رحلة المصانع المصرية للبحث عن الدولار.. البنوك خاوية والسوق السوداء مرتفعة، وأزمة قادمة في قطاع الملابس

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/21 الساعة 13:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/21 الساعة 13:09 بتوقيت غرينتش
الحكومة المصرية طلبت من أصحاب المصانع البحث عن الدولار بمعرفتهم لاستيراد المواد الخام التي يحتاجونها من الخارج - رويترز

لم يجد مالك أحد المصانع المصرية الكبرى المتخصصة في الأسلاك الكهربائية سبيلاً سوى اللجوء إلى وساطة بنكية رفيعة المستوى، بغرض التوسط له للحصول على قيمة إحدى الصفقات التي أبرمتها شركته بالدولار.

مالك المصنع يقول إنه لم يستطع تنفيذ الصفقة بسبب عدم قدرته على توفير العملة الصعبة، ومحاولاته كلها باءت بالفشل، طلب منه المسؤول الذي لجأ إليه البحث عن الدولار بالسوق السوداء وبأي قيمة لأنه غير متوفر بالبنوك ولا يستطيع توفيره له.

هذه الوقعة التي رواها صاحب المصنع لـ"عربي بوست"، رافضاً الكشف عن هويته، هي جزء من أزمة شح الدولار في مصر، هذه الأزمة التي تأخذ منحى تصاعدياً دون أن يكون للحكومة خطة واضحة لإنقاذ الصناعة المصرية من الشلل.

وبدلاً من أن تساعد الدولة في دفع حركة الإنتاج المحلي وتقليل فاتورة الاستيراد، فإنها الآن تُواجه معضلة أكبر تتمثل في انكماش حجم الصناعات المحلية نتيجة الصعوبات التي تواجهها منذ إقرار الاعتمادات المستندية، بالإضافة إلى أزمة شح الدولار لشراء مستلزمات الإنتاج.

طلب الرئيس المصري من الحكومة تسهيل حصول أصحاب المصانع عن الدولار لكن الحكومة عاجزة على التصرف (أرشيف)
طلب الرئيس المصري من الحكومة تسهيل حصول أصحاب المصانع عن الدولار لكن الحكومة عاجزة على التصرف (أرشيف)

الوصول إلى الدولار حلم أصحاب المصانع

يقول مالك مصنع الأجهزة الكهربائية، الذي يعتمد على استيراد قطع الإنتاج من الخارج، إن "الوصول إلى الدولار سواء من البنوك أو السوق السوداء أصبح حُلماً بالنسبة لأصحاب المصانع، تحديداً التي تحتاج ملايين الدولارات لإتمام صفقاتها".

وأضاف مالك المصنع في حديث مع "عربي بوست" أن "حجم التجارة في السوق السوداء ليس كبيراً، ويُمكن أن تستفيد منه الشركات الصغيرة أو المتوسطة فقط، والبنوك التي كانت تُوفر 100 مليون دولار في يوم واحد لم تعد قادرة على ذلك".

اختفاء الدولار، حسب المتحدث، تسبب في تعطل حركة الإنتاج الأشهر الماضية بسبب تطبيق قرار الاعتمادات المستندية، لكن رغم ذلك تم إبرام عدد من الصفقات، لكن الإنتاج توقف بشكل كلي مع تعويم الجنيه الأخير في شهر أكتوبر.

وأشار المتحدث إلى أنه ومنذ ذلك الحين، لم يتمكنوا من إبرام أية صفقات جديدة، وهناك شُحنات متوقفة بالموانئ نتيجة عدم القدرة على توفير قيمتها بالدولار لإدخالها.

ووفقاً لتقرير صادر عن وكالة ستاندرد آند بورز، هذا الأسبوع، فإن الشركات المصرية عانت من انكماش ملحوظ في الأعمال خلال نوفمبر/تشرين الثاني 2022 بسبب ارتفاع سعر الدولار وتزايد الضغوط عليه وارتفاع معدلات التضخم.

ويشير التقرير إلى أن الإنتاج في مصدر انخفض بأعلى معدل منذ مايو/أيار 2020، والهبوط القوي في قيمة الجنيه أدى إلى ارتفاع أسعار الشراء بأقصى معدل منذ أكثر من 4 سنوات.

ووفق التقرير نفسه فإن مؤشر مديري المشتريات تراجع على نحو كبير من 47.7 نقطة في أكتوبر/تشرين الأول 2022 إلى 45.4 نقطة في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، لتمتد بذلك سلسلة الانكماش في الاقتصاد غير النفطي إلى عامين.

وكسر الدولار حاجزاً جديداً ليصل إلى 24.75 جنيه في البنوك، بينما قفز فوق 30 جنيهاً في السوق الموازية (السوداء)، ما فتح أبواباً خلفية للمضاربات، كما قفز التضخم إلى 21.5% خلال نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.

