سيطرت حوادث الإهمال التي وقعت في عدد من المدارس المصرية، وراحت ضحيتها تلميذتان، وإصابة عشرات آخرين، على انطلاقة العام الدراسي الجديد، مطلع الأسبوع الجاري، ما أعاد طرح تساؤلات عديدة حول جودة الأبنية التعليمية في مصر والمتسبب في تلك الحوادث التي ارتبطت أساساً بمشكلات إنشائية في المدارس.
ومع الساعات الأولى من بدء أول أيام الدراسة بمحافظة الجيزة، الأحد الماضي، لقيت طالبة مصرعها، وأصيب 15 آخرون من زملائها جراء انهيار سور سلم داخلي بإحدى مدارس منطقة كرداسة الشعبية.
وفي اليوم الثاني سقطت طالبة من الدور الثالث بإحدى مدارس منطقة العجوزة بمحافظة الجيزة أيضاً، وبحسب بيان النائب العام فإن السور الذي قفزت الطالبة من فوقه يبلغ ارتفاعه 60 سنتيمتراً، بعد أن رفض المعلم التجاوب مع رغبتها المستمرة في حضور والدتها إلى المدرسة.
وأشار البيان إلى أن "بكاء الطالبة تكرّر في الحصة الرابعة، فحاول المعلم آنذاك تهدئتها وسمح لها بالجلوس في مقعده، فاستغلت الطفلة انشغاله وتسللت خلسةً من الفصل تُجاه سور الطابق الثالث.
اليوم الثالث كان شاهداً على حادث آخر، إذ انهارت أجزاء من سور مدرسة قاسم أمين الإعدادية بنات بمحافظة الإسكندرية، لكن دون أن يُحدث إصابات أو خسائر في الأرواح، لتقرر مديرية التربية والتعليم بالمحافظة إخلاءها من الطالبات إلى حين إجراء الصيانة اللازمة لها، وهو ما تكرر في عدد آخر من مدارس المحافظة.
كلمة السر في هيئة الأبنية التعليمية
عبرت الحوادث الثلاث، وغيرها من الوقائع التي برزت مع بداية العام الدراسي، بينها عدم توفير المقاعد الدراسية، وإهمال الآلات والمعدات التي يتدرب عليها طلاب التعليم الفني، عن أن هيئة الأبنية التعليمية التي جرى إنشاؤها في عام 1988 تعاني فساداً وخللاً انعكس على توالي الحوادث مع بدء استهلاك الطلاب للمباني المدرسية.
لدى مصر 48 ألفاً و580 مدرسة حكومية، لكنها موزعة على 28 ألف مبنى مدرسي على فترتين دراسيتين، وفي بعض المدارس 3 فترات، ثم تأتي في المرتبة الثانية المدارس الخاصة والدولية، ويزيد عددها على 9 آلاف مدرسة خاصة، وهي بمصروفات دراسية تتراوح ما بين 10 آلاف جنيه وتصل إلى 500 ألف جنيه في بعض المدارس الدولية، فيما يذهب الغالبية العظمى من الطلاب البالغ عددهم 25 مليون طالب إلى المدارس الحكومية.
كشف مصدر مطلع بالهيئة، رفض ذكر اسمه، أن الأزمة لا تتمثل في ميزانيات الهيئة السنوية التي وصلت العام الماضي إلى 8 مليارات جنيه، وهناك مساعٍ لزيادتها إلى 12 مليار جنيه خلال الأعوام المقبلة، لأن ثلث تلك المبالغ تذهب للصيانة الدورية، والتي يترتب عليها هدم مبنى وإعادة بناء أو إعادة ترميم بعض الأجزاء داخل المدرسة أو توسعة المدارس وملحقاتها، والثلث الآخر يذهب إلى الصيانة السريعة التي تتضمن الأعطال البسيطة، والتي يتم التعامل معها بشكل مباشر من مدير المدرسة، والثالث لبناء المدارس الجديدة.
