يمثل العلم والنشيد الوطني "قسماً" رمزين مقدسين في ذهنية الجزائري، إذ تعود به إلى صور تضحيات قوافل الشهداء لإنزال راية المحتل ورفع العلم الوطني، كما يخاطبه النشيد الوطني ليحيي فيه روح الحماس، وهو الذي يعد من أقوى الأناشيد الوطنية عالمياً.
وبمناسبة الذكرى الـ 69 لاندلاع الثورة التحريرية عمل "عربي بوست" على مرافقة قرائه في رحلة إلى متجر مفدي زكريا، شاعر الثورة التحريرية الذي خط النشيد قوياً يعكس ملحمية الثورة التحريرية.
"عربي بوست" تجول في هذا التقرير بين أزقة حي القصبة الشهير وسط العاصمة الجزائرية، ووصل إلى متجر مفدي زكريا الذي كتب فيه النشيد الوطني الجزائري، عكس ما تقوله رواية أخرى أن النشيد خطته أنامل شاعر الثورة في زنزانته بسجن سركاجي.
مفدي زكريا شاعر ثورة الجزائر
يعد مفدي زكريا (1908- 1977) شاعراً للثورة التحريرية الجزائرية بامتياز، كونه تفاعل مع الثورة وناجاها حتى قبل اندلاعها في أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954، فيلاحظ القارئ لشعره غلبة الطابع الثوري في أغلب قصائده سواء التي نظمها في زنزانات السجون أو قبل الثورة وأثنائها.
وظهر زخم الثورة الجزائرية في دواوين الشاعر مفدي زكريا (اللهب المقدس وإلياذة الجزائر)، ليعد بهما أحد أبرز المساهمين في الحركة الشعرية الجزائرية الحديثة.
وعبر مفدي بمختلف أساليب الكفاح الثوري بداية من بلدته بني يزقن بمسقط رأسه بغرداية وصولاً إلى تونس وكذا الجزائر العاصمة، إلى جانب دول المشرق العربي حيث لخّص طوال نضاله مسيرة حرية شعب تمكّن من الانعتاق من نير الاحتلال.
ومن بين أبرز النظم الشعرية التي تفننت أنامل مفدي زكريا في كتابتها النشيد الوطني "قسماً" الذي كان ولا زال واحداً من أهم الأناشيد الوطنية في العالم نظراً لقوة أبياته الشعرية واللغة التي رافقت القافية خاصة تلك الموسومة ببيت "وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر".
بوادر كتابة النشيد "الثورة" والنضال
وجاءت أولى بوادر كتابة نشيد "قسماً" في حديث جمع بين المناضل والأستاذ حسين بالميلي والقيادي بالثورة عبان رمضان، الذي نقل بدوره المقترح لمساعديه وتم تحديد 3 معايير لصياغته:
يتعلق المعيار الأول بأن يتضمن النشيد دعوة للشعب الجزائري للالتحاق بالثورة التحريرية تحت لواء جبهة التحرير الوطني، والتشهير بالاحتلال وتبيان هضم حقوق الجزائريين، وكذا تحاشي ذكر اسم أي شخص مهما كان ماضيه أو حاضره النضالي.
وفي ذات الصدد، يوضح المجاهد والوزير الأسبق لمين بشيشي في كتابه "تاريخ ملحمة نشيد قسماً"، أنه تم الاتصال بالمناضل مفدي زكريا، وهو صاحب عدة أناشيد وطنية سابقة، وكلف سنة 1955 بكتابة نشيد وطني للثورة، هناك انكب على الكتابة في دكانه الكائن بحي القصبة، ليسلم الأمانة للخضر رباح الذي بلغها لعبان وتم تزكية القصيدة واعتمادها.
وأتى الدور لاحقاً على تلحينها، أين اجتمع مفدي مع الممثل محمد توري إلا أن التلحين لم ينل الرضا، لينتقل بعدها مفدي إلى تونس أين التقى بمحمد التريكي إلا أنه لم يتم اعتماد اللحن للمرة الثانية، كما أنه تم إلقاء القبض على مفدي ورباح ببيته الكائن بالقبة في العاصمة.
ولم يستقر تلحين النشيد الوطني إلا على يد الموسيقار المصري محمد فوزي، فكان النصر للحنه.
متجر صغير نظمت فيه أبيات "قسماً"
"عربي بوست" وبعد بحث طويل عن دكان مؤلف النشيد الوطني الجزائري مفدي زكريا، توجه مباشرة إلى شارع بوعلام رحال بالقصبة، القريب بعض الشيء من متحف الشهيد علي عمار المعروف بعلي لابوانت الذي دمرته الآلة الاستعمارية التدميرية، ليستشهد رفقة رفقائه.
