يرفضون ملايين الدولارات والشيكات المفتوحة.. هكذا يحمي المقدسيون منازلهم من “التسريب”

عربي بوست
تم النشر: 2023/03/03 الساعة 07:01 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2023/03/20 الساعة 06:38 بتوقيت غرينتش
المقدسيون يرفضون إغراءات لبيع منازلهم تحصينا من "التسريب" - عربي بوست

يحافظ الفلسطينيون في القدس المحتلة على منازلهم من "التسريب"، وسط محاولات جماعات استيطانية إسرائيلية ووكلاء عنهم وسماسرة، لإغرائهم بمبالغ مليونية وشيكات مفتوحة ببعض الأحيان، في حين يلجأ بعضهم إلى حماية عقاراتهم من خلال بعض العراقيل التي باتوا يستخدمونها.

"تسريب المنازل" مصطلح يطلق على بيع بيوت الفلسطينيين في القدس إلى الجماعات الاستيطانية أو عبر وكلائهم أو سماسرتهم. ورغم وجود بعض الاستثناءات، إلا إن غالبية السكان الفلسطينيين يتمسكون بمكانهم ويحمونه، فيما وصل عدد بعض العائلات في المنزل الواحد إلى 3 وأحياناً أكثر.

"منذ عام 1956، أسكن أنا وأولادي وأحفادي كثلاث عائلات معاً، وعددنا 14 شخصاً، بيننا 7 أطفال"، هذا ما قاله عبد الفتاح إسكافي، لموقع "عربي بوست"، متحدثاً عن صمود عائلته جنباً إلى جنب أمام إغراءات الجماعات الاستيطانية لبيعهم بيتهم في الشيخ جراح بالقدس المحتلة.

مستعرضاً بيته ومتجولاً في باحته، قال: "هذا البيت سكنه آباؤنا من قبلنا، ونحن صامدون فيه رغم ضيق مساحته علينا".

روى إسكافي لـ"عربي بوست" محاولات الجماعات الاستيطانية لإخراجه مع عائلته، المكونة من 3 أجيال، من منزلهم الذي تبلغ مساحته 130 متراً مربعاً فقط، مضيفاً: "على مدى 50 عاماً يحاولون إخراجنا بشتى الوسائل، بما في ذلك الضغط الذي يمارسونه ضدنا وضد أولادنا وأهلنا حتى نصل إلى مرحلة الاستسلام والمغادرة".

"عرضوا عليّ من  5 – 7 ملايين دولار ولكن لن نقبل مهما كانت الضغوط"

تلجأ الجماعات الاستيطانية إلى محاولة ترغيب فلسطينيين في القدس ببيع عقاراتهم، لكنها كذلك تقوم بالملاحقة القضائية لهم، ومحاولة استصدار قرارات لصالحها، وفي حال فشلها تعود لمحاولات الإغراء بالمال، بحسب إسكافي.

وقال: "حاولت الجماعات الاستيطانية معنا بكل الطرق، بما فيها إغراءات غير عادية، عبر عرض مبالغ طائلة، حتى يتمكنوا من الاستيلاء على منازلنا. وهذه الإغراءات مرفوضة بطبيعة الحال، من قِبل الجميع، وهي ألاعيب معروفة لنا".

موضحاً تفاصيل عن ذلك، قال إسكافي: "هم على استعداد لتقديم أي مبلغ، وحتى بشيك مفتوح، من أجل السيطرة على منازلنا، ولكن لن يتمكنوا من ذلك، لأن هذه بيوتنا وبيوت أهلنا". 

"لن نفرط ولو بطوبة واحدة"، قالها إسكافي بحزم، مؤكداً: "نحن صامدون رغم المحاولات التي يمارسونها ضدنا".

عن العروض المالية التي تلقاها من الجماعات الاستيطانية، قال إسكافي: "هم يبدأون بالضغوط بكل الطرق، ثم يقولون إنهم على استعداد لدفع أي مبلغ نريد".

أوضح أن الجماعات الاستيطانية تلاحق الشخص المستهدَف "من خلال الاتصالات الهاتفية، وحتى التعرض للشخص أثناء تجوله في الطرق، وبالضغط عليه وعلى أولاده، ولكن كل ذلك مرفوض، ونعرف كل هذه الأساليب، وهي لا تمر علينا".

