تهميش متعمد، بنية تحتية ضعيفة، افتقار لأدنى الخدمات الصحية والتعليمية، ارتفاع نسبة البطالة، كلها عوامل حولت مدن جنوب الأردن إلى قنبلة اجتماعية قابلة للتفجير في أي وقت.
فأهل الجنوب، الذين يعتبرون أنهم ساعدوا في تأسيس المملكة الأردنية يداً بيدٍ مع الهاشميين، أصبحوا يرون أنفسهم خارج دائرة الزمن، وبعيدين عن أي تطور حضاري تعيشه البلاد، ويعتبرون أوضاعهم الاجتماعية الأكثر تدهوراً في البلاد.
وتعيش الأردن موجة احتجاجات بدأت بإضراب شاحنات النقل قبل 10 أيام بسبب غلاء المحروقات، لكن هذه الاحتجاجات تركزت أكثر بمدن الجنوب، التي رفعت سقف المطالب.
لماذا جنوب الأردن؟
الناطق باسم الحركة الفكرية الأردنية عمر النظامي قال إن تهميش محافظات جنوب الأردن هو واقع، على الرغم من أنّهم هم الذين ساعدوا على تثبيت الحكم في الأردن.
وقال المتحدث لـ"عربي بوست" إن جنوب الأردن ليس مهمشاً فحسب، بل يتم التعامل مع أهله كمجرد "بدو" أو "غجر" ليس لديهم أدنى مقومات الخدمات، على حد وصفه، بالإضافة إلى غياب أي اهتمام بحقوق الإنسان في المنطقة.
ويعود سبب هذا التهميش، حسب المتحدث، إلى تمكن الدولة من السيطرة على شيوخ عشائر وقبائل جنوب الأردن، وذلك من خلال ميثاق شرفي يلتزم من خلاله شيخ العشيرة بالولاء للدولة، وبموجبه لا يستطيع أحد فعل شيء دون الرجوع إليه.
"لذلك فإنّ ولاء شيوخ العشائر والشخصيات السياسية بالمنطقة، عبر منحهم مناصب في الدولة ومقاعد في مجلس النواب، يُعدّ السبب الحقيقي الذي أدى لتهميش جنوب الأردن، بسبب تبعيتهم الكاملة للنظام السياسي، وتنفيذهم أجندات الدولة في الجنوب، على حد تعبير المتحدث.
محافظة الكرك.. أكبر ضحايا جنوب الأردن
تعدّ منطقة فقوع بمحافظة الكرك جنوبي الأردن، والتي تضم 8 قرى (مجدولين، فقوع، أم هلال، صرفا، إمرع، نوعيم، الزهراء، شحتور) أحد أكثر المناطق تهميشاً بالمملكة.
يبلغ عدد سكان منطقة فقوع أكثر من 30 ألف نسمة، غالبيتهم من أبناء قبيلة بني حميدة، ونسبة المتعلمين تفوق 95%، وتُعتبر هذه المنطقة الأولى على مستوى محافظات الأردن بنسبة عدد المتعلمين.
يقول الناشط السياسي أحمد نوفل الحمايدة إن هذه الأرقام الإيجابية لا تنعكس على واقع المنطقة، فالعديد من المدارس والمباني الحكومية لا تزال مستأجرة وليست ملكاً للدولة، وتفتقر إلى أبسط أنواع السلامة والجو المهني.
وأضاف المتحدث أن نسبة البطالة في منطقة فقوع تتجاوز 80%، وأغلب السكان يعتمدون على العمل في القطاع الزراعي، وأعمال المياومة المؤقتة الممنوحة من الحكومة، والتي لا تتجاوز ثلاثة أشهر فقط.
ويبدي الحمايدة استغرابه من وجود بعض العائلات في منطقة فقوع، لديها أكثر من ثلاثة خريجين ما زالوا ينتظرون الوظائف، كما أنّه لا يكاد منزل يخلو من الجامعيين العاطلين عن العمل.
