في الوقت الذي استطاعت فيه شركة مثل إعمار الإماراتية ربط أسعار الوحدات السكنية في مصر بسعر الصرف للدولار حتى لا تتكبد خسائر، وأصدرت شركة الدار العقارية الإماراتية قراراً بالتوقف عن أي استثمارات جديدة بسبب تذبذب سعر الصرف، يعاني أصحاب قطاع المقاولات في قطاع البناء والتشييد تحت وطأة الضغوط المتتالية التي تهدد بانهيار الصناعة في مصر.
رصد "عربي بوست" حالة من الإحباط والسخط التي تسود قطاع المقاولات بسبب الأزمات التي يمر بها ولا يبدو لها انفراجة عن قريب.
لا تقتصر أزمة المقاولين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست" على ارتفاع سعر الدولار مقابل الجنيه وما نتج عنه من تأثيرات سلبية على أصحاب الشركات، كارتفاع أسعار الخامات المستوردة ونقصها أو ارتفاع تكاليف الاقتراض، لكن المعاناة الأكبر تتمثل في تنفيذ شركات المقاولات مشروعات كبرى مثل المدن الجديدة والعاصمة الإدارية ومشروعات قومية كالطرق والكباري والأنفاق وبالرغم من انتهاء المشروعات وتسليم بعضها فإنهم لم يحصلوا على مستحقاتهم المتأخرة لدى أجهزة الدولة.
نتسوَّل حقوقنا!
يتساءل صاحب شركة مقاولات: "كيف أنتظر شهوراً للحصول على مستحقات متأخرة من سنوات، والأسعار تتغير يومياً بسبب الانخفاض المتتالي في قيمة الجنيه المصري؛ ما يجعل من الدفعات المالية المتسلمة عن أعمال سابقة بلا قيمة حقيقية عند الصرف".
وأضاف في حديثه لـ"عربي بوست": "نشعر أننا نتسول حقوقنا ولا يحاول المسؤولون في إيجاد مبررات لتأخير المستحقات وكلها غير منطقية"، كاشفاً أن انتشار الفساد والسرقة وإسناد المشاريع الكبيرة بأربعة أضعاف التقييم الحقيقي لتنفيذها والصرف في بنود في غير محلها كلها أسباب ساعدت على نقص السيولة لدى الجهات المسؤولة.
وأوضح المقاول أن مستحقاته تعتبر كـ"فُتات" بالنسبة لحيتان السوق ممن لديهم علاقات ومصالح بالجهات السيادية، مشيراً إلى أنه يتم إسناد المشاريع إليهم بالأمر المباشر على الرغم من المبالغ الكبيرة التي يضعونها لتنفيذ المشروعات، بينما هناك من يضع تكاليف أقل بجودة أعلى ويتم رفضه؛ لأنه لا يحظى بمعرفة مسؤول كبير.
تقارب مستحقات المقاول -كما قال لـ"عربي بوست"- لدى الجهات الحكومية 10 ملايين جنيه. هذا المبلغ وقت استحقاقها منذ ثلاثة أعوام ونصف كان يشتري به 500 طن حديد؛ إذ كان سعر الطن يتراوح ما بين 19 و20 ألف جنيه، أما الآن فيشتري 250 طنَ حديدٍ بعد أن ارتفع سعره بنسبة 100% في آخر 3 سنوات وتجاوز الـ40 ألف جنيه خلال العام الحالي.
غموض حول سداد المستحقات وقيمة التعويضات
يشرح صاحب إحدى شركات المقاولات لـ"عربي بوست" أن الحكومة أصدرت قانوناً لتنظيم عملية صرف تعويضات للمقاولين بسبب الخسائر التي لحقت بهم بسبب فروق سعر الصرف بعد تعويم 2016 والانخفاض الشديد لقيمة الجنيه.
