يستذكر عمي بو علام وهو يرتدي عباءته التقليدية، ما عاشه في دويرات حي القصبة في الجزائر (منازل ذات معمار خاص)، واصفاً لنا حال هذا الحي العتيق الذي ما زالت جدران بيوته مزينة بكل ما له علاقة بالتراث الجزائري العتيق.
غير بعيد عن مسجد كتشاوة الواقع في حي القصبة في الجزائر كان عمي بو علام يلهو مع أقرانه الصغار أثناء حقبة الاستعمار الفرنسي للجزائر، قائلاً: "تلك الفترة رغم مرارتها إلا أنها محملة بميزات جعلت آباءنا يتمسكون بكل ما هو جزائري، عربي وإسلامي على حد سواء".
ويقول عمي بو علام، الذي رافق "عربي بوست" إلى غاية دار خداوج العمياء (قصر ومتحف حالياً)، إن "القصبة تمثل كل ما هو جزائري أصيل، إذ لا تزال بعض المحلات الموزعة في أرجاء أزقتها تحتضن مهناً اندثرت في أحياء أخرى"، ليختم بقوله: "والدينا ماتوا هنا وحنا نعيشوا هنا" (آباؤنا ماتوا هنا ونحن سنعيش هنا).
"عربي بوست" زار هذا الحي العتيق بالجزائر ونقل عادات وتقاليد هذا الحي الشعبي الذي يتمسك به الكثير من أبنائه، رغم قدم بناياته التي يعود بعضها إلى فترة الدولة الزيرية سنة 950 م.
حي القصبة في الجزائر بين الماضي والحاضر
ليس ببعيد عن خليج الجزائر، تقابل المقبل على الجزائر بحراً بنايات حي القصبة في الجزائر القديمة والشامخة، وهي تنتظر قدوم الزائرين إليها ليغوصوا في تاريخ يتردد على لسان مؤرخين يوضحون أن عبق هذه المدينة انبعث إبان الدولة الزيرية، لتتعزز بناياتها بقصور وبيوت جديدة أثناء الحقبة العثمانية بداية من سنة 1516 لتصبح على ما هي عليه اليوم.
وتعد قصبة الجزائر واحدة من أخريات متواجدة في ولايات جزائرية عديدة، حيث يُلاحظ الداخل إليها تزاوجاً بين تراث مادي مرتبط بنسيجها العمراني وتراث آخر معنوي يظهر الحياة الحضرية، ووصفها المهندس المعماري لكوربوزي في هذا السياق "هي النموذج المثالي للعمران".
وأثناء سيرنا بين أزقة هذه المدينة القديمة، لاحظنا أنها تنقسم إلى قصبة سفلى تضم في أحيائها قصوراً عديدة كانت ملكاً لحكام الجزائر في الفترة العثمانية، وقصبة عليا وجدنا فيها بيوت العامة من الجزائريين وهي التي تسمى "دويرات" أو جمع بيوت، في حين يوجد معهما حي البحرية وقصر الدار والذي يسمى دار السلطان.
وبين كل هذا يجد الداخل للقصبة متعة في البحث عن كل ما هو تقليدي وسط أزهار منبعثة من بعض البيوت التي لا يزال ملاكها متشبثين بماضي أجدادهم رغم خطر انهيار البيوت بسبب قدمها، وحزم السلطات المحلية على ترميم هذه المدينة خاصة أنها تعد تراثاً عالمياً منذ سنة 1992.
قصور تزين أزقة القصبة
وفي مدخل ضيق قريب من جامع كتشاوة، توجد دار خداوج العمياء (قصر خداوج) الذي يعد واحداً من قصور كثيرة متواجدة في هذه الحي العتيق، حيث لا تزال على حالها رغم مرور سنين على تشييده.
ويذكر المؤرخ "لوسيان جولفين" أنه بني عام 1570 من طرف يحي رايس، وهو ضابط في الأسطول الجزائري، في حين تشير مصادر أخرى إلى أن بناءه كان من قبل "حسن خزناجي" وهو أمين الخزينة لدى الداي محمد بن عثمان، وتقول الأسطورة المتداولة إن مالكة القصر خداوج فقدت بصرها من كثرة تحديقها مطولاً في المرآة معجبة بجمالها، ومنه جاء اسم القصر.
