق لنحو 97% من السكان، الذين يعيشون على طول الشريط الموازي لنهر النيل، والذي يمثل نحو 8% فقط من مساحة مصر.

وبالموازاة مع ظروف المناخ المقبلة في مصر، التي تحمل مؤشرات سلبية، فإن عدد السكان سيشهد تزايداً ملحوظاً قياساً مع مستويات الإنجاب الحالية. وتشير توقعات رسمية مصرية إلى أنه بحلول عام 2030 قد يصل عدد السكان إلى 119 مليون نسمة، وإلى 165 مليون نسمة بحلول عام 2050.

المياه في مصر لا تقتصر أهميتها على الشرب فحسب، إذ يمثّل نقصانها مصدر قلق لري المحاصيل الزراعية، وتُشير دراسة مجلة Nature، إلى أن نقص المياه المحتمل في مصر، لن تكون آثاره اقتصادية فحسب، بل قد تسبب اضطرابات اجتماعية واقتصادية خطيرة، بسبب ارتفاع معدلات البطالة في القطاع الزراعية وزيادة أسعار المواد الغذائية. 

كذلك تُشير دراسة أجراها معهد البحث الهولندي "دلتا رس"، المتخصص في إدارة المياه، إلى أن انخفاض متر مكعب واحد من حصة مصر المائية قد يؤدي إلى تقليص المساحة الزراعية بمقدار 123,480 هكتاراً، ما سيؤدي بدوره إلى انخفاض قيمة الإنتاج الزراعي بنحو 430 مليون دولار.

كان لإقامة إثيوبيا سد النهضة سبباً في خشية مصر والسودان من أن تتأثر حصتهما من مياه النيل، إذ تُقدر حصة مصر من مياه النيل بـ 55.5 مليار متر مكعب، فيما تبلغ حصة السودان 18.5 مليار متر مكعب. 

ومنذ سنوات، تطالب القاهرة بالتوصل أولاً إلى اتفاق ثلاثي قانوني ملزم بشأن ملء وتشغيل السد، ولا سيما في أوقات الجفاف، لضمان استمرار تدفّق حصتيهما من مياه نهر النيل.

وهو ما ترفضه أديس أبابا، وتقول إن السد مهم لجهود التنمية، وخاصة عبر توليد الكهرباء، ولن يضرّ بمصالح أي دولة أخرى، ما أدى إلى تجميد المفاوضات لمدة 3 أعوام، قبل أن تُستأنف في 2023، وتُجمَّد مرة أخرى في 2024.

تحميل المزيد