كان حجم التعويضات التي تم صرفها خلال عامَي 2017 و2018 لشركات المقاولات وشركته واحدة منها ما يقرب من 20 مليار جنيه، أما الآن فهناك حالة من الغموض حول سداد المستحقات وقيمة التعويضات في ظل ما سمعوه بأنه لا توجد سيولة لدى الحكومة.
وأشار المقاول إلى أن التعويضات الآن ستتجاوز ضعف تلك المبالغ، وربما تتعدى 45 مليار جنيه، بسبب تأخر الحكومة وجهات الإسناد في سداد المستحقات فضلاً عن تزايد العقود المبرمة مع قطاع المقاولات من جانب الدولة لمشروعات البنية التحتية، مقارنة بالسنوات السابقة وتضاعف أسعار الخامات بعد ارتفاع سعر صرف الدولار خلال عام، من نحو 16 جنيهاً في مارس/آذار 2022 إلى حوالي 31 جنيهاً في البنوك و38 في السوق السوداء وكلها عوامل أدت إلى ارتفاع قيمة التكلفة التنفيذية للمشروعات ككل.
وأضاف المصدر: "وصل إلى مسامعنا أن الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء طالب بوضع آليات تحديث معادلات الأرقام القياسية للأسعار والأوزان الخاصة بشأن كافة مواد البناء والخامات الرئيسية والخامات المستوردة التي تدخل كمكون رئيسي في عدد من المشروعات لدى جهات تابعة للدولة أسندت إليهم أعمال بناء، لغرض احتساب قيم التعويضات المالية المُستحقة لشركات المقاولات لتكون معبرة بشكل أكبر عن الواقع، ومن المفترض أن الاتحاد ناقش مع الجهاز المركزي للمحاسبات ما يجري من تعديلات على الأرقام المتاحة".
علت نبرة الضيق في صوت المقاول، وهو يشدد على أن الأزمة الراهنة لم يواجهوا مثلها على مدار عمله منذ ثلاثين عاماً، كاشفاً عن أن الأسعار المذكورة في النشرة الشهرية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، لا تعبّر عن الأسعار الحقيقية وتقلل منها.
التعويضات لن تتعدى ربع خسائر شركات المقاولات
وأكد أنه لم يتم التواصل معهم بشأن الطلبات التي تقدموا بها لصرف التعويضات المستحقة عن المشروعات الحكومية التي قاموا بتنفيذها ومن المفترض -كما قالوا لهم- الحصول عليها خلال ثلاثة أشهر من تاريخ المطالبة.
لكن إلى لحظة كتابة التقرير لا يعرف المقاول موعد وكيفية صرف التعويضات أو جدول السداد، ومن غير الواضح حجم الوقت الذي تستغرقه اللجنة في دراسة مطالبات التعويض للتوصل إلى تقديرات السداد.
وصدَّق الرئيس عبد الفتاح السيسي، أواخر العام الماضي، على تعديلات قانون تعويضات عقود المقاولات والتوريدات والخدمات العامة، والتي من شأنها أن تتيح للمقاولين الذين تكبدوا خسائر جراء الإصلاحات الاقتصادية الأخيرة الحصول على تعويضات من الحكومة.
وأصدر رئيس الوزراء قراراً في فبراير/شباط الماضي، بصرف تعويضات للمقاولين عن الخسائر التي لحقت بهم جراء انخفاض قيمة الجنيه خلال الفترة بين مارس 2022 ومارس 2023، وفق أحكام قانون التعويضات الصادر في 2017.
لكن كما يقول المصدر فإن التعويضات لن تتعدى ربع خسائر شركات المقاولات النشطة، كما أن قانون التعويضات الجديد لا يراعي صرف تعويض لعدد كبير من شركات لم يتم تجديد العقود لها، وجرى تعليق العمل لديها منذ فترة بسبب تأخر سداد مستحقاتها وعدم قدرتها على التنفيذ، ومن الواضح أنه سيتم استبعادها من برنامج التعويضات لتوفير السيولة أو توجيهها لغرض آخر.