ورث اسكافي منزله عن أجداده ويرفض منذ 50 عاما عروضا مليونية لبيعه - عربي بوست
ورث اسكافي منزله عن أجداده ويرفض منذ 50 عاما عروضا مليونية لبيعه – عربي بوست

الأمر لا يقف عند ذلك وحسب، وفقاً له، موضحاً أن الجماعات الاستيطانية لا تكتفي بعرض المال، فهم "يقولون إنهم على استعداد لتمليكك دونماً أو اثنين من الأرض هنا أو هناك، إضافة إلى 4 – 5 ملايين دولار، وهو أمر مرفوض لنا، فنحن لا نفرط ولو بذرة تراب من الشيخ جراح" في القدس المحتلة.

حول تجربته الشخصية أيضاً، قال إسكافي إن الجماعات الاستيطانية عرضت عليه مقابل منزله في إحدى المرات 5 ملايين دولار، وفي مرة أخرى 7 ملايين دولار.

وقال: "يعرضون المال على كل الناس، وليس عليّ أنا فقط، لكن ذلك مرفوض، ونحن لا نقبل بكل الملايين مقابل منزلنا".

بانفعال شديد عبّر عن تمسكه بمنزله، وقال: "رفضت العرض لأن هذا بيتي فكيف أفرط به، ولن أسمح لهم بالتمكين هنا. أولادنا لا يجدون مكاناً يعيشون فيه، فهل نعطيهم منزلاً تعيش فيه 3 عائلات؟ هذا مستحيل".

أكد كذلك أن الجماعات الاستيطانية عرضت على معظم سكان حي الشيخ جراح المال مقابل الخروج من منازلهم، وجميعهم رفضوا.

يرفض اسكافي بيع منزله ويصمد مع 3 أجيال من عائلته رغم ضيق مساحته - عربي بوست
يرفض اسكافي بيع منزله ويصمد مع 3 أجيال من عائلته رغم ضيق مساحته – عربي بوست

تابع أيضاً: "إنهم معنيون بأي غرفة في القدس، سواء في سلوان أو جبل المكبر أو بيت حنينا، وتحديداً البلدة القديمة ومحيطها، بمعنى سلوان والشيخ جراح، بالدرجة الأولى، وهناك مناطق أخرى".

أما بشأن تسريب بعض المنازل في القدس، فقال: "من الممكن أن يخرج واحد من ألف تكون نفسه ضعيفة، ويقبل بالعروض، أما الغالبية العظمى فهم يرفضون ذلك، فلا أحد يفرط بمنزله".

وشدد قائلاً: "نحن لن نخرج من هنا، ولن نعيد مأساة عام  1948 (النكبة) حتى لو ذُبحنا في بيوتنا فلن نخرج".

أين تتركز؟

محاولات جماعات استيطانية إسرائيلية لإغواء فلسطينيين تتركز شرق مدينة القدس المحتلة، وتبدأ بمحاولة شراء عقاراتهم بالمال شفهياً، ثم ما تلبث أن تتحول إلى شيكات مفتوحة، لكنها تنتهي في معظم الأحيان بالرفض، وإن كان هناك ثمة استثناءات، بحسب إسكافي.

أضاف أن الجماعات الاستيطانية مزوّدة بتبرعات أثرياء وجمعيات مؤيدة لها حول العالم، لا تجد صعوبة في عرض ملايين الدولارات الأمريكية مقابل عقارات بمساحات صغيرة، وبعضها لا يصلح للسكن أصلا.

تتركز المحاولات الإسرائيلية، التي بدأت منذ السبعينيات، على البلدة القديمة من مدينة القدس والأحياء المحيطة بها، خاصة الشيخ جراح وسلوان ورأس العامود والطور والصوانة، لكنها تمتد أحياناً إلى مناطق أبعد، خاصة بيت حنينا في شمالي المدينة وفق المتحدث ذاته.

جمعيتان استيطانيتان تقودان هذا الجهد خصوصاً، هما "جمعية عطيرات كوهانيم" التي تنشط في البلدة القديمة وسلوان والشيخ جراح ورأس العامود والطور والصوانة، وجمعية "إلعاد" التي تنشط أساساً في سلوان، بحسب ما يؤكد أهالي المنطقة الذين اعتادوا على نشاط هذه الجمعيات المستمرة رغم رفضهم الدائم.

