حماس وتوتر وترقّب قبل بدء المباراة، متابعة على أشدها أثناء لعب فريقك المفضل، تقفز من على الأريكة إذا فاز فريقك، وتمضي ليلةً سيئةً حين يخسر أو تختبر حالةً من تدنّي المزاج وفقدان الحماس لفعل الأشياء. ما سبب تعلّق متابعي كرة القدم باللعبة إلى هذا الحدّ؟ وما هي الكيمياء التي تتناغم بينك وبين فريقك؟
نرصد في هذا التقرير ما يقوله العلم عن كيفية تفاعل دماغك وجسدك مع لعب فريقك ومباريات المونديال التي تحب، وكيف تلعب الهرمونات دوراً مهماً في إنشاء وتقوية هذه الرابطة.
تناغم هرمون التستوستيرون مع الفريق
قد لا تفاجئك الأبحاث التي تتحدث عن ارتفاع هرمون التستوستيرون لدى اللاعبين الرياضيين ترقّباً للمباريات وعند فوزهم، لكن الأبحاث اللاحقة أثبتت أن المشجعين يشاركون اللاعبين في هذا الارتفاع أيضاً.
يُعرف هرمون التستوستيرون بهرمون الذكورة عموماً، ويعود سبب التسمية لكونه الهرمون الجنسي الرئيسي عند الذكور ويُنتج في الخصيتين، لكنه في الحقيقة هرمون ذو وظائف متعددة ومهمة في صحة الإنسان وحياته، ويوجد لدى النساء أيضاً حيث يُنتج في المبيض والغدة الكظرية.
أراد باحث علم السلوك بول برنهاردت أن يثبت أن الترابط المعنوي الشديد بين المُشجع وفريقه، الذي يجعل المشجعين يتحدثون بعبارات شخصيّة عن فرقهم مثل: "فزنا اليوم" و"علينا أن نفعل كذا"، يصل حتى الهرمونات.
ولإثبات هذا الأمر، أجرى برنهاردت وفريقه دراستين منفصلتين، قيست بهما مستويات التستوستيرون لمشجعين ذكور حضروا مباراة كرة سلة في الدراسة الأولى ومباراة نهائي كأس العالم لكرة القدم عام 1994 بين البرازيل وإيطاليا، عبر جمع عيّنات من لُعاب المشجعين قبل وبعد المباراة.
تبيّن في الدراستين أن مستويات التستوستيرون زادت بنحو 20% عند مشجعي الفرق الفائزة، وانخفضت بنحو 20% لدى مشجعي الخاسرين.
في تعليقه عن الدراسة، يقول برنهاردت إن الأمر لا يتعلّق فقط بضخّ هرمون التستوستيرون في الجسد أو قوّة البنية، بل يتعلّق بـ"إحساس المكانة، باغتنام اللحظة"، فهرمون التستوستيرون يُنتج أثناء المنافسة الشديدة -حتى ولو كانت على الصعيد النفسي البحت- وبالتالي يمكن للمشجعين دون بذل جهد اللعب والتدريب وخلافه أن يتمتعوا بتجربة المنافسة هم أيضاً، فضلاً عن "تجربة اكتساب المكانة التي تصاحبها".
مناطق المتعة والألم والعدوانية
ماذا يحدث حين تتماهى الـ"أنا" مع الـ"نحن" في التنافسات الرياضية؟ وكيف يؤثر حبنا لفريق ما وتشجيعنا له على سلوكنا ومواضع المتعة والألم في أدمغتنا؟
تقول البروفيسورة في مجال النفس وعلوم الدماغ والإدراك مينا سيكارا إن العيش ضمن مجموعات كان أمراً ضرورياً لبقائنا على قيد الحياة في المراحل الأولى للبشرية، وأن التعاون مع الآخر وتقديره كان وسيلة لجني شتّى الفوائد الماديّة والنفسيّة، لكن الانتماء هو أيضاً مصدر للصراعات الاجتماعية والدمار.
ووفقاً لسيكارا، فقد ركّزت الأبحاث سابقاً على تصوّرات أفراد المجموعات عن أفراد المجموعات الأخرى، لكن ما يغفله هذا التركيز أننا نحن أيضاً عندما نصبح جزءاً من "نحن"، أي ننتمي إلى مجموعة، نتغير نحن أيضاً.
ولذلك أرادت سيكارا مع باحثين آخرين في مجالي علم النفس والأعصاب من جامعة برينستون –ماثيو بوتڤينيك وسوزان فيسك– أن يطّلعوا على أدمغة المشجعين أثناء مشاهدة المباريات، ورؤية النشاط العصبي الحاصل في الوقت الفعلي، لمعرفة أيّ من الخلايا العصبية ستتفاعل في لحظات انتصار الفريق المحبوب أو انهزاماته.
أخضع الباحثون مشّجعين مخلصين لفريقي بيسبول شهيرين -يانكيز وريد سوكس- للمسح الدماغي بتقنية fMRI -تصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي- أثناء مشاهدتهم مقاطع تخصّ الفرق التي يشجعونها والفرق المنافسة.
وبيّنت نتائج الدراسة في النهاية، أن المواقف السلبية بالنسبة للمشجع -إخفاقات فريقه مثلاً- نشّطت منطقتين في دماغه، وهي القشرة الحزامية الأمامية (ACC) والفص الجزيري (Insula).