أزمات مع البنوك
يؤكد مقاول آخر لـ"عربي بوست" أن تأخير تسلّم دفعات من المستحقات وعدم وجود سيولة معنا يجعلنا نلجأ للقروض البنكية لاستكمال تنفيذ المشروعات وتجنب غرامات التأخير.
كان هناك سهولة في تعامل البنوك معهم من خلال مبادرة البنك المركزي التي كانت تمنح القروض بفائدة 8% متناقصة لدعم المقاولين والمصنعين والمزارعين والتي أُلغيت بضغوط من صندوق النقد الدولي، وتم الإعلان عن مبادرة جديدة لتوفير القروض بفائدة متناقصة 11%، لكنها لا تشمل قطاع المقاولات.
وأشار إلى أن شركات المقاولات أصبحت تعاني من تهديد لاستكمال مشروعاتها القائمة وتنفيذ خططها التوسعية بعد رفع أسعار الفائدة بنسبة 2% ووصولها حالياً على الإقراض إلى 19.25%.
ويوضح بحسرة أن إدارة المخاطر في البنوك حذرت شفهياً من التعامل مع مقاولي الباطن؛ خوفاً من تعثرهم وقصرت القروض على شركات المقاولات الكبيرة، وبعضها متعثر في السداد.
عضو بمجلس إدارة الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء قال لـ"عربي بوست" إن هناك شركات مهددة بالخروج من القطاع. ففي ظل استمرار أزمات نقص السيولة وزيادة الأعباء، فإن الشركات ملزمة بتنفيذ مشروعاتها في التوقيتات المحددة بتعاقدات لا تتناسب مع الأسعار الحالية وبالتالي لابدَّ من حلول سريعة لضمان استمرارية تلك الشركات والحفاظ على عمالتها خاصة وأن قطاع المقاولات يعد واحداً من القطاعات كثيفة العمالة ويضم أكثر من 8 ملايين من المصريين.
ومنذ أيام كشف المهندس محمد سامي سعد، رئيس الاتحاد المصري لمقاولي البناء والتشييد، أن الاتحاد يعمل على سرعة صرف التعويضات المقررة للمقاولين بالتنسيق مع اللجنة المشكّلة من مجلس الوزراء لدعم العاملين بالقطاع والذين يتجاوز عددهم 30 ألف شركة.
مقاولو الباطن أكثر تضرراً
رصد "عربي بوست" مشكلات أخرى لمقاولي "الظل" أو "الباطن" كما يسمونهم؛ لأن جهات الإسناد هي من تتولى الصرف. ويشتكي أحد المقاولين من أنه كي يتم صرف جزء من المستحقات، نضطر للدفع والمجاملات والانتظار على الكراسي في غرفهم للحصول على إمضاء ورقة أو شيك، ونحن مجبرون على التعامل خوفاً من غضبهم أو أملاً في إسناد مشروعات جديدة تعوضنا عن الخسائر.
وأشار المقاول لـ"عربي بوست" إلى أن التأخير في التنفيذ يعرضهم للغرامات على العكس إذا تأخرت جهات الدولة في دفع ما عليها، موضحاً أنهم طالبوا بمهلة إضافية دون تطبيق غرامات ينص عليها العقد للانتهاء من تنفيذ الأعمال الموكلة إليهم وتعثرت بسبب التعويم.
لكن جهات الإسناد التي نتعامل معها رفضت اعتماد المهلة، وتصر على الغرامة، وكذلك لم تستجب لمطالبنا بشأن صرف جزء من مستحقاتنا لتحسين الملاءة المالية أمام البنوك.
وشدد داكر عبد اللاه، عضو لجنة التشييد والبناء بجمعية رجال الأعمال المصريين وعضو شعبة الاستثمار العقاري باتحاد الغرف التجارية، على أن قطاع شركات المقاولات والتشييد والبناء في حاجة شديدة إلى سرعة تطبيق مهلة الـ6 شهور التي أعلنت عنها الحكومة منذ أكثر من شهرين تقريباً حتى تتمكن من تنفيذ المشروعات الموجودة لدى المقاولين والمطورين العقاريين.
