على بُعد ما يقرب من 100 كيلو متر من مقر انعقاد مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لتغير المناخ "كوب 27″، المقرر أن تستضيفه مدينة شرم الشيخ المصرية بجنوب سيناء بعد شهر تقريباً، تقع كارثة بيئية؛ إذ تتحول مدينة ومحمية سانت كاترين، المصنفة ضمن مناطق التراث، إلى بقعة تئن من تدمير معالمها الطبيعية التي اتسمت بها وشكلت نقطة رئيسية لجذب السياح.
يغير مشروع التطوير الحكومي الذي يحمل اسم "التجلي الأعظم على أرض السلام" ملامح المدينة التي يقطنها حوالي 8000 مواطن وتفد إليها السياحة التابعة لمدينة شرم الشيخ لزيارة معالمها الدينية، وتتماشى مع محبي الخلوة والطبيعة والتأمل والمتدينين الذين يقصدونها مع خطة الحكومة التي تستهدف تطويرها لتتشابه مع باقي المنتجعات السياحية التي تجذب السياح على ساحل البحر الأحمر وفي مقدمتها مدينة شرم الشيخ.
طبيعة بيئية وسياحية يجرفها مشروع التطوير
وتكتسب مدينة سانت كاترين طبيعة بيئية وسياحية خاصة، وينجذب إليها السياح لزيارة دير "سانت كاترين" و"جبل موسى"، وكذلك محبو رياضة المشي الجبلي وسط الطبيعة "الهايكنج"، وكذلك زيارة الوديان وجبال سانت كاترين، وتقوم بالأساس على الإقامة في الخلاء داخل "خيام" مخصصة لهذا الغرض، ولا تجذب فنادقها الحالية سوى 2% من السياح الذين يأتي أغلبهم لزيارة معالمها في رحلات اليوم الواحد قادمين من شرم الشيخ.
تواصلت "عربي بوست" هاتفياً مع باحث بيئي من سانت كاترين للوقوف على ما يتم تداوله من أن المدينة تواجه مجموعة من التهديدات، في مقدمتها تغيير طابعها البيئي المعهود وكذلك الهوية البصرية للمدينة والتي تشكل عامل جذب للسياح، وذلك منذ أن بدأت الشركات الحكومية والخاصة قبل أكثر من عام في أعمال البناء التي ترتب عليها تغيير الطبيعة المحيطة بدير "سانت كاترين" وجبل موسى".
يشرح الباحث أن الحكومة المصرية قررت إنشاء طريق مختصر بين مدينتي الطور وسانت كاترين، مؤكداً أنه ستكون له عواقب سلبية على انجذاب السياح لتلك المنطقة لأنه يقتطع جزءاً من "وادي حبران" الذي عبره موسى خلال رحلته المقدسة إلى جبل سانت كاترين لتلقي وصايا الله، ويعد من أبرز الأماكن التي تحظى باهتمام السائحين المهتمين بـ المعالم السياحية الدينية.
بل إن الطريق، وفقاً للمصدر ذاته، ستكون له آثار سلبية على البيئة الطبيعية والتنوع البيولوجي بالمنطقة والتي تعيش فيها الحيوانات النادرة والمهددة بالانقراض؛ مثل الوعل النوبي، والضب والنمر السيناوي، لما تتسم به المحمية كونها جسماً مسطحاً يتصل ببعضه البعض من دون حواجز، وهو ما يسمح للحيوانات بحرية الحركة ويساعدها في توفير غذائها، وأن اقتسام المنطقة بمرور الطريق فيها سيكون طارداً لها.
طيور ونباتات نادرة في انتظار انقراضها
الأكثر من ذلك، بحسب الناشط البيئي، أن الجرافات والمعدات والفندق المجاور للجبل والذي ستكون لديه ارتفاعات تقدر بمئات الأمتار فوق سطح الأرض، سيكون لها تأثير سلبي من ناحية الحفاظ على الطيور النادرة بالمنطقة؛ مثل طائر الشحرور والعصفور الوردي، المعروف باسم "العصفور السيناوي"، وأنواع مختلفة من النباتات المستخدمة لأغراض طبية ويتجاوز عمرها ملايين السنين، وتعرض بعضها للتجريف، أبرزها البعيثران والزعتر البري.
يذهب المصدر للتأكيد أن إدارة المحميات الطبيعية التابعة لوزارة البيئة حاولت إيقاف مشروعي إقامة الطريق وبناء الفندق، غير أنها واجهت رفضاً من أجهزة حكومية أخرى لم تلتفت إلى التقارير البيئية المقدمة لها.
ويكشف أن الوقت الحالي يشهد نقاشات عديدة لتقديم ردود حكومية على الاتهامات التي تواجهها بتدمير التراث الطبيعي بالمنطقة، وهو ما تسبب في بطء أو ما يشبه التوقف في بناء الطريق الجديد، ومن المتوقع أن تمضي الخطة عقب انتهاء مؤتمر المناخ وسط مخاوف حكومية من إثارة القضية أثناء انعقاده، خاصة أن هناك مطالبات لتدخل المشاركين في القمة لوقف هذا العبث.
