إن سألت أي جزائري عن شهر نوفمبر/تشرين الثاني، فستكون إجابته بـ"شهر الثورة والثوار"، هذا الشهر الذي خلّده مفدي زكريا، شاعر الثورة التحريرية، في قصيدة كاملة، لكن أبيات مفدي لم تكن سوى تجسيد لمآثر ثورة تحريرية كانت الأعظم في العصر الحديث.
هذه الثورة الجزائرية التي تفجرت بسواعد شباب حضروا لتفجيرها مستغلين إرثاً كبيراً من الثورات الشعبية والعمل السياسي وجهود مفكرين وعلماء وزعماء للحفاظ على الهوية الجزائرية الثابتة في وجه الاستعمار الفرنسي.
تفجير الثورة الجزائرية إلى العلن مر بعدة خطوات لعل أبرزها اجتماع مجموعة 22، واجتماع مجموعة الستة التي اختارت الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954 لتكون ساعة النصر لبلدها العظيم.
وفي الذكرى 68 لاندلاع الثورة التحريرية ستعمل "عربي بوست" على رصد بعض ملامح اجتماع قادة الثورة الذي كان بالضبط في 23 أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1954، بمنزل المجاهد مراد بوقشورة بمنطقة الرايس حميدو في العاصمة الجزائرية.
منزل رايس حميدو
انتقل "عربي بوست" إلى بلدية رايس حميدو بمحافظة الجزائر العاصمة، من أجل معرفة هذا المنزل عن قرب، والذي يتواجد في طريق ضيق بالقرب من مقر البلدية، حيث أشارت إلينا امرأة استقبلتنا بحرارة داخل المنزل التاريخي إلى حدوث تغييرات عليه، وكيف تحول الفناء الذي اجتمع فيه أبطال قصتنا إلى غرفة، إضافة إلى تغييرات أخرى.
اجتمع أبطال الثورة المنحدرون من مختلف ولايات الوطن؛ وهم محمد بوضياف، العربي بن مهيدي، مصطفى بن بولعيد، كريم بلقاسم، ديدوش مراد، ورابح بيطاط، في هذا المنزل الذي يعرفه كل الجزائريين عن بعد.
هذا المنزل لا يزال شامخاً لليوم في أعالي العاصمة الجزائرية؛ حيث يروي لزائره عظم اللقاء السري الذي رسم معالم الثورة التحريرية التي رسخت مبادئ كفاح الشعب الجزائري على مدار أزيد من 7 سنوات لاحقة.
ولا يزال المنزل شاهداً على الشعار الموحّد الذي اختير (من الشعب وإلى الشعب) تحت لواء جبهة التحرير الوطني، الممثل الوحيد للشعب الجزائري، وهو الشعار المجسد لخطة الثورة التي تفادت أن تكون تحت لواء زعيم محدد ولا شخصية محددة.
اجتماع الستة واندلاع ثورة التحرير
وخلص اجتماع الستة إلى تحديد موعد اندلاع الثورة التحريرية في نفس التوقيت وعلى مستوى مختلف أرجاء التراب الوطني بالوسائل المتاحة في أيدي المجاهدين، هذا التاريخ الذي لم يطلع عليه حتى الوفد الخارجي للثورة.
كما لم يتم الإشراف على نص بيان أول نوفمبر/تشرين الثاني إلا عشية اندلاع الثورة الجزائرية بعدما انتقل المناضل محمد بوضياف إلى مصر وعرضه على أحمد بن بلة وحسين آيت أحمد ومحمد خيضر.
وجاءت نتائج الاجتماع عظيمة وحُبلى بثقل المهمة الموكلة لأبطاله؛ إذ تم تحديد التوقيت الدقيق وكلمة السر لتفجير الثورة عبر كامل التراب الوطني ورسم خريطة عسكرية لتحديد مواقع تواجد القوات الفرنسية مع اعتماد مبدأ اللامركزية في تسيير شؤون الثورة بمنح كل المناطق حرية التصرف في إدارة مصالحها وفقاً لخصوصية كل منطقة.
وعرف الاجتماع تقسيم الجزائر إلى ست ولايات -مناطق ثورية تحت قيادة متشعبة- بحيث تولى مصطفى بن بولعيد قيادة منطقة (الأوراس)، وديدوش مراد منطقة (الشمال القسنطيني)، وكريم بلقاسم منطقة (القبائل)، ورابح بيطاط منطقة (الوسط)، والعربي بن مهيدي منطقة (الغرب)، فيما تم إرجاء تعيين قيادة منطقة الجنوب إلى وقت لاحق.