اللافت أن جهات الإسناد تضع غرامة على مقاولي الباطن الذين يعملون في المشاريع القومية عند التأخر في تسليم المشروعات، بينما لا يوجد في العقد مواعيد محددة تلزم تلك الجهات بدفع مستحقات المقاولين.
وطالب المقاولون منذ فترة بتمديد مواعيد تسليم الأعمال، مع طلب صرف دفعة عاجلة من مستحقاتهم لدى الجهات الحكومية للمساهمة في تقليل الضغوط على القطاع.
يشتكي المقاول من النقص الشديد للدولار في البنوك، بينما العديد من المشاريع تتطلب مواد بناء مستوردة وليس لدينا ما نفعله لتسليم المشروعات وفق الجدول الزمني المتفق عليه، فضلاً عن أن هناك استشاريين عاملين مع شركات المقاولات الكبيرة يرفضون تسلّم المشروعات الجاهزة من مقاولي الباطن بحجج مختلفة؛ لكن السبب الرئيسي هو عدم وجود سيولة بسبب تأخر سداد مستحقات الشركات وتراكمها لدى جهات الإسناد، وغالباً تكون جهات سيادية، كما يقول مقاول الباطن.
قطاع المقاولات.. لماذا الاستمرار؟
عندما سأل "عربي بوست" المقاول عن سبب استمرار التعامل مع جهات الإسناد رغم المعاناة الشديدة؟ قال إنهم كانوا أكثر جهات الدولة التزاماً بالسداد، وأموالنا كانت مضمونة؛ لكن هناك أزمة لديهم الآن.
والمشكلة أن كل المشروعات تتم عن طريقهم، موضحاً أن هناك تعديلات أقرها مجلس الوزراء المصري، في قانون المناقصات والمزايدات، ديسمبر/كانون الأول 2015، تعطي صلاحية إسناد مشروعات المقاولات بالأمر المباشر.
ويمنح قانون التعاقدات الحكومية رقم 182 لسنة 2018 بشأن تنظيم التعاقدات التي تبرمها الجهات العامة إلى الهيئة العربية للتصنيع والهيئة القومية للإنتاج الحربي والمخابرات العامة، إسناد التعاقدات المبرمة إلى أي من وحداتها التابعة دون اتباع المناقصات أو المزايدات العامة.
تلك الجهات السيادية، كما يقول المصدر ذاته، ليس لديها خبرة، والمشروعات التي تتسابق في الحصول عليها تفوق قدرتها وتعتمد في تنفيذها على إسنادها من الباطن لشركات مقاولات أخرى مقابل عمولات ونسب كبيرة تتحصل عليها.
يستكمل المقاول الذي يعمل مع إحدى الجهات السيادية، بأن عليه عمل دراسة جدوى وتقديمها للجهة التي تضع يدها على المشروع، ولا يخلو الأمر من المجاملات والهدايا وتدخّل أصحاب النفوذ لإسناد المشروع له، وعليه توفير مبلغ مالي كبير جداً لتغطية نفقات التنفيذ، إلى أن يتم صرف دفعة من مستحقاته المتفق عليها.
أسعار العقارات خلال عام 2023 ستزيد بأكثر من 60%
أحد المهندسين الاستشاريين وعضو بجمعية رجال الأعمال المصريين قال لـ "عربي بوست" إن الفترة المقبلة ستشهد مزيداً من الارتفاع في أسعار المواد الخام وأسعار الأراضي، وسيؤثر هذا حتماً على المواطنين، شارحاً أن هناك خطة تسعير جديدة للمشروعات القائمة والتي قيد الإنشاء وتوقع زيادة في أسعار الوحدات السكنية الفترة القادمة بأكثر من 60%، وأن ذلك سيقابله تباطؤ طلب المستهلكين على الشراء أو الاستثمار.