تنشط هذه المناطق أثناء تجربة الفرد للألم بنفسه وعند مشاهدته لألم الآخر، فقد تحصل هذه الاستجابة العصبية عند تعاطف الفرد مع ألم أحد أفراد الأسرة مثلاً، لكنها ظهرت هنا لرؤية فيديو يتعلق بحركة رياضية مخيبة ما، أي أن المشجع لم يتعرض لألم حقيقي ولا اللاعب، لكن الاستجابة العصبية ظهرت مع ذلك.
بالمقابل، نشّطت المقاطع الإيجابية الجسم المخطط البطني في الدماغ (ventral striatum)، وهي المنطقة التي ترتبط عادةً بالمكافأة والتحفيز والمتعة.
أي أن رؤية المشجع لمقطع فيديو ينجح فيه فريقه بفعلِ شيءٍ ما، أو يفشل فريقه المنافس بفعلٍ ما، يحفّز المنطقة الدماغية المرتبطة باختبار التجربة الذاتية للمتعة، وبالتالي عند تحقيق اللاعب فوزاً ما فإن مراكز المتعة في الدماغ تتحفّز لدى اللاعب -وفقاً لأبحاث سابقة- والمشجّع أيضاً، في تناغمٍ مجموعاتيّ.
إلا أن النتيجة الجانبية المقلقة التي توصلت إليها الدراسة تكمن في ارتباط استمتاع المشجع بإخفاقات فريقه المنافس -حتى ولو كانت هذه الإخفاقات مقابل فريق ثالث- بزيادة الميل للعدوانية ضد المشجعين الخصوم.
وتبين ذلك عبر اكتشاف الباحثين بأن زيادة تنشيط مناطق المتعة في أدمغة المشجعين أثناء رؤية نكبات الفريق المنافس أو فشله، ترتبط بزيادة الرغبة في إحداث الأذية ضد الفريق المنافس أو مشجعيه والمرتبطين به.
تذكّر مينا سيكارا -التي تجري أبحاثها حالياً في مختبر هارفارد للعلوم العصبية بين المجموعات- أن هويتنا وانتماءاتنا الجمعية تجعلنا نفعل ونقول أشياء قد لا نفعلها خارج تأثير المجموعة، وأن المجموعات تتسبب بتغيير الطريقة التي يتصرّف بها الناس وتوقّعاتهم عمّا هو "مناسب" في المواقف المختلفة.
التعلّق العاطفي بالفريق والدوبامين
أقدم باحثون في علم الأعصاب الاجتماعي المعرفي والوجداني على إجراءٍ دراسةٍ تحاول فهم "الحبّ القبلي" الذي يربط المشجع بفريقه، والخلفيّة العصبية للانخراط العاطفي الرياضي الذي لا يمكن فصله عن الحبّ الرومانسي والأمومي وغيره.
لجأ الباحثون لدراسة مشجعين متنوعين لفريقين من أندية كرة القدم البرتغالية عبر إخضاعهم لمسوحات الدماغ -بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI- أثناء مشاهدتهم لمقاطع فيديو تتعلق بمواقف رياضية إيجابية أو سلبية لفريقهم والفرق المنافسة والمحايدة.
وجدت الدراسة انخراط مناطق متعددة في أدمغة المشجعين -مناطق نظام المكافأة واللوزة الدماغية والغشاء البطني والمادة السوداء- أثناء مشاهدتهم للفيديوهات، فيما اعتبره الباحثون نوعاً من الحبّ القبلي غير الرومانسي من الفرد لمجموعته متمثلاً بحالة تحفيزية قوية متحيزة في معالجة المحتوى الإيجابي فيما يخصّ الفريق.
وأظهرت النتائج "أوجه تشابه مذهلة" من الجهة العصبيّة ما بين الارتباط العاطفي القوي للمشجعين بأعضاء مجموعتهم مع الأسس العصبية لحبّ الأم والحبّ الرومانسي، وتفضيل الفرد لأعضاء مجموعته مقابل من هم خارجها.
ووفقاً للدراسة، فإن رؤية المشجع لفيديوهات فريقه المحبوب تُنشط مناطق المكافأة الدوبامينية في الدماغ، والدوبامين هو ناقل عصبي يشترك في المكافأة والتحفيز والإدمان لدى الإنسان؛ إذ يُفرز الدوبامين من الدماغ خلال النشاطات التي تبعث على الشعور بالمتعة، ويُنشّط بدوره مسارات المكافأة في الدماغ، وقد يكون الشعور بالمكافأة من اللحظات الرياضية العاطفيّة هو "الغراء اللاصق" الذي يحفّز المجموعة على التماسك مع بعضها.
وبيّنت الدراسة أيضاً أن زيادة درجة التعصّب لدى المُشجّع تجعله يختبر لحظات كرة القدم بشكل مختلف فعلياً في دماغه، وهو ما يتوافق مع الطريقة التي أبلغ فيها المشجّعون الأكثر تعصباً لفرقِهم عن تجاربهم الكروية باختلافها عن الآخرين؛ إذ تختلف استجابتهم العصبية الفرديّة للتجارب العاطفية الإيجابية والسلبية فيما يخصّ الفريق.