شركات تعمل من الباطن مع الجيش هي سبب الأزمة
ويضيف المصدر ذاته لـ"عربي بوست" أن الأزمة الحقيقية تكمن في كيفية توزيع الأموال وصرفها على الأبنية التعليمية، خاصة ما يتعلق بالصيانة الدورية التي يتم إسنادها لشركات في الأغلب تكون تابعة للجيش أو تعمل مع وزارة النقل، إذ تقوم تلك الشركات بتحديد مناقصات وهمية للصيانة، وإذا كان هناك باب لأحد الفصول بحاجة إلى تغيير وتبلغ تكلفته 1000 جنيه فإن الشركة تحدد صيانته بـ10 آلاف جنيه، في غياب تام للرقابة على عمل تلك الشركات التي يقوم بعضها بإسناد الصيانات إلى شركات أخرى أصغر منها وتستهدف تحقيق أرباح لها.
ويؤكد المصدر أن بعض الشركات المشرفة على عملية الصيانة تلجأ في أحيان أخرى إلى حيل أخرى تضمن لها تحقيق أرباح، وتقوم بعمليات طلاء ودهان وصيانة خارجية لواجهات المدارس دون أن تهيأ صلاحية المباني لاستقبال الطلاب، وتكون هناك حلقة فساد بين تلك الشركات ومديري المدارس والمشرفين على المباني الذين يؤكدون أنها جاهزة لبدء العام الدراسي، وهو ما حدث مثلاً مع مدرسة المعتمدية التي سقط سور سلمها الداخلي بمنطقة كرداسة.
رؤساء الهيئة لواءات فوق العدالة
ويذهب مصدر آخر بهيئة الأبنية التعليمية التي يرأسها أحد لواءات الجيش السابقين، لتأكيد "أن الفساد الممنهج في استغلال ميزانيات الهيئة يستمر منذ تأسيسها، في حينها عُين لواء على رأسها، وهو اللواء سمير يوسف، والطبيعي أن يكون أحد المهندسين، ولم يكن هناك ما يستدعي ذلك سوى أنه كانت رغبة النظام حينها أن يكون رئيسها فوق القانون". على حد تعبيره.
ويشدد المصدر على أن رؤساء الهيئة الذين تعاقبوا عليها كانوا لواءات أيضاً، وفي كل مرة يقومون باختيار عسكريين مقربين منهم ولديهم شركات إنشائية لإسناد عمليات الصيانة إليهم، قبل أن يتوسع الجيش في التعامل مع شركات مدنية خلال السنوات الأخيرة الماضية، وهو ما يفتح الباب للسرقة والفساد وغياب التحقيقات عن كثير من وقائع الإهمال التي تظهر مع بداية كل عام دراسي.
ويشير إلى أن الشركات لا تعمل وفقاً للخريطة الزمنية الدراسية لتطوير الأبنية التعليمية، والمهم أن يتماشى ذلك مع رغبتها في توجيه قدراتها نحو صيانة المدارس، ما يفسر بدء أعمال الإصلاحات في كثير من المدارس عقب بداية العام الدراسي، ومؤخراً التفتت الوزارة إلى تلك المشكلة لأن ذلك يضاعف من حجم الكثافات في مدارس أخرى، وهناك عشرات الوقائع التي تشير إلى قيام الشركات التي تتعاقد معها الهيئة بهدم البنايات المتهالكة وتركها لمدة عامين أو 3 وأكثر دون إنشائها ودون مسائلة من الهيئة أو الوزارة عن أسباب التأخير.
50 جنيهاً قيمة إصلاح الفصل الواحد!
يقول مدير إحدى الإدارات التعليمية إن الإجازة الصيفية التي تمتد لأربعة أشهر أو أكثر لا يجري استغلالها بالشكل الأمثل لعمل الصيانة، فثمة اعتماد كامل من الأحياء والأقاليم التي تتبع لها المدارس على هيئة الأبنية التعليمية والشركات التي تعمل معها لمراجعة حالة المدارس.