وأشار المتحدث إلى افتقار المنطقة إلى البنية التحتية، بالإضافة إلى سوء الخدمات، فمثلاً أقرب مستشفى بعيد عن السكان بـ30 كيلومتراً، وعدد كبير من المرضى فقدوا حياتهم قبل وصولهم للمستشفى.
وحسب المتحدث فإن المنطقة يوجد بها مركز طبي صحي واحد وشامل، لكنّه غير مفعل، ويفتقر لأطباء الاختصاص، وهذا يعني تردي الخدمات الصحية، رغم أن أبناء المنطقة حاولوا تقديم مطالبهم، لكن لم تتم الاستجابة لهم.
ويشير الحمايدة إلى أنّ آخر زيارة حكومية إلى المنطقة كانت بعهد رئيس الوزراء الأردني الأسبق عون الخصاونة في فترة تسلمه الحكومة سنة 2012، ومنذ ذلك الوقت لم يلتفت أي مسؤول حكومي أو الملك وولي عهده إلى مطالب المنطقة.
محافظة الطفيلة.. الأزمة لا تختلف
والوضع في محافظة الطفيلة التي توجد جنوب الأردن لا يختلف عن منطقة فقوع التي تقع شمال محافظة الكرك، التي تُعاني تهميشاً على مدار العصور من طرف الدولة.
خالد الخصبة شاب يبلغ من العمر 29 سنة، من مواليد محافظة الطفيلة، قال إن أغلب سكان المحافظة يعيشون على القروض، ولا توجد دوائر ومؤسسات تابعة للدولة لتعيين الخريجين مثل بقية المحافظات في الوسط والشمال الأردني.
وأضاف المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست" أنّ الشعب الأردني اعتاد السكوت والجبن، ولا ينتفض إلا إذا حدث حراك أو انتفاضة من الجنوب، وتحديداً من الطفيلة ومعان والكرك.
وكشف المواطن الأردني، الذي يُعاني من مرض الكبد ويحتاج لعملية زراعة الكبد، أن الخدمات الصحية في محافظته ضعيفة وتكاد تكون منعدمة، والبديل هو مستشفى الأردن الخاص المكلف.
وحكى المتحدث بكل حرقة عن المماطلة التي طالته في المدينة الطبية لكي يُجري العملية الجراحية المهمة، الأمر الذي فاقم سوء وضعه الصحي، وأصبح عاجزاً كلياً بسبب التأخير، رغم تدخل أحد الأعيان لدى المستشفى.
أم صيحون.. قرية مهمشة في معان
"ماعندنا شيء أصلاً، نفتقد إلى الشوارع، وإلى البنية التحتية الجيدة، ونعاني من ضعف الخدمات الصحية والتعليمية"، هكذا تحدث عمر البدول، مدرس لغة إنجليزية من قرية أم صيحون التابعة لمدينة بترا بمحافظة معان.
ويروي البدول قصة قريته لـ"عربي بوست"، هذه القرية التي تغيب عنها الخدمات الصحية، وعلى الرغم من توفر مركز صحي لكنّه بحاجة إلى إعادة التأهيل بسبب غياب الطبيب الذي يأتي مرة واحدة في الأسبوع.
وأضاف المتحدث أن "المركز صغير جداً، وقدمنا مطالبنا منذ أكثر من عشر سنوات لتطويره، فكان الرد هو توسيعه بغرفة إضافية، لكن من سيشتغل في هذه الغرفة ويفحص المرضى؟".
أما على المستوى التعليمي فإنّ التعليم، بحسب عمر البدول، متدنٍّ جداً بالمنطقة، و90% من المعلمين بالمدارس يعملون على نظام الإضافي وليسوا معينين رسمياً، وليست لديهم الخبرة وأساليب التدريس وطرق التعامل الكافية مع التلاميذ.
وبحكم قرب قرية أم صيحون من منطقة البترا الأثرية فإن اقتصاد المنطقة يُعول على المداخيل التي يحصل عليها السكان من السياحة، ما يجعلهم يعزفون عن تعليم أبنائهم لتوفير لقمة العيش.
وأشار المتحدث إلى أنه إذا أقبل السائحون بالخارج على المنطقة فسيكون الدخل للسكان جيداً، أما إذا كانت حركة السياحة منخفضة كما هو الحال في جائحة كورونا فلن يكون هناك دخل نهائياً للسكان.