تمتد محمية سانت كاترين على مساحة نحو ستة آلاف كيلو متر، تنتشر فيها الجبال الأعلى في سيناء، بما فيها جبلا موسى وسانت كاترين، القمتان الأكثر قرباً إلى السماء في مصر، ولدى الديانات الثلاث "الإسلام والمسيحية واليهودية"، ارتباطات مختلفة بتلك الأماكن؛ لأن جبل موسى أو "طور سينين" مذكور في القرآن، كما أنه المكان الذي رأى فيه موسى ربه وتلقى وصاياه العشر كما تقول التوراة.
ويؤمن المسيحيون بأن قمة جبل سانت كاترين كانت شاهدة على هبوط الملائكة لتضع القديسة كاترين، عذراء الإسكندرية، التي فصل الإمبراطور الروماني ماكسمنيوس رأسها بعد احتجاجها على اضطهاد المسيحيين.
تحذيرات حقوقية من العبث بالتراث التاريخي
قبل شهر تقريباً، نشر المنبر المصري لحقوق الإنسان ورقة بحثية للكاتب، مهند صبري، ينتقد فيها المشروع، وأشار إلى أن "أعمال البناء والهدم على مرِّ العام الماضي في منطقة التراث العالمي وحول محمية سانت كاترين قد تسبّبت في دمار انعكس على التراث التاريخي والبيئة الطبيعية على مستوى مهول ويستحيل علاجه".
وأوضحت الورقة أن المشهد الطبيعي لقلب المنطقة سيتغير بلا رجعة، لا سيما المنطقة المحيطة بدير سانت كاترين الذي تم بناؤه قبل 1500 عام، وهو عامل أساسي عزز من قرار اليونسكو بتصنيف المنطقة ضمن لائحة التراث العالمي عام 2002، لاحتوائها على موارد ثقافية وتاريخية مميزة، على رأسها دير سانت كاترين، أقدم دير عامل في العالم، وجبل موسى.
وفي نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وبدعم مادي من الاتحاد الأوروبي، جمع بعض المختصين البيئيين كل المعلومات المتوفرة عن المنطقة ونظامها البيئي المُحكم، لتُعلن الحكومة المنطقة محمية طبيعية عام 1989، ضمن مناطق أخرى أعلنت كمحميات في هذا الوقت.
طالب المنبر منظمّي مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ بأن يقرّوا بخطورة الوضع في سانت كاترين، وأن يخصّص المؤتمر متسعاً من جدوله لمناقشة الوضع مع الجهات المصرية المختصة، لكي يتم العمل على وقف الدمار المستمر والبدء في إيجاد حلول عاجلة.
دراسات مجهولة للأثر البيئي للمشروع الجديد
دائماً ما تؤكد وزيرة البيئة المصرية، ياسمين فؤاد، أن المشروع يراعي الأبعاد البيئية والاجتماعية والثقافية للمنطقة، لكنها لم تفصح عن أي من الموافقات البيئية التي جرى على أساسها إقامة المشروع.
لكن مصدر بوزارة البيئة كشف لـ "عربي بوست" أن المشروع الجديد لم يحصل على الاشتراطات البيئية المطلوبة، مشيراً إلى أن تلك الموافقات لا يجب أن تأتي فقط من وزارة البيئة المصرية؛ لكن نظراً لخضوع المنطقة لقانوني البيئة والمحميات الطبيعية ووضعها على لائحة التراث العالمي كان من المفترض أن تحصل على موافقات من منظمة اليونسكو التي تناقش إمكانية تصنيفها منطقة "تراث خطر" نتيجة لغياب التنسيق معها.
ووفقاً للمصدر، فإن الشركات العاملة في المشروع بدأت في تنفيذه قبل أن تصدر له دراسات تقييم الأثر البيئي التي ترى النور بعد، لكن عدد من الشركات أكد صدورها مؤخراً.
ويضيف أن خطة الحكومة تتضمن بناء عمارات سكنية لزيادة أعداد قاطنيها إلى 12 ألف نسمة مع افتتاح المشروع، لكنها لم تحدد أهدافها من رغبتها في زيادة عدد السكان ومن دون أن تراعي طبيعية البيوت البدوية التي أغلبها لا يكون أعلى من طابقين أو ثلاثة على الأكثر، وفي كثير من الأحيان طابق واحد وتتسم بانتشار الحدائق والمساحات الشاسعة حولها لما يتناسب مع الطبيعة الصحراوية والجبلية بالمنطقة.
ويلفت المصدر ذاته إلى أن شركات السياحة التي تعمل بمدينة شرم الشيخ تخشى من أن يتحول الطريق الجديد الذي يبلغ طوله 70 متراً ولا يختصر سوى 20 دقيقة بين مدينتي الطور وسانت كاترين إلى طريق للموت لأنه يتواجد في قاع وادٍ تهطل عليه الأمطار بكثافة كل عام، وبالتالي فإن تحويله من ممر جبلي بطيء إلى طريق سريع يشكل خطورة داهمة على المواطنين بشكل عام والسائحين الذين يتخوفون من السير عليه.
