كان محمد الساكن في حي بن طلحة بولاية الجزائر (22 كيلومتراً شرق العاصمة الجزائرية) يتطلع لاقتناء سيارة مستعملة بسعر يتناسب مع إمكاناته المادية، لكنه تفاجأ بأسعار المركبات المرتفع والذي بلغ حد الجنون، حسب وصفه، مقرراً بعد ذلك التريث إلى أن يجد سيارة مناسبة في الوقت المناسب.
وفي حديث مع "عربي بوست"، يشير محمد إلى أن دخول سوق السيارات المستعملة في الجزائر أصبح من المحرمات، نظراً للأسعار التي أضحت تلدغ كل شخص يسأل عن حال مركبة يرغب في شرائها من مالكها، أو يستفسر عن سعر أي سيارة مستعملة مدة 14 سنة.
كلام محمد عن أسعار السيارات المستعملة لا يختلف كثيراً عن حديث فريد الذي كان موجوداً في سوق السيارات المستعملة ببلدية بوقرة في البليدة (33 كيلومتراً شرق العاصمة الجزائرية)، حيث تفاجأ بشدة لواقع السوق، رغم أنه كان يعلم أن الأسعار مرتفعة ولا تتماشى مع قدراته المالية المحدودة.
ولا تختلف أسعار السيارات المستعملة المعروضة للبيع في سوق بوقرة في البليدة (33 كيلومتراً شرق العاصمة الجزائرية)، عن سوق عين وسارة بالجلفة (190 كلم جنوب العاصمة الجزائرية) حسب فريد، لأن الأسعار شهدت ارتفاعاً فاحشاً منذ بداية سنة 2020 بسبب إجراءات الوقاية من فيروس "كورونا" ومنع استيراد السيارات وتوقيف تركيب وتصنيع السيارات محلياً.
وبلغ سعر سيارة بترقيم سنة 2013، مليونين و200 ألف دينار جزائري، ما يعادل (12 ألف دولار)، في حين فاق سعر سيارة تحمل ترقيم 2019 الرقم المذكور بكثير والتي وضع مالكها سعر 3 ملايين و400 ألف دينار جزائري وهو ما يساوي (17 ألف دولار).
شكاوى يومية..
"عربي بوست" وبغرض التدقيق في الموضوع أكثر، تواصلت مع رئيس المنظمة الجزائرية لحماية وترشيد المستهلك، مصطفى زبدي، الذي كشف لدى حديثه معنا عن تلقي منظمته شكاوى يومية من جزائريين يرغبون في اقتناء سيارة بثمن يتناسب مع قدراتهم الشرائية، ليفصل أكثر: "موضوع السيارات في الجزائر أصبح حديث العام والخاص حيث توجد مطالب بإيجاد حلول تسمح بإشباع الحاجات للمؤسسات وورش العمل ووسائل النقل وغيرها".
ويصف زبدي سوق السيارات عامة بالجزائر بالراكد منذ سنوات بعد توقيف الاستيراد، وكذلك توقيف تصنيع السيارات، حيث يشهد اختلالاً بين نظام السوق المتمثل في العرض والطلب، بعدما أصبح الطلب أعلى بكثير من العرض، لتتجسد الأزمة في ارتفاع أسعار السيارات المستعملة في الجزائر.
وبلغة المتحسر يشير رئيس المنظمة الجزائرية لحماية المستهلك، إلى أن سعر السيارات في الـ3 سنوات الأخيرة ارتفع بجنون، لأن أسعار السيارات المتداولة من سنة 2019 إلى اليوم زادت بمعدل عام بلغ من 70 إلى 80%، ليضيف: "الشخص الذي اشترى سيارة منذ سنوات يبيعها بأكثر من السعر الذي اقتناها بها".
طلب متزايد وسط عرض شبه منعدم
ويتقاطع كلام رئيس المنظمة الجزائرية لحماية وترشيد المستهلك مع تشخيص يوسف نباش، رئيس جمعية وكلاء السيارات متعددة العلامات سابقاً، الذي وصف سوق السيارات المستعملة في الجزائر بالملتهب والجنوني، مرجحاً تواصل الارتفاع في حالة استمرار زيادة الطلب مقابل قلة العرض.
ويوضح وكيل استيراد السيارات سابقاً أن أسعار السيارات القديمة في الجزائر أصبحت أغلى من نظيرتها الجديدة في الأسواق الأوروبية والآسيوية، حيث بلغ ثمن سيارة (MARUTI) التي تعد من أدنى السيارات ثمناً مليون دينار؛ ما يعادل 5000 دولار، في حين أن سعرها الفعلي يتراوح من 500 إلى 1000 دولار كأقصى حد.
كما ارتفع ثمن السيارة المقدر سابقاً بـ700 ألف دينار إلى مليوني دينار جزائري حالياً لتتضاعف زيادات بعض الأنواع 4 مرات منذ 2016 في مشهد زيادات متتالية يشبه كرة الثلج.
ويروي يوسف نباش لـ"عربي بوست" تجربة ابنه الذي اقتنى في 2019 سيارة من علامة ألمانية بسعر 3.2 مليون دينار، وهو ما اعتبره محدثنا جنونياً آنذاك، ونصح ابنه بتفادي دفعه، إلا أنه تفاجأ اليوم وبعد 3 سنوات من استعمال ابنه للسيارة التي قطعت مسافة 120 ألف كلم بحسب عدادها أن سعرها ارتفع رغم استنزافها لمدة 3 سنوات، في مفارقة تعكس واقع السوق وما تشهده من اختلالات.