وغير بعيد عن قصر خداوج العمياء، توجه "عربي بوست" إلى دار مصطفى باشا (قصر مصطفى باشا)، الذي تم إنهاء بنائه في عهد الداي مصطفى باشا سنة 1799م، حسب ما لفتت إليه اللوحة التأسيسية المثبتة فوق مدخل السقيفة الكبرى، وأقام الداي مصطفى باشا في هذا القصر مع عائلته وخدمه فكان يلجأ إليه مرة في الأسبوع برفقة حرسه الشخصي إلى أن اغتيل سنة 1805 م.
وتتميز هذه القصور الموجود غالبيتها في القصبة السفلى، بطابع التربيع وتمتاز أيضاً بأصالة مواد بنائها من خشب ثمين ورخام نقي مع مربعات خزفية متنوعة، وعلى سبيل المثال يحتوي قصر مصطفى باشا على 500 ألف مربعة خزفية رفيعة تكسو معظم جدرانه والموزعة بطريقة جمالية رائعة.
والداخل لهذه القصور التي أصبحت وقفاً يرى أنها ذات طراز موريسكي مغاربي بعيدة نوعاً ما عن البناء العثماني، فيها ما يسمى وسط الدار، العرصة، الفناء الداخلي والزليج (بلاط) الذي يزين جدران القصور، مع وجود فوارة (نافورة) وبئر، وتحتوي كذلك على مخارج سرية للبحر يستعملها ملاك القصور في حالات الطوارئ.
ويوجد في القصبة العتيقة قصور أخرى وهي "دار القاضي، دار أحمد باشا، دار عزيزة، دار الحمراء، قصر الرياس، دار السلطان، دار الصداقة، دار خوجة الخيل، دار حسن باشا، دار سركاجي القديمة، دار النخيل، دار الألفية، قصر الداي".
عيون الجزائر موزعة في المدينة القديمة
وأثناء تجولنا في القصبة العليا، رأينا عيوناً يتزود منها ساكنة المدينة القديمة من أجل الشرب أو حتى غسيل الملابس وتطهير ما يسمى وسط الدار، وهي عيون جلها مزينة بأعمدة رخامية أو من التوف مع تزيينها بكتابات ومربعات خزفية ممثلة على شكل أقواس جميلة، وغالباً مستندة على مبنى.
وتقول زهرة عيساوي في كتابها مربعات الخزف "الفترة العثمانية في الجزائر" إن هذه العيون كانت تسمح للسكان بالتزود بالماء، إضافة إلى الخزانات والآبار التي كانت أملاكاً خاصة، التي تعد عاملاً أساسياً في عمارة المدينة، كما كانت تسمى عليها أحياؤها.
وتشير الكاتبة ذاتها إلى أن مصدر هذه العيون ماء الينابيع التي كانت هي الأصل في وجود مدينة الجزائر، حيث أقيمت قرب الأبواب "باب عزون، باب الوادي، باب جديد"، وبمحاذاة المساجد والزوايا.
حرف صامدة في وجه الاندثار
تحتضن قصبة الجزائر بين جنباتها أعرق الحرف التي أتقنها أبناؤها وحافظوا عليها جيلاً بعد جيل، إذ يحدثنا السيد خالد محيود أو عمي خالد -كما يحلو لأبناء حي القصبة العليا مناداته- عن أهم أسرار النجارة التقليدية بطابعها الموريسكي الذي يعود لقرون خلت.
وعاد عمي خالد بـ"عربي بوست" إلى سنة 1938، عندما قرر والده إتقان هذه الحرفة التراثية واتخاذ محل له على مستوى القصبة السفلى، ليلتحق عمي خالد بحرفة والده سنة 1965 وهو ابن 14 سنة.
ورغم طغيان الآلات على حرفة النجارة إلا أنه يحافظ على النحت اليدوي الذي يتميّز بالإتقان، فمن نشر الخشب إلى الرسم عليه، ثم الانطلاق في عملية النحت في انتظار الشكل الجمالي النهائي الذي قد يستغرق من الحرفي 10 أيام للقطعة الواحدة.
عمي خالد الذي يتخذ من محل في أعالي القصبة محلاً له رفقة أبنائه الذين اختاروا بدورهم الحفاظ على هذا التراث الهوياتي، يُحدثنا عن تراجع الإقبال على هذا الفن، سواء لارتفاع الثمن الذي يطبع الحرف اليدوية أو لطغيان نجارة الآلات التي تتميز بالسعر المنخفض بمقابل الجودة الضعيفة.
تراجع الإقبال انعكس أيضاً على إقبال الشباب على تعلم هذا النوع من الحرف رغم أهميته في الحفاظ على الوجه الجمالي والهوياتي للجزائر.