على الرغم من أن البنايات الدراسية تقبع في أماكن تتبعها إدارياً وتتحمل قدراً من المسؤولية أيضاً، كما أن مديري المدارس على عاتقهم مسؤولية التواصل المستمر مع إدارات الأبنية التعليمية بالإدارات والمديريات للتأكد من عمل الإصلاحات الدورية.
وكشف المصدر عن أن هيئة الأبنية التعليمية لا تستطيع التعامل مع الكثافات الطلابية المرتفعة وتكتفي فقط بتحديد 50 جنيهاً (دولارين ونصف فقط) للصيانة البسيطة لكل فصل دراسي على مدار العام، وهو مبلغ لا يكفي لحل أي مشكلة، ولا يكفي لشراء مقعد واحد.
وفي المقابل فإن زيادة معدلات الطلاب في الفصل الواحد، والتي تتخطى الـ100 طالب في بعض المحافظات تساهم في سرعة إهلاك المدارس.
ويلفت القيادي النظر إلى أزمة أخرى تعانيها البنايات المدرسية تتعلق بأن آلاف المباني جرى إنشاؤها قبل 100 عام أو أكثر، وبعضها أثري، كما أن بعضها جاء في وقت نخر فيه الفساد جذور هيئة الأبنية التعليمية؛ ما قاد لإنشاء مدارس ذات عمر افتراضي قصير.
وعلى أية حال فإن الوزارة لم تجرِ دراسة على كافة المباني التعليمية في مصر للتأكد من سلامتها، ما يضعنا أمام إمكانية تكرار الحوادث على مدار العام وخلال الأعوام الأخرى ما استمر الوضع على هذا الحال.
وبحسب مصدر مطلع بوزارة التربية والتعليم فإن حادث مدرسة المعتمدية، الذي راحت ضحيته إحدى الطالبات عن فساد في إنشاء سور السلم الداخلي، والذي أظهر الحادث أنه مبني من الطوب الأحمر، في حين أن اشتراطات بناء المدارس تشترط تشييدها بالخرسانة لتتحمل كثافة الطلاب.
إلا أن التحقيقات الأولية في الحادث أشارت إلى أن المدرسة جرى بناؤها قبل إنشاء الهيئة، وأن وزارة الإسكان هي من أشرفت على بنائها؛ ما يشير إلى هناك آلاف المباني بحاجة لإعادة دراسة إجراءات السلامة الخاصة بها، إلى جانب أن الدراسات الحالية على بعض المدارس تشير لوجود 2000 مبنى آيل للسقوط.
ويوضح أن مدرسة الإسكندرية التي انهار جزء من سورها تعد ضمن البنايات التعليمية العريقة التي جرى إنشاؤها قبل 95 عاماً، وتأخذ الطابع التراثي، ومسجلة في مجلد التراث، فلا يجوز إجراء أي صيانة أو ترميم لها إلا بعد موافقة الجهات المختصة وتحت إشرافها المباشر، وهو أمر لا يتم بسهولة في ظل الموافقات العديدة التي تتطلبها عملية الصيانة قبل إجرائها.
أزمة الصيانات ترتبط بعجز المدارس والمعلمين
لا تنفصل أزمة الصيانة الدورية عن مشكلات أخرى ترتبط بقيام الحكومة بإنشاء مدارس جديدة بعد أن تراجعت معدلات الإنشاء بصورة كبيرة خلال السنوات الخمس الماضية، وبحسب وزير التربية والتعليم السابق طارق شوقي، فإن الوزارة تعاني من عجز يصل إلى 250 ألف فصل دراسي بتكلفة بناء تصل إلى 120 مليار جنيه، فضلاً عن العجز في المعلمين، والذي يقدر بنحو 320 ألفاً، ومن المتوقع خروج 50 ألفاً على المعاش فى عام 2025.
وحذر تقرير صادر عن البنك الدولي قبل أيام من تراجع حجم الإنفاق على التعليم في مصر، وقال إن هذا التراجع سيؤدي إلى نقص أعداد المعلمين والفصول الدراسية في البلاد، ما يضع التعليم العام في مصر تحت ضغط كبير.