الدولار في مصر.. الطلب المستحيل 

يؤكد مالك مصنع إلكترونيات أن شراء المواد الخام بالدولار هو طلب للمستحيل، وعدم توفر الدولار خلق حالة من الضبابية، حتى وإن بدا متوفراً في السوق السوداء فإن أسعاره المرتفعة تقوض أي مكاسب يبحث عنها المصنع، وقد يكون أمام مجازفة لا تعرف نتائجها.

وكشف المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" أن العديد من رجال الأعمال المصريين أبرموا اتفاقيات مع شركات ومصانع دولية للقبول بمقايضة الذهب بدلاً من الدولار، بمعنى تسعير الشحنة ومنح قيمتها ذهباً بدلاً من الدولار.

لكن هؤلاء، حسب المتحدث، اصطدموا بمشكلة أخرى تتعلق بمخاطر تهريب الذهب إلى الخارج؛ لأن إخراجه بصورة رسمية يتطلب حساباً دولارياً وإجراءات روتينية من جانب البنوك المصرية، لكن في النهاية بقي ذلك الحل متاحاً أمام البعض.

بالإضافة إلى ذلك، اتجه كبار التجار لشراء كميات كبيرة من احتياجاتهم من المصانع خلال الأشهر الماضية تحسباً للأمر الذي أدى إلى توقف دورة البيع لدى العديد من المصانع التي انتهت من توريد ما لديها من منتجات.

هذه المصانع، حسب المتحدث، عليها الآن دفع رواتب موظفيها والحفاظ على دورة الإنتاج دون تأثر، في وقت لا تستطيع فيه توفير العملة الصعبة التي تشكل عصب الإنتاج بالنسبة للأجهزة الإلكترونية على وجه التحديد.

لجأ أصحاب بعض أصحاب المصانع للدفع بالذهب لشراء المواد الخام من الخارج (أرشيف)
لجأ أصحاب بعض أصحاب المصانع للدفع بالذهب لشراء المواد الخام من الخارج (أرشيف)

صناعة الملابس.. أزمة الصيف القادمة 

قد يصطدم المصريون بأن أسعار الملابس الصيفية قد تضاعف سعرها، أو قد لا تتوفر بالأساس، وفقاً لمصدر بمجلس إدارة الغرف التجارية، والذي أكد أن مصانع الملابس الجاهزة لم تعد قادرة على شراء الخامات ومستلزمات الإنتاج.

وكشف المصدر أن هذه المصانع وبسبب شح الدولار قد تواجه خسائر جديدة في حال تمكنت مصانع أخرى من شراء مستلزماتها بسعر منخفض، ومن ثم بيع منتجاتها بسعر منخفض أيضاً، ولن تكون التنافسية في صالحها بتلك الحالة. 

وبحسب المتحدث ذاته، فإن شهر ديسمبر/كانون الأول من كل عام يعتبر موسم تجهيز الملابس الصيفية، لكن مع انتصاف الشهر لم تحصل المصانع على مستلزمات التصنيع بعد.

وأشار المصدر من مجلس إدارة الغرف التجارية إلى أن الدولار قد يكون متاحاً في السوق السوداء، لكن هناك اضطراباً في أسعاره، وقد يتم تحديده بسعر معين، وعند الحصول عليه قد يتغير السعر هبوطاً أو صعوداً.

والمشكلة الكبرى تتمثل في ارتفاع تكاليف الإنتاج بصورة كبيرة، وهناك عدد كبير من المصانع الصغيرة لن تستطيع تحمل التكلفة، وسيكون مصيرها الإغلاق، كما أن أسعار الملابس الصيفية ستكون مرتفعة للغاية لأنها ستكون قليلة.

8000 مصنع متوقف والحصيلة قابلة للزيادة

حسب أرقام لجنة الصناعة بالبرلمان المصري، فإن ما يقرب من 8 آلاف مصنع توقفت عن الإنتاج خلال الفترة الماضية، فيما يقول مصدر بالغرفة التجارية إن 6 آلاف مصنع منها توقفت خلال هذا العام، فيما تشير بيانات وزارة التجارة والصناعة إلى أن عدد المصانع المغلقة لا يتجاوز 78 مصنعاً فقط.

وكشف خبير اقتصادي أن ظاهرة المصانع المغلقة في مصر خلال العام المقبل تتزايد، في ظل غياب خطة للحكومة تضمن من خلالها تقديم تسهيلات لأصحابها لضمان استمرار دوران عجلة الإنتاج.

وكشف الخبير لـ"عربي بوست" أن المصانع المتعثرة ارتفع عددها بصورة كبيرة في مصر، وأن المناطق الصناعية في المدن الجديدة تئن في الوقت الحالي نتيجة عدم قدرتها على تحمل رواتب العمال، في وقت توقفت فيه عجلة الإنتاج بشكل كبير.

وأشار المتحدث إلى أن أرقام المصانع المتوقفة مزعجة في ظل أزمات اقتصادية خانقة تعانيها البلاد، رغم أن الحكومة تتلقى تعليمات من رئيس الجمهورية لدعم الصناعة المحلية، لكنها لا تستطيع تنفيذها في ظل غياب العملة الصعبة.