تستعين هذه الجمعيات بسماسرة محليين، وأحياناً شركات أجنبية بالتزامن مع تورط مؤسسات رسمية إسرائيلية بما فيها ما يسمى بـ"حارس أملاك الغائبين" و"دائرة أراضي إسرائيل"، وأيضا باستخدام قوانين على رأسها "قانون الجيل الثالث" الذي يحظر للعائلة الفلسطينية في القدس السكن أو الاحتفاظ بالعقار بعد وفاة آخر شخص يمثل الجيل الثالث من الورثة.

"سماسرة التسريب"

يعمل لصالح الجماعات الاستيطانية "سماسرة تسريب"، قال عنهم مصدر أمني فلسطيني لـ"عربي بوست"، إنه "منذ سنوات الثمانينيات تحديداً تعتمد هذه الجماعات على السماسرة المحليين، خاصة (عطيرات كوهانيم)، التي تتخذ من حي الواد بالبلدة القديمة مقراً لها".

أضاف المصدر، الذي رفض الكشف عن اسمه لاعتبارات أمنية: "كان السماسرة ينتشرون أساساً في المقاهي للبحث عن أشخاص في ضائقة مالية، وحال اكتشاف أي شخص وضعه المادي سيئاً، تبدأ عملية محاولة إسقاطه، من خلال تقديم عروض مالية سخية مقابل عقاراتهم لسد ضائقته المالية".

حول علاقة السماسرة بجماعات الاستيطان، أوضح أنه "في غالب الأحيان كان السماسرة يشترون العقارات ثم يحولونها إلى الجماعات الاستيطانية، وفي أحيان أخرى، وهي الأخطر، يتم عقد صفقات مع أصحاب العقارات بإبقائهم فيها حتى مماتهم أو إخراجهم منها بالقوة، ليبدو الأمر وكأنهم ضحايا".

لفت المصدر الأمني الفلسطيني إلى أنه "تم اكتشاف هذه الصفقات وإحباطها قبل أن تتم، خاصة أن السماسرة كانوا معروفين بالنسبة للأهالي، فبعض العائلات تمنع أبناءها من إتمام الصفقة أحياناً، تتدخل وزارة الأوقاف الإسلامية في حال كان المنزل مسجلاً كوقف لديها، وهو أسلوب يعتمده مقدسيون لحماية عقاراتهم من التسريب".

"الوقف هو الحل"

لمواجهة محاولات الاستيلاء على المنازل الفلسطينية، ولضمان تحصينها من التسريب، فإن المرجعيات الدينية في مدينة القدس تحث السكان على وقف عقاراتهم.

في هذا الصدد يقول زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، لـ"عربي بوست": "بشكل عام، يمكن القول إن نسبة الناس الذين تورطوا بقبول هذه القروض قليلة جداً، إنها معدودة على أصابع اليد، في حين استجاب عدد من المقدسيين بتسجيل عقاراتهم في الأوقاف الإسلامية كوقف، لكن لا نملك أرقاماً بعددها".

وأضاف: "السنوات الماضية شهدت توعية واسعة من مخاطر السماسرة ومخاطر أهداف الجمعيات الاستيطانية، التي تركز على المناطق المحيطة بالمسجد الأقصى".

عمليات البيع "قد توقفت" بحسب الحوري، الذي أكد أن "أساليب السماسرة قد فشلت، لا سيما أن كل من يريد أن يبيع عقاره بات يسأل عن المشتري، ويتأكد من أنه ليس من السماسرة، خاصة بعد بعض عمليات النصب المؤسفة في سلوان"، التي ادعى فيها سماسرة أنهم مشترون، وقاموا بتسريب منازل إلى الجماعات الاستيطانية. 

غالباً ما يذكّر كذلك المفتي العام للقدس والأراضي الفلسطينية، الشيخ محمد حسين، ورئيس الهيئة الإسلامية العليا، الشيخ عكرمة صبري، في خطبهم المصلين بالفتوى التي صدرت منذ عقود عن علماء المسلمين بتحريم بيع العقارات للاحتلال الإسرائيلي.

جاء في نص الفتوى: "الأصل أن فلسطين أرض خراجية وقفية، يحرم شرعاً بيع أراضيها وتمليكها للأعداء، فهي تعد من الناحية الشرعية من المنافع الإسلامية العامة، لا من الأملاك الشخصية الخاصة".