وأثناء سيرنا في أزقة القصبة العتيقة لاحظنا تواجد عديد المحال التجارية القديمة التي أضحت غير مستعملة من قبل ملاكها منها متجر شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا.
هذا المحل، الذي أكد لـ"عربي بوست" حفيد مفدي زكريا أحمد بافضل، أنه يعيد للذاكرة الوطنية صور النضال الموحد للشعب الجزائري بكل الوسائل إلى غاية استرجاع السيادة الوطنية.
ويشدد المتحدث على أن محل شاعر الثورة المغلق والذي تغيرت ملكيته وإن بدا ضيقاً على غرار أزقة القصبة ودكاكينها، إلا أنه اتسع بأفق النضال بالكلمة والشعر الذي عمل مفدي على توفير أحسن صيغة تلحينية له قبل أن يتم إلقاء القبض عليه بمنزله في القبة.
التفاف شعبي حول ثورة التحرير
أول نوفمبر من كل سنة يعد تاريخياً بالنسبة للجزائريين لكونه يتزامن مع ذكرى اندلاع إحدى أعظم الثورات المسلحة في العالم التي أسفرت عن سقوط مليون ونصف المليون شهيد مع خروج المستعمر من أرض الجزائر بعد 132 سنة من القتل، التدمير والاستطان على حساب الشعب الجزائري.
ومن أجل التعمق في هذه النقطة، تواصل "عربي بوست" مع المؤرخ عامر رخيلة، الذي يشير إلى أن الشعب الجزائري التف حول ثورة التحرير منذ إطلاق أول رصاصة في جبال الأوراس شرقي الجزائر وهذا لمحاربة جبروت وغطرسة الفرنسيين.
ويذكر رخيلة أن جبهة التحرير الوطني تجاوزت الواقع الذي كان موجود بتعدد التيارات السياسية واختلافاتها ودعت لتكوين تجمع تحرري جامع لكل أطياف المجتمع في كل جهات الجمهورية.
وأضاف المتحدث: "بيان نوفمبر 1954م كان واضحاً حول هذه النقطة بالذات، لكونه خاطب الشعب الجزائري قاطبة دون استثناء، بمقولة أيها الجزائريين إننا ندعوكم لتباركوا هذه الوثيقة".
تضحيات الجزائريين
ويؤكد رخيلة وفي خضم الحديث عن ثورة التحرير الجزائرية أن ما قدمه الشعب الجزائري للثورة يفوق كل التوقعات، لأنه قدم الغالي والنفيس من أجل تحرير الجزائر من المستدمر الفرنسي.
ويفسر هذه الفكرة بقوله: "لما نتحدث عن التضحيات لا يجب أن يقتصر حديثنا عن مليون ونصف مليون شهيد 1954_1962؛ لأن ذلك يعد اجحافاً لمقاومات سبقت ثورة التحرير التي سقط فيها الكثير والكثير من المقاومين في ميدان الشرف".
ويواصل قائلاً: "التضحيات كانت كبيرة، والطبقة الفلاحية كانت مهيمنة؛ لأن الثورة ريفية وسط تجند واسع للريفيين وعليه الثورة الجزائرية وتحرير الجزائر لم يكن مرغماً في نضال جهوي وإنما عبر كل التراب الوطني".
ملايين الشهداء طيلة 132 سنة
نضال الجزائريين من أجل نيل الاستقلال أسفر عن تضحيات عديدة أسفرت عن سقوط مليون ونصف المليون شهيد خلال الثورة الجزائرية.
ويأتي هذا بعدما قررت ثلة من الشباب الجزائريين الثوار إشعال فتيل الحرب في كل ربوع الجزائر متحدين الإمكانيات الفرنسية الهائلة، رغم أن قادة الجيش الفرنسي حاولوا استمالة الجزائريين بكل الطرق، بعد أن هجروا، قتلوا وأحرقوا قرى بأكملها.
ولا يعد هذا العدد من الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف الوحيد، حيث تحدثت رئاسة الجمهورية يوم 2 أكتوبر 2021، عن العدد الرسمي لضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر، خلال الفترة الممتدة من 1830، حتى حصول البلاد على استقلالها سنة 1962.
وبلغ عدد شهداء الجزائر الذين دافعوا عن بلادهم 5 ملايين و630 ألف شهيد ضحوا بحياتهم منذ المقاومات الشجاعة ضد الاستعمار الفرنسي، وخلال الثورة التحريرية المجيدة.