ويؤكد الخبير أن قوائم الانتظار الطويلة لدى البنك من جانب المستثمرين للحصول على الدولار تزايدت بشكل كبير خلال الشهرين الماضيين، والحكومة فشلت في سد الفجوة الكبيرة بين السوق الموازية والأسعار الرسمية في البنوك.

ولا يمكن الفصل بين أزمة الصناعة المصرية وبين حالة الاقتصاد بوجه عام، وهو ما عبرت عنه وكالة "فيتش" (Fitch) للتصنيف الائتماني التي عدلت نظرتها المستقبلية لمصر في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى "سلبية"، بعد أن كانت "مستقرة".

بدورها، كانت وكالة "موديز" قد غيرت النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري إلى سلبية بدلاً من مستقرة، ولكنها أبقت تصنيفها عند "بي 2" (B2)، محذرةً من أي انخفاض في الاحتياطيات الأجنبية لدى البنك المركزي قد يدفعها إلى خفض تصنيف البلاد للمرة الأولى منذ مارس/آذار 2013.

قرض صندوق النقد لن يحل الأزمة

وافق المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي، مؤخراً، على قرض موسع لمصر مدته 46 شهراً بقيمة 3 مليارات دولار، سيتم صرف 347 مليون دولار منها على الفور، وهو أقل من مبلغ 750 مليون دولار الذي توقعه وزير المالية في وقت سابق.

وأوضح صندوق النقد في بيان له، أنه من المتوقع أن يؤدي تسهيل الصندوق الموسع "إي إف إف" (EFF) إلى تحفيز تمويل إضافي بنحو 14 مليار دولار من شركاء مصر الدوليين والإقليميين، وهو أكثر من المبلغ المتوقع الذي كان 9 مليارات دولار.

ويؤكد مصدر حكومي على صلة بحركة سوق العقارات أن صرف مبلغ 347 مليون دولار فقط لمصر في الوقت الحالي يؤدي لاستمرار أزمة الدولار خلال الفترة المقبلة، حتى إن ارتفعت قيمة الجنيه أمام الدولار بشكل ضئيل في السوق السوداء.

الدولرة تُهدد الجنيه المصري

أضاف المصدر نفسه، في حديثه مع "عربي بوست"، أن الشركات الكبرى والمصانع بدأت في اتخاذ إجراءات تحصينية بالنسبة لها، من خلال مطالبة التجار والوكلاء بالحصول على ما تقدمه من خدمات إنتاجية مقابل الدولار.

هذه العملية وصفها المصدر نفسه بـ"دولرة المعاملات التجارية"، وإن كان ذلك مخالفاً قانوناً فإن العديد من الشركات العقارية على سبيل المثال بدأت في بيع عقاراتها باهظة التكاليف بالدولار بدلاً من الجنيه المصري.

ويلفت المصدر ذاته إلى أن استمرار نقص الدولار يساهم في تنامي المعاملات غير الشرعية في الأسواق، خصوصاً أن الحكومة طلبت من أصحاب المصانع البحث عن مسارات تُوفر من خلالها الدولار لاستيراد منتجاتها من الخارج.

لكن، وحسب المتحدث نفسه، فإن هذه الممارسات التي تُعتبر غير قانونية تُهدد بفقدان العملة المصرية الجنيه لقيمتها في التعامل كورقة نقدية في البيع والشراء.

وتتبنى الحكومة المصرية رؤية مفادها أن إجراءات خفض قيمة الجنيه واعتماد سعر صرف مرن وفقاً لاشتراطات صندوق النقد الدولي للحصول على القرض، تساهم في تعزيز الإنتاج المحلي وزيادة قيمة الصادرات.

ووفقاً لرؤية وزارة المالية فإن انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار سيزيد من قيمة الصادرات، وبالتالي ستزيد تنافسية الصادرات المصرية في الأسواق الخارجية أمام صادرات العالم، وهو أمر سيحسن الميزان التجاري ويخفض الطلب على الدولار.

لكن العديد من التجار والمستثمرين يرون أن الرؤية لا يمكن تنفيذها على الأرض، لأن المادة الخام يتم استيرادها من الخارج ولابد من توفيرها أولاً في ظل عدم وجود بدائل محلية وبجودة مرتفعة.

ويرى رجال الأعمال أن التعويم الكامل، من دون سياسات وخطة واضحة لجذب الاستثمارات المباشرة وتشجيع الصادرات والصناعة الوطنية وتوطين التكنولوجيا لتقليل الاستيراد من الخارج، سيكون نتيجته مزيداً من تدهور سعر صرف الجنيه.

وشهد الدولار الجمركي، وهو السعر الذي تحدده وزارة المالية للدولار مقابل الجنيه المصري، سلسلة من الارتفاعات المتتالية بداية من 16 جنيه في أبريل/نيسان 2022، حتى بلغ 19.31 في سبتمبر/أيلول الماضي، وسط توقعات بزيادته مجدداً خلال الفترة المقبلة.

“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟

بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى. 

نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”

تحميل المزيد