من جهته، علق مسؤول في الأوقاف الإسلامية لـ"عربي بوست"، طالبا عدم ذكر اسمه، بأن الدائرة لا تعقب على أرقام وإحصائيات المنازل التي تسجل لديها كوقف، ولكنها تجدد الدعوة إلى الإقبال على ذلك بشكل أكبر لحمايتها من التسريب، وهو الأمر الذي يساعدها في عرقلة أي صفقات سرية لبيع عقارات للجماعات الاستيطانية.

شدد في هذا الإطار على أن "سجلات العقارات في دائرة الأوقاف الإسلامية آمنة، وهي تحفظ الحقوق، ولذلك تحظى بالثقة من السكان".

أكد المسؤول الكبير في دائرة الأوقاف الإسلامية وجود "استجابة جيدة ولا بأس بها لدعوات وقف العقارات، خاصة في البلدة القديمة ومحيطها، وهي استجابة متزايدة".

أضاف كذلك أن "الناس بشكل عام تخشى على عقاراتها، وتؤمن بأن وقف هذه العقارات سيسهم بشكل كبير في الحفاظ عليها من عمليات التزوير والتسريب".

الانتفاضة الفلسطينية الأولى

ولفت المصدر الأمني ذاته إلى أن "الانتفاضة الفلسطينية الأولى، شكلت نقلة نوعية في التعامل مع هذا الملف، بعد أن أدرك السماسرة، وحتى من يفكر ببيع عقاره، بأن مصيره يتراوح ما بين الفضيحة المحلية أو الموت أحياناً".

وينص القانون الفلسطيني على فرض عقوبة الإعدام على من يثبت تورطه بتسريب عقار للجماعات الاستيطانية، ولكن هذا القانون لم يطبق.

وأضاف المصدر الأمني أن "هذا العقاب شكل رادعاً للسماسرة، بالتزامن مع توعية السكان للحذر منهم، فالعقار الذي يبلغ ثمنه مثلاً 200 ألف دولار لا يُعقل أن يكون من الطبيعي بيعه بمليون دولار".

وشكلت حملات التوعية والعقوبات، خلال الانتفاضة الأولى والفترة التي تلتها، ضربة للجمعيات الاستيطانية والسماسرة، بحسب المصدر.

رغم ذلك، فإن المقدسيين يُصدمون بين الفينة والأخرى بعمليات تسريب، خاصة في سلوان، وفي البلدة القديمة.

علق الحموري بالقول: "إذا ما تحدثنا عن العقارات في باب الخليل، وهي فندقي الإمبريال والبتراء الصغير وبيت المعظمية في البلدة القديمة والأرض في سلوان، فقد تمت من مسؤولين سابقين في بطريركية الروم الأرثوذكس".

وتقرّ بطريركية الروم الأرثوذكس بتورط البطريرك السابق إيرينيوس الأول بصفقات بيع تؤكد أنها تسعى لإبطالها.

أموال معفاة من الضرائب

بحسب المصدر الأمني، فإن أنشطة الاستيطان شرق مدينة القدس يموّلها أثرياء، خاصة من الولايات المتحدة الأمريكية، كان على رأسهم صاحب صالات القمار "إيرفينع موسكوفيتش"، وتلاه أثرياء آخرون لا يعلنون عن أسمائهم، بحسب تقرير لدائرة شؤون المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية.

تنشر الجمعيات الاستيطانية مخططاتها علناً لشراء عقارات، وتطلب التمويل مع تذكير الأثرياء الأمريكيين بأن تبرعاتهم معفاة من الضرائب. 

يحصل المانحون الأمريكيون من القطاع الخاص على خصومات ضريبية مقابل الأموال التي يقدمونها للمنظمات غير الربحية الموجودة في الولايات المتحدة، التي تقوم بتحويل الأموال إلى الجماعات الاستيطانية، بحسب التقرير.

لدى جميع المنظمات الاستيطانية الإسرائيلية، بما فيها شرق مدينة القدس، فروع لها في الولايات المتحدة الأمريكية لجمع التبرعات.
من عام 2009 إلى عام 2013، حوّلت الجمعيات الخيرية الأمريكية أكثر من 220 مليون دولار لمنظمات المستوطنين الإسرائيليين، وفقاً لتحقيق أجرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية عام 2015.

بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.

نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. 

نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”

تحميل المزيد