تبيّن الوثائق الصادرة عن وزارة العدل الأمريكية تغيير اللوبي البحريني في واشنطن لسرديّته في الآونة الأخيرة؛ ليجعل التطبيع مع إسرائيل المحور الرئيسي لمغازلة صنّاع القرار الأمريكيين والدفع نحو مختلف المصالح البحرينية.
تتبع "عربي بوست" جميع الوثائق المنشورة من شركات الضغط واللوبي العاملة لصالح البحرين في السنوات الأخيرة؛ ليجد أن البحرين قد استخدمت التطبيع ذريعةً لمساعدتها في مختلف الملفّات، بما في ذلك التغطية على انتهاكات حقوق الإنسان، وشراء السلاح الأمريكي والتسويق لصورة الحليف الاستراتيجي لأمريكا في المنطقة بعدما كانت تركز في السابق على سردية مواجهة التهديدات الإيرانية واستضافة مقر قيادة الأسطول الخامس الأمريكي ومساعدة التحالف الدولي في مواجهة تنظيم داعش.
نستعرض في هذا التقرير الأثر الذي أحدثه تطبيع البحرين مع إسرائيل على طريقة تسويق المملكة لمصالحها في أروقة واشنطن، وكيف روّجت لصورتها استراتيجياً ودبلوماسياً باعتبارها البلد الحامي والمثبت للسلام في المنطقة بعد توقيع اتفاقيات أبراهام.
لوبي لمساعدة البحرين في واشنطن
دأبت السلطات البحرينية على توظيف شركات الضغط والعلاقات العامة المختلفة في سنوات العقد الأخير للعمل على تحسين صورتها في ميادين اتخاذ القرارات في واشنطن، والتأثير بما يتناسب مع مصالحها هناك.
وبفضل قانون فارا الأمريكي، الذي يُنظّم أنشطة الضغط السياسي داخل الولايات المتحدة ويُلزم بتسجيل الوكلاء الأجانب (الجهات غير الأمريكية)، فإن هناك ثروة من الوثائق الصادرة عن وزارة العدل الأمريكية التي يُمكن عبرها تتبع أنشطة وتمويلات وتوجهات البحرين وغيرها من دول فاعلة.
عند العودة لتعاملات البحرين مع شركات "اللوبي" والضغط والعلاقات العامة الأمريكية، نجد أن السلطات البحرينية كانت تُروّج باستمرار لصورة المملكة التي تقوم بخطوات إصلاحية كبيرة في المجالين الإنساني والحقوقي، وعلى أنها حليف دفاعيّ مهم على الولايات المتحدة أن تضعه بعين الاعتبار دوماً في الجبهة المقاومة لإيران وروسيا والمؤسسة للسلام في المنطقة.
إنفاق مملكة البحرين على شركات الضغط واللوبي الأمريكية في السنين الأخيرة، مصدر الصورة: Open Secrets
إحدى شركات الضغط الرئيسية التي تعاقدت معها البحرين مؤخراً شركة BGR Group، وهي واحدة من أكثر شركات الضغط نفوذاً وتأثيراً في واشنطن.
كان التعاقد الأول مع هذه الشركة من قبل سفارة مملكة البحرين لدى الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف عام 2018، وجرى تجديد التعاقد مرتين بعدها في كلّ من 2020 و2021.
ووفقاً لما تنصّ عليه بنود العقد، يُفترض لشركة الضغط أن تُقدم النصح والمشورة الاستراتيجية بشأن القضايا التي تهم السفارة البحرينية، وتقديم المشورة لها أيضاً بشأن سياسات الولايات المتحدة في القضايا المماثلة وغير ذلك، والإبقاء على تواصل مع أعضاء الكونغرس وموظفيهم ومسؤولي السلطة التنفيذية، بالإضافة لمساعدة سفارة البحرين في مجال العلاقات العامة.
وتتقاضى شركة الضغط هذه 65 ألف دولار شهرياً من السفارة البحرينية، بالإضافة لتعويضات عن النفقات العادية والشخصية، بما في ذلك تذاكر الطيران الدولية والمحلية ومصارف الإقامة والنقل والوجبات والمصروفات العرضية الأخرى وفقاً للعقد.
