تظهر أدلة بصرية بعضها نشرها جيش الاحتلال الإسرائيلي بنفسه، أن جنوداً إسرائيليين قتلوا مدنيين فلسطينيين عند شارع الرشيد غرب مدينة غزة، الخميس 29 فبراير/شباط 2024، أثناء محاولتهم الحصول على مساعدات كانت في طريقها لشمال القطاع، وهذه الأدلة تقدم رواية مختلفة لما زعمه الاحتلال عن المجزرة، التي سمّاها فلسطينيون "مجزرة الطحين"، والتي راح ضحيتها 112 شهيداً و760 مصاباً.
تقول رواية جيش الاحتلال التي نشرها على حسابه في موقع "إكس"، إن "حشوداً فلسطينية قامت باعتراض الشاحنات ونهبها؛ ما تسبب في مقتل العشرات نتيجة الازدحام الشديد والدهس"، وفي رواية أخرى له، زعم أن دبابات له كانت في منطقة عبور الشاحنات وعملت على تأمينها، ولم تطلق النار على القافلة المحملة بالمساعدات.
لفهم أفضل لما جرى في شارع الرشيد، سنرسم مشهد ما حدث منذ البداية، وحتى حدوث إطلاق النيران على المدنيين عند "دوار النابلسي"، مستعينين بصور الأقمار الصناعية، ومقارنتها بفيديوهات وصور، تتضمن أدلة تضرب صحة رواية الاحتلال.
مكان وقوع "مجزرة الطحين"
وصلت شاحنات الإغاثة إلى منطقة شارع الرشيد، فجر الخميس 29 فبراير/شباط 2024، ويُطلق اسم "الرشيد" على الشارع الممتد من أقصى شمال غزة لأقصى جنوبها بمحاذاة الساحل.
ومن خلال الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال للحظة وصول الشاحنات للمنطقة، إضافة لفيديو يظهر تكدّس جثامين الفلسطينيين في المكان، حددنا عبر الخرائط مكان وجود الشاحنات في هذا الشارع بالظبط، إضافة لأماكن وجود الدبابات الإسرائيلية بالمنطقة.
موقع حدوث المجزرة يقع بجوار إحدى أشهر صالات بيع السيارات في غزة، وتسمى "موتور ون"، وتقع على شارع الرشيد، على بعد 2.5 كيلومتر من ميناء غزة، كما هو موضح في الخريطة.
تحرك شاحنات الإغاثة
بحسب الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال، تظهر بجوار شاحنات الإغاثة دبابتان تابعتان للجيش، وفي مرمى نيران هاتين الدبابتين وُجِد عدد من المدنيين الفلسطينيين الذين تجمعوا قرب الشاحنات للحصول على المساعدات.
من الدقيقة 1:04 إلى 1:14، لا يظهر الفيديو الذي نشره الاحتلال، أي تدافع بجوار الشاحنات التي كانت تسلك طريقها بانسيابية، لكن في الوقت ذاته يظهر واضحاً في الفيديو وجود عدد من الجثامين الملقاة على جانب الطريق، وفي مقابل مرمى نيران دبابتي الاحتلال تماماً.
وعند النظر إلى موقع وجود الجثث، فهي على الجهة الأخرى من الشارع الذي تمر فيه شاحنات الإغاثة، الأمر الذي ينفي تماماً أن هذه الجثامين سقطت جراء تدافع أو دهس كما يزعم بيان الجيش الإسرائيلي.
تظهر لقطات أخرى في الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال، بدءاً من الدقيقة 1:14 وحتى 1:31، هروباً مفاجئاً لعدد من الفلسطينيين الذين كانوا بجوار الشاحنات، وبعضهم واصل الركض باتجاه مياه البحر، ويُشير الاتجاه الذي سلكوه للاحتماء أنهم تعرضوا لإطلاق نار من دبابة كانت خلفهم تماماً، كما تظهر اللقطات نفسها وجود عدد من الجثامين الملقاة في الأرض، وهو ما سنوضحه في هذه الخريطة.
يظهر دليل آخر في فيديو نشره ناشطون على شبكات التواصل الاجتماعي، لحظة تعرض فلسطينيين في "شارع الرشيد" لإطلاق نار مباشرة من الخلف، ومن خلال تحديد موقع المنطقة الظاهرة بالفيديو، فإن موقع فرار الفلسطينيين هو بجوار صالة بيع السيارات "موتور ون"، وتحققنا من الموقع من خلال مقارنة لقطات لهذه الصالة في فيديو منشور لها على "تيك توك"، مع لقطات الصالة الظاهرة بالفيديو الذي نشره ناشطون.
بالعودة إلى صور الأقمار الصناعية، وبتحديد موقع صالة بيع السيارات التي ظهر الفلسطينيون بجوارها، فإن هذه المنطقة تبعد فقط عن مكان وجود الدبابات حوالي 550 متراً، كما أن الاتجاه الذي يسلكه الفلسطينيون الظاهرون بالفيديو، يظهر أنهم يفرون من نيران قادمة من الخلف، أي من مكان وجود الدبابات الإسرائيلية.
وتظهر العديد من الصور والفيديوهات المنشورة عن "مجرزة الطحين" وجود العديد من المدنيين المضرجين بالدماء، الذين فارقوا الحياة بعد إصابتهم مباشرة بالنيران في مناطق قاتلة بالجسم، إضافة لإصابة آخرين بأقدامهم وأيديهم بالرصاص، كما أظهرت صور وفيديوهات أخرى امتزاج الدماء بالمساعدات التي كانت مُحملة بالشاحنات.
وتؤكد شهادات ناجين من "مجزرة الطحين"، حدوث إطلاق نيران بشكل مباشر على الفلسطينيين أثناء محاولتهم الحصول على المساعدات، وقال صهيب شعبان، أحد المصابين الذين وُجدوا في مكان الاستهداف، في تصريح لوكالة الأناضول: "أول مرة أذهب إلى منطقة النابلسي للحصول على قوت أمي وأختي الوحيدة التي تعاني من مشاكل في المعدة".
يُشير شعبان إلى أنه ذهب لانتظار سيارات المساعدات واستلام الدقيق، وأضاف: "ركبت على الشاحنة وحصلت على كيس يزن 25 كيلوغراماً، وبعد نزولي أطلق الجيش النار عليّ، ما أدى لإصابتي".
في شهادة أخرى عن "مجزرة الطحين"، يقول الطفل المصاب عبد الكريم لبد: "ذهبت لدوار النابلسي لأحصل على الطحين بسبب الجوع الذي أصابنا، الدبابات الإسرائيلية تقدمت قبل الشاحنات، وأطلقوا النار علينا، فهربنا إلى تلة رملية والرصاص يمر من جانبنا، هربنا، أنا وزوج شقيقتي، لكن إطلاق النار أصابنا بشكل مباشر في اليد والظهر".
أثار الهجوم على قافلة المساعدات ردود أفعال دولية واسعة، وقالت أمريكا إن استهداف إسرائيل فلسطينيين ينتظرون المساعدات "حادث خطير"، كما أدان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استهداف إسرائيل للفلسطينيين عند شارع الرشيد، وقال: "نشعر بغضب شديد تجاه الصور التي تصلنا لاستهداف الجنود الإسرائيليين المدنيين في غزة".
وجراء الحرب وقيود إسرائيلية، بات سكان غزة، لا سيما محافظتي غزة والشمال، على شفا مجاعة، في ظل شح شديد في إمدادات الغذاء والماء والدواء والوقود، مع نزوح نحو مليونيْ فلسطيني من سكان القطاع الذي تحاصره إسرائيل منذ 17 عاماً.