ويرجع يوسف نباش تواصل إقبال الجزائريين على سوق السيارات المستعملة لعدم توفّر البديل من السيارات الجديدة؛ وهو ما يجعل الراغب في اقتناء سيارة مجبراً على اللجوء إلى السيارات القديمة لإشباع حاجته، بعدما تحولت السيارة إلى ضرورة في واقعنا اليومي وفي ظل تردي خدمات النقل على مستوى بعض المناطق خاصة البعيدة والنائية منها والتي تجعل من توفر سيارة مركونة أمام المنزل حاجة ملحة لقضاء الحاجيات اليومية، ناهيك عن الحالات الاستثنائية كحالات المرض.
ومعاناة الشخص الذي دخل رحلة البحث عن اقتناء سيارة مستعملة لا تتوقف عند حد أزمة الأسعار بحسب يوسف نباش، إذ تواجه المعني إشكالات عدة على رأسها مشكلة الغش التي صارت تفرض نفسها على مستوى غالبية الأسواق، فيعمد صاحب السيارة لدفع مبلغ مالي مقابل تعديل معدل سير السيارة في العداد الكيلومتري، فنجد سيارات سارت ما معدله 200 ألف كلم تم تعديلها إلى حوالي 120 ألف كلم؛ وهو ما يجعل المشتري ضحية لعملة من وجهين أولهما السعر غير المنطقي وثانيهما الغش في حقيقة السيارة التي اقتناها بعد جهد جهيد نظراً للندرة وصعوبة العثور على المأمول.
وقدّر رئيس جمعية وكلاء السيارات سابقاً حجم النقص في الحظيرة الجزائرية للسيارات بـ500 ألف سيارة، حيث يرى أن ضخ نصف مليون سيارة في الحظيرة الوطنية من شأنه إحداث نوع من التوازن وعقلنة الأسعار، وحماية الحظيرة الجزائرية من التدهور، خاصة بالنسبة لسيارات الأجرة التي تعرف استنزافاً كبيراً في استعمالاتها اليومية بشكل يجعلها في حاجة لاستبدال كل 5 سنوات لتفادي الأعطاب المتواصلة.
استئناف نشاط تركيب وتصنيع السيارات ضرورة
في ظل هذه الوضعية حاولت "عربي بوست" البحث عن أسباب وخلفيات تذبذب سوق السيارات والتي تجسدت في ارتفاع أسعار السيارات المستعملة ما بين 100% إلى 200% خلال العشرية الأخيرة بحسب نوعية السيارة.
ويرى نذير كري، الصحفي المختص في قطاع السيارات ومدير نشر موقع autojazair.dz أن ندرة السيارات الجديدة المستوردة حالياً من طرف بائعين متعددي العلامات فتح الباب أمام المضاربين في سوق السيارات المستعملة، خاصة أن الزبون الجزائري لا يُقبل على تلك السيارات الجديدة التي تتميز بارتفاع سعرها بشكل غير معقول، يضاف لها عدم توفرها على خدمات الضمان وما بعد البيع، وهو ما يرفضه الزبون.
أمام هذه الوضعية يجد الراغب في اقتناء سيارة نفسه أمام خيار وحيد وهو سوق السيارات المستعملة رغم صعابها، نظراً لما تعرفه من قدم وأسعار خيالية، فالسيارة التي كان سعرها في 2006 يبلغ 600000 دينار جزائري تباع اليوم بضعف ثمنها رغم استعمالها لمدة 15 سنة لتواصل السوق التهابها خاصة خلال السنتين الأخيرتين، بحسب ما يوضح نذير كري.
ويقترح كري للخروج من الحلقة المفرغة الحالية استئناف نشاط تركيب أو تصنيع السيارات في الجزائر، إلى جانب الاستيراد وإن كان محدوداً، إلا أن إعطاء جرعات متتالية لسوق السيارات سيمكن بعد 3 إلى 4 سنوات من تحقيق استقرار في السوق وعقلنة الأسعار في هذه السوق التي تتطلب 400000 سيارة في السنة.
الرئيس تبون يتخذ قرارات جديدة
وبغرض مجابهة ارتفاع الأسعار الجنوني في سوق السيارات المستعملة، اتخذ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، لدى ترؤسه اجتماعاً استثنائياً لمجلس الوزراء، يوم الأحد 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، جملة من القرارات قد تساهم تدريجياً في خفض أسعار السيارات التي أضحت كابوساً يلاحق الجزائريين منذ سنوات.
وأمر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بفتح المجال أمام المواطنين الجزائريين لاستيراد السيارات، أقل من ثلاث سنوات بإمكاناتهم المالية ولحاجاتهم الخاصة، وليس لأغراض تجارية، حسب بيان رئاسة الجمهورية الجزائرية.
وأوصى كذلك بفسح المجال للشركات الأجنبية المصنعة، لاستيراد السيارات، لبيعها في الجزائر بالموازاة مع المتابعة الحثيثة والميدانية لسيرورة إقامة صناعة حقيقية للسيارات، في الجزائر في أقرب الآجال.
وفي السياق ذاته، أسدى الرئيس تبون، تعليمات بضرورة تقديم دفتر الشروط الخاص بوكلاء السيارات، في اجتماع مجلس الوزراء المقبل، للحسم فيه، قبل نهاية السنة، يضيف المصدر ذاته.