فما الذي تُظهره وثائق BGR عن توجهات السفارة البحرينية والمملكة في الولايات المتحدة؟ [أو كيف تغير بعد التطبيع]؟
حملة ترويج لكل خطوات التطبيع
منذ أن وقّعت البحرين مع إسرائيل اتفاقية التطبيع في سبتمبر/أيلول 2020، بدأت تتكثف المواد التي تكتبها شركة BGR بالنيابة عن السفارة البحرينية، لتُبلّغ عن كل خطوة تُقدِم عليها البحرين باتجاه إسرائيل، وتنقل كل إشادة تتلقاها المملكة على مجريات التطبيع من أحد المسؤولين الأمريكيين، وتؤسس لصورة المملكة باعتبارها الحليف المثالي للولايات المتحدة بدلالة التطبيع أيضاً.
تختلف طبيعة هذه المواد، فبعضها كُتب بمثابة بيانات رسمية تُمثل سفارة البحرين في الولايات المتحدة أو منشورات ترويجية عن البحرين تُوزع لتجميل صورة البحرين والدفاع عن سرديتها، ومنها رسائل بريد إلكتروني قد ترسل لأعضاء الكونغرس وموظفيهم والمسؤولين الأمريكيين المعنيين للضغط لصالح البحرين في أروقة واشنطن.
من ضمن المواد الأربع التي شاركتها الشركة مع وزارة العدل الأمريكية في 2022، تذكر ثلاث مواد "مشاركة البحرين التاريخية في اتفاقات أبراهام" وتستشهد باتفاقية التعاون الأمني الموقعة بين البحرين وإسرائيل علامةً على مثابرتها في تحقيق التطبيع، وكذلك تعميق التنسيق الدفاعي مع إسرائيل، و"احتضان البحرين" لروح اتفاقات أبراهام عبر افتتاح السفارات وغيرها.
ومن بين المواد العشر التي قدّمتها الشركة بالنيابة عن السفارة البحرينية في 2021، تتحدث 6 مواد عن إنجازات المملكة وتقدمها الحثيث نحو التطبيع مع إسرائيل، بما في ذلك تشغيل الرحلات الجوية التجارية بين تل أبيب والمنامة، و"قيادة البحرين للمنطقة" في تعزيز التعاون من خلال المشاركة باتفاقات أبراهام، والاحتفاء بالذكرى السنوية للتوقيع على اتفاقية التطبيع، ووصول أول سفير إسرائيلي للبحرين، وأول سفير بحريني لإسرائيل، وإشادة وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو بالإمارات والبحرين لتوقيعهما الاتفاقيات.
وفي عام 2020 الذي وقّعت فيه البحرين اتفاقية التطبيع، جهّزت الشركة 4 مواد بعد التوقيع تحدثت جميعها عن مشاركة البحرين في اتفاقات أبراهام واستدّلت بها على حسن سلوك المملكة وريادتها في مجال التطبيع.
وتباينت مواد عام 2020، فمنها كان تجميع للمقالات التي نشرت في الصحف التي تُثني على خطوات البحرين التطبيعية مثل جهودها في تكوين الشراكات التقنية والثقافية وغيرها، ومنها ذو طابع خبري مثل الإعلام عن إقامة أول رحلة تجارية مباشرة من إسرائيل إلى البحرين، وكذلك ريادة البحرين بين الدول العربية في الانضمام للولايات المتحدة في جهود "مكافحة معاداة السامية ونزع الشرعية عن دولة إسرائيل"، والدعوة لمشاركة إسرائيل مع دول الخليج للتعاون في مواجهة التهديد الإيراني.
ذريعة لإخفاء الممارسات القمعية
لا تتمتع البحرين بسمعةٍ طيبةٍ تماماً في المجالين الحقوقيّ والإنساني، حتى إن منظمة هيومن رايتس ووتش أصدرت تقريراً خاصاً في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2022، تحت عنوان "لا يمكنك القول إن البحرين ديمقراطية" للتحدث عن ما اعتبرته زيادة في الممارسات القمعية ونشر ثقافة الخوف في البحرين.
ورغم التقارير السابقة التي تحدثت عن انتهاكات السلطات البحرينية لحقوق الإنسان عبر اللجوء للتعذيب وسوء المعاملة وأحكام الإعدام، وزيادة في قمع النشطاء والحقوقيين والصحفيين، إلا أن التقرير الأخير يقول إن السلطات البحرينية توسّع من تهميشها لأي معارضة سياسية عبر اللجوء لتطويع القانون نفسه ليصبح أداة قمعيّة.