الداخل لمحل عمي خالد يعود به الجو إلى عبق قصور القصبة لما يتضمنه من صناديق طالما تزينت بها غرف العرائس، ومرايا محاطة بنقوش موريسكية وعلَّاقات الشموع والبخور وحامل الستائر وكل ما يمتع العين ويعيدها لصورة تجسد ببساطة بطاقة هوياتية للجزائر العريقة.
النحاس.. القديم المتجدد
وأنت تتجول بين أزقة القصبة الضيقة كثيراً ما تصادفك حرفة أصيلة تحافظ على وجودها بقوة، حيث ينتقل الكثير من الزوار إلى القصبة لاقتناء الأدوات النحاسية، إذ يُعرف حرفيو النحاس في القصبة بجودة مصنوعاتهم إلى جانب جماليتها.
وينتعش الإقبال على وجه الخصوص بالتزامن مع المناسبات والأعياد خاصة شهر رمضان، حيث يعد السني (صينية نحاسية) وبقراج النحاس (الإبريق) أجزاء أساسية من جلسات السهرات الرمضانية.
ويؤكد أحد حرفيي النحاس على مستوى القصبة السفلى، والذي فضل عدم التصريح باسمه، تمسك الجزائريين بهذه الحرفة وإقبالهم على أدواتها نظراً لأهميتها وصحتها مقارنة بالأواني الحديثة.
موضحاً أن الطلب متواصل رغم سعرها الباهظ، سواء تعلق الأمر بالاقتناء أو بتجديد أوانيهم القديمة والتي يتوارثونها ويعود عمرها لأزيد من قرن خاصة السني والمهراس والقدور.
ويدعو حرفيو الصناعات التقليدية السلطات لإيلاء هذا التراث الوطني مكانة أكبر وإيجاد آليات وصيغ مناسبة للاهتمام به ولخلق جو يسمح بإحيائه والحفاظ على أحد أهم وجوه ليس فقط القصبة إنما الوجه المعنوي والهوياتي للجزائر.
حي القصبة في الجزائر.. معقل للثوار
القصبة هذا الحي الشعبي لم يبخل يوماً على الجزائر، فمثلما يرافقه مادياً ومعنوياً رافقه بالأمس القريب في رد وصد عدوان الاستعمار الفرنسي للجزائر، فاحتضن وآوى أبناء الثورة التحريرية أو ما عرف تاريخياً بـ"واضعي القنابل" أو الفدائيين، خلال ثورة التحرير الجزائرية (1954-1962) لتبقى أهم معاقلهم شامخة لليوم.
ويحفظ متحف علي عمار في أعالي القصبة ذكرى ثلة الثوريين الذين استشهدوا بأحد دويرات القصبة بعدما دمرها جيش المحتل بالمتفجرات بتاريخ 8 أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1957 بعد حصار دام يوماً كاملاً واشتباكات مع العدو.
وسقط في ميدان الشرف كل من الشهداء: حسيبة بن بوعلي، ومحمود بوحميد، والطفل ياسف عمر وعلي عمار المدعو "علي لابوانت"، بطل معركة الجزائر التي جسدها المخرج الإيطالي جيلو بونتيكوورفو في فيلم عرف شهرة كبيرة سنة 1966 تحت مسمى "معركة الجزائر".
أزقة القصبة ودويراتها وأهلها كثيراً ما أخفوا الثوار وقدموا أبناءهم وقوداً لثورة كانت من أقوى الثورات في العالم، فغير بعيد عن متحف "علي لابوانت" نجد مقهى "قهويجي" الذي يحتفظ بشكله الأول منذ الاستقلال.
ورغم صغر الحيز الذي يشغله إلا أن صاحبه جعل منه تحفة فنية تاريخية تخلّد وجوه الثورة التحريرية من أبناء القصبة، إذ يضم مختلف صورهم واجتماعاتهم وحتى قصاصات الجرائد التي ذكرتهم.
وتعود بك ذاكرة ساحة المقهى إلى الطالب عبد الرحمن وإلى بوحميدي وإلى 73 شهيداً الذين استشهدوا في هجوم واحد وكانت ساحة المقهى هي التي احتضنت جثثهم وأكفانهم قبل دفنهم.
القصبة بأزقتها الضيقة وقصورها ودويراتها تخفي آلاف القصص كما تحيي عالماً خاصاً يحتفظ به أبناؤها كموروث من جيل إلى جيل، إلا أنه يحتاج إلى من يصونه ويدعمه.