يلفت التقرير للحاجة إلى الأبنية التعليمية والحاجة إلى بناء نحو 117 ألف فصل دراسي في غضون 5 سنوات لتخفيف الضغط على المدارس الحكومية وتقليل كثافة الفصول إلى 45 طالباً، على افتراض أن متوسط النمو السنوي في عدد الطلاب من 2017 إلى 2021 سيظل ثابتاً حتى عام 2026.
وإذا كانت الحكومة ترغب في الاحتفاظ بالأرقام كما هي، فيجب بناء 50 ألف فصل دراسي بحلول عام 2026، من أجل الحفاظ على عدد الطلاب في الفصول عند 56 طالباً، وإذا ظل هناك نقص في الإنفاق العام، وإذا جرى بناء 10 آلاف فصل دراسي فقط بحلول عام 2026، فسيرتفع متوسط عدد الطلاب في الفصول من 56 إلى 65.
وفي أبريل/نيسان الماضي اعتمد البرلمان المصري موازنة التعليم بقيمة 131 مليار جنيه، رغم مطالبة الوزارة سابقاً لوزارتي المالية والتخطيط بأن تخصصا لها 162 ملياراً و350 مليوناً في موازنة العام المالي الجديد 2022-2023، لكنها جاءت بزيادة قدرها 15 مليار جنيه عن العام الذي سبقه، لكن الزيادات ستذهب إلى باب الأجور واستكمال مشروعات تطوير المناهج وطباعة الكتب واشتراكات الإنترنت، فيما سيذهب مليار و500 مليون جنيه فقط كقيمة إضافية لبناء مدارس جديدة.
تقرير للبنك الدولي: انخفاض جودة التعليم في مصر
وذكر البنك الدولي أن نقص المعلمين واكتظاظ الفصول الدراسية أديا إلى انخفاض جودة التعليم، وفقاً للتقرير الذي استخدم مقياسين لتقييم جودة التعليم، وهما نسبة الطلاب إلى المعلمين، ونسبة الطلاب إلى الفصول الدراسية. ويحدد هذان العاملان عبء العمل على المعلمين ومستوى الاهتمام المقدم للطلاب. ويتحسن تحصيل الطلاب مع وجود فصول أصغر ونسبة أقل من الطلاب إلى المعلمين.
وبحسب أحد المعلمين -رفض ذكر اسمه- فإن قدرة المعلمين على السيطرة على الطلاب باتت محدودة للغاية؛ لأن الفصول جرى بناؤها على أساس أنها تستوعب في المتوسط 50 طالباً، لكن الحاصل أن كثيراً من الفصول تصل كثافتها إلى 100 طالب أو أكثر، وبالتالي تكون هناك مشكلات عديدة في جلوس الطلاب داخل الفصل، وفي مدى قدرة المعلم على التواصل معهم، كما أن غياب الإشراف نتيجة عجز المعلمين سمح بحالة من الفوضى خارج الفصول، ما سيكون له تأثير سلبي مباشر على حالة البنايات.
ويضيف لـ"عربي بوست" أن مديري المدارس يجدون أنفسهم في مأزق؛ لأن هناك فصولاً دراسية ليس لديها معلمون، وفي أحيان كثيرة يبقى فصلان أو أكثر في فناء المدرسة أثناء اليوم الدراسي لعدم وجود معلمين، على الرغم من أن الوزارة استعانت بموجهي المواد للمشاركة في عملية التدريس، وفتحها باب التطوع، لكن يبقى العجز أكبر من قدراتها.
ويشير إلى أن الأزمة تأخذ في التفاقم بمدارس التعليم الفني على مستويات عديدة، بدءاً من الزيادات المضطربة في الطلاب، ومروراً بإهمال حالة المدارس مقارنة بمدارس التعليم العام، ونهاية بحالة الآلات والمعدات التي تعاني الإهمال نتيجة عدم صيانتها، وتلك مسؤولية أخرى للأبنية التعليمية تتقاعس عنها وتساهم في تدني مستويات طلاب الدبلومات، ويبدو ألا حلول في أفق قريب لأزمة تتسع كل يوم وتتمدد في المدارس المصرية.