وعند العودة إلى المواد التي وفّرتها شركة الضغط بالنيابة عن البحرين، يتبين أن التطبيع مع إسرائيل جرى استخدامه مراراً للتغطية على الانتهاكات التي تُتّهم بها البحرين أو الدفاع عن صورة البحرين في المجال الحقوقي إزاء دعوات المنظمات الإنسانية والحقوقية أو تحرّك المسؤولين الغربيين ضدها.
وكانت الحادثة الأبرز إبّان إرسال مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي برسالةٍ إلى وزير الخارجية أنطوني بلينكين ليعبّروا فيها عن تخوّفهم من سجلّ البحرين المقلق في مجال حقوق الإنسان.
ودعا الموقّعون على الرسالة -وهم أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيون رون وايدن وباتريك ليهي وبيرني ساندرز وشيرود براون وتامي بالدوين وجيف ميركلي والجمهوري ماركو روبيو- إلى الضغط على البحرين للحدّ من انتهاكاتها في مجال حقوق الإنسان.
تُظهر سجلات وزارة العدل الأمريكية أن شركة الضغط الممثلة لسفارة البحرين قد جهزّت رسالة مضادة للردّ على رسالة أعضاء مجلس الشيوخ تلك، وقد أُرسلت في 17 سبتمبر/أيلول 2021.
وجاء في الوثيقة أن رسالة أعضاء مجلس الشيوخ "غير حكيمة" و"سيئة التوقيت" ومضرّة بـ"شريك الولايات المتحدة الدفاعي".
وساقت الوثيقة شتّى أنواع الحجج للردّ على مطالبات أعضاء مجلس الشيوخ بالنظر إلى السجل الحقوقي للبحرين، بما في ذلك ذريعة تطبيع البحرين مع إسرائيل.
وفي دفاعها عن ممارسات السلطات البحرينية، ذكّرت الوثيقة بـ"المشاركة التاريخية" للبحرين في اتفاقيات أبراهام وبأنها أوفدت سفيرها الأول إلى إسرائيل، وبما أورده وزير الخارجية الأمريكي من إشادات بدورِ البحرين في التطبيع.
وفي وثيقةٍ أخرى منشورة في 22 يوليو/تموز 2022، تتحدث رسالة تمثل السفارة البحرينية في الولايات المتحدة عن تقدّم البحرين المستمر في مجال مكافحة الاتجار بالبشر، ومن ثم عرجت الرسالة على ما قالت إنه "سلسلة من الإصلاحات المدنية" في مختلف المجالات الحقوقية والسياسية، لتعاود التذكير بعدها بمساهمات البحرين في التطبيع.
وقالت الرسالة إن دور البحرين يدلّ على التزامها بزيادة التعاون والتنسيق والاحترام المتبادل في جميع أنحاء المنطقة.
واستشهدت الرسالة بإشادة الرئيس الأمريكي بايدن بالبحرين "لعلاقاتها الموسعة مع إسرائيل من خلال اتفاقيات إبراهيم وعملية النقب"، كما أشارت إلى "مذكرة التفاهم التاريخية" بشأن التعاون الأمني بين إسرائيل والبحرين.
من الجدير بالذكر أن هنالك جهات اتّهمت البحرين بممارسة القمع حتى في مجال فرض التطبيع ومباركته على الداخل، ومن ذلك إعلان جمعية الوفاق الوطني الإسلامية -أكبر جهة معارضة في البحرين- عن "تلقّي عدة مؤسسات رياضية ودينية ومجتمعية ترهيباً وتخويفاً" للدفع نحو مباركة التطبيع، بالإضافة إلى المظاهرات الاحتجاجية التي فُرّقت بالغاز المسيل للدموع.
ملف استيراد السلاح الأمريكي
صنّفت الولايات المتحدة البحرين بمثابة "حليف رئيسي من خارج الناتو" منذ عام 2004، وبالإضافة إلى السبعة آلاف جندي أمريكي الذي يخدمون في قواعد متعددة، فإن البحرين من المشترين الكبار للأسلحة أمريكية الصنع.