قصة تهميش أم صيحون بدأت، حسب عمر، منذ زمن طويل قائلاً: "قبيلتنا هم السكان الأصليون لمنطقة البترا، والسبب عدم رغبة الدولة تثبيت القبيلة في المنطقة لإجبارهم على الرحيل في أي وقت بمبرر تطوير المنطقة السياحية وتأهيلها".
ومنذ خروج السكان من كهوف البترا عام 1984 باعتبارها المساكن الأصلية لهم، كانت المساكن الحديثة في منطقة أم صيحون التي وفرتها الدولة لعشيرة البدول، بحسب رواية الشاب عمر، شيئاً كبيراً.
لكن، وحسب المتحدث، بعد مجيء الجيل الجديد من القبيلة قدموا مطالب لتحسين وتطوير ظروف المعيشة في المنطقة، لكنّ المسؤولين لم يلتفتوا لتلك المطالب، مكتفين بإطلاق وعود كاذبة دون تحقيق أية منجزات على أرض الواقع.
وبالنسبة للخدمات الترفيهية يوجد في أم صيحون ملعب قديم متهالك رغم تقديم طلب إنشاء ملعب رياضي في المنطقة منذ 7 سنوات، فكانت الاستجابة إنشاء ملعب صغير لا يتسع إلا لسبعة لاعبين، ويفتقد بحسب البدول للمعايير الرياضية الصحيحة.
وتعدّ منطقة البتراء الأثرية النقطة المهمة والحلقة الأكبر لعشائر البدول، فهي بمثابة "المقدس" الذي لا يمسّ بالنسبة لأهالي "أم صيحون"، لأنّهم عاشوا وولدوا وترعرعوا فيها، وجميع مصالحهم مرتبطة بها.
وتبقى أبرز مطالب البدول منذ 30 عاماً توسعة أراضي المنطقة، والسماح لهم بالتمدد العمراني، فمنطقة أم صيحون تعدّ من أكثر القرى والمناطق المكتظة سكانياً بالأردن.
ويوجد أكثر من 5000 نسمة في بقعة صغيرة جداً لا تتجاوز مساحتها كيلومترين مربعين، ويؤكدّ سكان المنطقة عدم تنفيذ أي من الوعود التي قطعتها لهم سلطة إقليم البترا، ولم تمنح لهم تراخيص البناء.
ليس الجنوب فحسب
حالة التهميش هذه ليست حصراً على جنوب الأردن، بل تشمل مناطق أخرى بالبلاد، باستثناء عمّان والزرقاء لقربهما من العاصمة، والسبب في ذلك يعود لمركزية العاصمة اقتصادياً.
فمثلاً تجد مدينة إربد، الأكثر تحصيلاً أكاديمياً، وأقّلها أمية، والأكثر ازدحاماً في الأردن من حيث السكان، وثاني المدن من حيث العدد بعد العاصمة عمّان، لكنّها تعاني البطالة.
وتُعاني مدينة إربد من الإهمال في البنية التحتية ونقص الأدوية، وضعف المنظومة الصحية، وضعف التعليم، الأمر الذي دفع الأسر للجوء إلى التعليم الخاص لتدريس أبنائها.
الكاتب والمحلل السياسي الأردني أحمد سليمان العمري، قال إن التهميش ليس فيما هو مادي، بل طال حتى حرية التعبير المصادرة في كل أنحاء الأردن، والإضراب الأخير شمل مدن الجنوب والشمال.
ويرى العمري في حديثه مع "عربي بوست" أنّ المطالب بدأت بتخفيض ضريبة المحروقات لتطول الإضراب العام لارتفاع السلع عامة، حتى إنّ بلدية الكرك أعلنت عن إضراب شامل وعام، اليوم الإثنين.
وأشار المتحدث إلى أن الأردنيين قاطبة، باستثناء عمّان لمركزيتها والزرقاء لقربها من العاصمة، يعتمدون على الوظيفة الحكومية التي تشمل الجيش وقطاع الأمن العام.