"عربي بوست"، ومن أجل التعمق في الموضوع أكثر، كان له اتصال مع المؤرخ محمد لحسن زغيدي، الذي أكد أن هذا الاجتماع التاريخي ناجم عن قرارات مجموعة 22، في يونيو/حزيران 1954، لكونها قررت أن تتشكل لجنة وطنية تقوم بالإعداد للثورة التحريرية المباركة بغرض مجابهة الاستعمار الفرنسي الذي قتل ونكّل منذ أن دخلت جيوشه أرض الجزائر.
ويشير زغيدي إلى أنه خلال اجتماع 22 تم انتخاب المجاهد محمد بوضياف لكي يقوم باستدعاء مجموعة أخرى تقوم بمساعدته؛ حيث اختار 5 آخرين لتصبح المجموعة تضم 6 أشخاص عملت على الاجتماع مرات عديدة بمحل الخياطة للسيد عيسى كشيدة بقلب العاصمة الجزائرية، وتم الاتفاق على أن يكون الاجتماع الأخير في يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول.
يواصل زغيدي حديثه بقوله: "هذا الاجتماع خُصص لنقطتين أساسيتين وهما قراءة بيان أول نوفمبر والمصادقة عليه، وتحديد موعد اندلاع الثورة التحريرية المباركة الذي برمج يوم 1 نوفمبر 1954 أي قبل 68 سنة من الآن، والتي بفضل تضحيات أبطالها الجزائر اليوم حرة سيدة في قراراتها".
محدث "عربي بوست" تعمّق في الموضوع أكثر، لمّا لفت إلى أن تسمية جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير الوطني تم الاتفاق عليهما قبل كتابة البيان، وكان ذلك في اجتماع 10 أكتوبر/تشرين الأول، ليتابع: "تم الاتفاق على أن تكون جبهة التحرير الوطني الجناح السياسي لقيادة الثورة والجناح العسكري يقوده جيش التحرير الوطني".
قرار القيادة العليا للثورة
محمد لحسن زغيدي، وأثناء سرده للوقائع التاريخية ذكر أن مجموعة 6 هي المجموعة التي قادت الثورة الجزائرية من بدايتها إلى نهايتها، وأضيف لهم الثلاثة الذين كانوا في الخارج لتصبح مجموعة 9، وبعد تقسيم المهام في اجتماع عشرة أكتوبر قُسمت 5 مناطق على المستوى الوطني، فتم تعيين على رأس كل منطقة قائد.
ويتابع في هذا السياق: "لذلك مجموعة الستة كانت تمثل مجموعة القادة الذين كانوا يقودون المناطق الخمس، زائد بوضياف الذي كان مكلفاً بالتنسيق ما بين الداخل والخارج؛ ولذلك تعتبر هي رمز القيادة الوطنية الأولى للثورة التحريرية".
وبخصوص مدى تطبيق البنود التي تم الاتفاق عليها في اجتماعات مجموعة الستة، فأشار المؤرخ إلى أنه تم تطبيق كل ما جاء فيه؛ إذ اتفقوا على أن يقوم الوفد الخارجي بنفس العمل مع القيادة الداخلية وأن يكون لكل منطقة ثلاثة نواب.
أيضاً اتفقت المجموعة على توزيع السلاح من الأوراس إلى القبائل وإلى المنطقة الثانية، واتفقوا على أن يستمر الأوراس على العمل العسكري 6 أشهر حتى تتمكن المناطق الأخرى من الحصول على السلاح، واتفقوا على هيكلة الثورة وعديد النقاط التي طُبقت بحذافيرها.
مليون ونصف المليون شهيد
أسفرت تضحيات الجزائريين من أجل استرجاع حريتهم عن مليون ونصف المليون شهيد خلال الثورة الجزائرية، بعد أن أشعل الثوار فتيل الحرب في كل ربوع الجزائر متحدين الإمكانيات الفرنسية الهائلة، رغم أن قادة الجيش الفرنسي حاولوا استمالة الجزائريين بكل الطرق، بعد أن هجروا، قتلوا وأحرقوا قرى بأكملها.
ولا يعد هذا العدد من الشهداء الذين سقطوا في ميدان الشرف الوحيد؛ حيث تحدثت رئاسة الجمهورية يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2021، عن العدد الرسمي لضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر، خلال الفترة الممتدة من 1830، حتى حصول البلاد على استقلالها سنة 1962.
وبلغ عدد شهداء الجزائر الذين دافعوا عن بلادهم 5 ملايين و630 ألف شهيد ضحوا بحياتهم منذ المقاومات الشجاعة ضد الاستعمار الفرنسي، وخلال الثورة التحريرية المظفرة.