إلا أن ملف شراء الأسلحة واجه الكثير من العقبات منذ عام 2011، حين خرجت المظاهرات في شوارع البحرين وواجهتها السلطات بالقمع والسلاح، ما لفت الانتباه إلى احتمالية استخدام البحرين للأسلحة الأمريكية بممارساتها القمعية، وتلقت السياسات الأمريكية الانتقادات المستمرّة لعدم إيلائها الاهتمام الكافي لحقوق الإنسان في هذا البلد وتفضيلها مصالحها واستثماراتها وعامل مواجهة إيران.
خلال العقد الماضي، قُدمّت مشاريع قوانين متعددة في الكونغرس من أجل وقف جميع مبيعات الأسلحة غير المشروطة إلى البحرين أو تقييدها، وناشدت المنظمات الإنسانية والحقوقية أيضاً لفعل ذلك، وكان آخرها توجيه منظمة هيومن رايتس ووتش توصيةً لحكومة الولايات المتحدة بـ"تقييد مبيعات الأسلحة والتعاون الأمني حتى تُنفذ البحرين التوصيات".
في 13 مايو/آيار 2019، توجه السناتور راند بول لإصدار مشروع قانون في الكونغرس لمنع بيع بعض المواد والخدمات الدفاعية لحكومة البحرين، وذلك بعد العلم بصفقة السلاح الكبيرة التي أقرّتها وزارة الخارجية الأمريكية للأخيرة.
ضمت الصفقة آنذاك أنظمة صواريخ باتريوت وما يتعلق بها من دعم ومعدات بتكلفة تقديرية بلغت 2.478 مليار دولار، بالإضافة لأسلحة مختلفة مخصصة لدعم طائرات البحرين من طرازF-16 Block 70 / F-16VK، بتكلفة قُدرت بـ750 مليون دولار.
تظهر وثائق وزارة العدل الأمريكية تصدّي سفارة البحرين لمشروع القرار آنذاك، عبر الترويج لكون البحرين حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة رائداً في مكافحة داعش وإيران والقرصنة في الخليج.
وعند ظهور نفس الاقتراح مجدداً هذا العام لمنع بيع بعض المواد والخدمات الدفاعية للبحرين، تعود السفارة البحرينية للتصدّي لهذا المنع بعبارات مماثلة لكن هذه المرة بالتشديد على الخطوات التي أجرتها البحرين في مجال التطبيع مع إسرائيل.
تذكّر الوثيقة التي وضعتها شركة الضغط بتاريخ 10 مايو/أيار 2022، بأن البحرين "واحدة من أوائل الموقعين على اتفاقيات أبراهام، وقد احتضنت تماماً روح هذه الاتفاقية مع إسرائيل عبر افتتاح السفارات وإيفاد السفراء واستقبالهم، وتشغيل الرحلات التجارية، وتوقيع مذكرة التفاهم مع إسرائيل الخاصة بالتعاون الأمني".
وتضيف الوثيقة أن للبحرين فضلاً في تمكين الولايات المتحدة من إضافة إسرائيل إلى منطقة عمليات القيادة المركزية "سينتكوم" للقوات المسلحة الأمريكية المسؤولة عن الشرق الأوسط وآسيا الوسطى.
ولذلك، فإن التنسيق والتعاون بين أطراف المنطقة ضد روسيا وإيران، يجعل بيع تلك المواد الأمنية والدفاعية أشد أهمية لتساعد البحرين للوقوف "جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة وإسرائيل" والدول الشريكة الأخرى لمواجهة التهديدات، وفقاً لما ورد في نصّ الرسالة في الوثيقة.
من الجدير بالذكر أنه وباستثناء المرة التي دفع بها نوّاب في الكونغرس لتأخير صفقة سلاح بقيمة 53 مليون دولار كانت إدارة أوباما تُخطط لإجرائها مع البحرين في سبتمبر/أيلول 2011، فإن الولايات المتحدة بقيت المورّدة الأعلى للسلاح البحريني في العقد الأخير وفقاً لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
ومن المقرر أن تستلم البحرين الدفعة الأولى من طائرات F-16 Block 70 في النصف الأول من عام 2024، لتكون العميل الأول في العالم الذي يتلقى "أحدث مقاتلات F16 وأكثرها تقدماً على صعيد مكونات الإنتاج" وفقاً لوصف الشركة المُنتجة لوكهيد مارتن.