الضرر لا يقع فقط على شركات السياحة التي ليس لديها تصور نهائي حول ما إذا كان التطوير سيصب في صالحها من عدمه، لكنه يقع أيضاً على مئات المواطنين من قاطني المساكن التي تهدمت لإقامة الطريق، والذين تلقوا وعوداً بتوفير مساكن بديلة ضمن المشروعات السكنية التي تخطط لها الحكومة ضمن المشروع الجديد.
ويؤكد أحد السكان -رفض ذكر اسمه خشية الملاحقات الأمنية- أن الحكومة تعاملت معهم بمبدأ الصدمات، وأنها بدأت في تحريك الجرافات إلى المناطق السكنية استعداداً لهدمها ثم بدأت حواراً مباشراً مع المواطنين مستخدمة أساليب التهديد والوعيد، وأن الأهالي اضطروا للموافقة لعدم وجود أي وسائل للاعتراض، في ظل التعتيم المفروض على كل ما يحدث في شبه جزيرة سيناء.
تهجير قسري جديد للأهالي
ويشير إلى أن المشكلة الأكبر من مسألة النقل أن الأهالي أغلبهم يعملون في تربية المواشي والزراعة في مناطق قريبة من مساكنهم ويتأثرون سلباً بنقلهم إلى بنايات سكنية متعددة الطوابق بخلاف الطابع الريفي السائد، كما أن الكثيرين واجهوا مشكلات نقل رفات أقاربهم بعد أن وجهت الحكومة إنذارات بإخلائها لضمها ضمن المساحات المقررة لإقامة الطريق الجديد.
وتعاني سانت كاترين من مشكلات وصول المياه إليها وهي الأزمات التي تتفاقم مع نقل المواطنين إلى بنايات سكنية؛ إذ كان اعتمادهم الأساسي على الآبار الجوفية الموجودة بالقرب من منازلهم، وفقاً للمصدر ذاته، مشيراً إلى أن سيارات المياه التي تصل إلى المدينة لا تكفي على الأغلب وتعاني مشكلات شح المياه بشكل مستمر لسرعة نفاد الخزانات، فيما تروّج الحكومة لكونها عازمة على زيادة عدد ساكنيها.
ويصطدم مشروع التطوير الذي يتضمن إقامة فنادق وحمامات سباحة جديدة بمشكلات شُحّ المياه، ويتساءل المواطنون هناك عن الآلية التي ستوفر بها الحكومة المياه، في حين أنها ترسل إلى المدينة سيارات كل أسبوع ولا تكفي سكانها الحاليين، وهو ما يشكل خطراً آخر يهدد الجدوى من مشروع التطوير.
ويستهدف المشروع الحكومي إقامة فندقين أحدهما بجوار جبل سانت كاترين والثاني تقول إنه منتجع يراعي بيئة المنطقة بإقامة 366 غرفة وما يقرب من 1500 شاليه وفيلا، إلى جانب إقامة مناطق سكنية جديدة، وتطوير المناطق القديمة، فضلاً عن تحسين الطرق ومخرات السيول، ومقترح باستبدال الأسفلت بحجر الإنترلوك، واستبدال الإضاءة القوية بأخرى خافتة، وتحويلها إلى مدينة مشاة ودراجات وسيارات كهربائية.
ويؤكد أبو مسلم، وهو أحد سكان المدينة، أن حالة الهدوء والعزلة الطبيعية التي اتسمت بها المدينة على مدار تاريخها تتلاشى الآن، مع حالة الضوضاء التي تسببها أعمال البناء، إلى جانب النتائج المترتبة عليها والتي ستفرز إقامة مبانٍ متراصة بجانب بعضها البعض؛ ما يقود لحالة من التكدس السكاني لا تعرفها المدينة، كما أن الفلل التي تسعى لإقامتها بديلاً للخيام وأماكن الإقامة في الخلاء للاستمتاع بالطبيعة لن تجذب السياح كما تعتقد لأنها تتوفر في منتجع شرم الشيخ أو دهب وغيرها من المدن السياحية.
رفض قبلي يعرقل إقامة محافظة وسط سيناء
ويضيف أن التطوير قد يستهدف أيضاً إنشاء محافظة جديدة كان مخططاً لها أن ترى النور في العام 2014 وتحمل اسم وسط سيناء لكن جرى إرجاء الحديث بشأنها نتيجة الخلافات بين شيوخ قبائل محافظتي شمال وجنوب سيناء؛ إذ اعترض كل منهما على استقطاع أراضٍ من كليهما وضمها إلى المحافظة الجديدة؛ إذ يتنافى ذلك مع طبيعة المجتمع السيناوي القبلي نتيجة لأنه يترتب عليه انتقال عائلات من التبعية الإدارية بين محافظة إلى أخرى.
يتضمن المشروع، كما أعلنت عنه وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية المصرية، 14 مخططاً متوازياً ومتشابكاً، لإقامة مبانٍ ومنشآت تقع الغالبية العظمى منها داخل المنطقة المجاورة مباشرة لبلدة سانت كاترين، على بُعد دقائق من دير سانت كاترين القديم.
وكانت الحكومة المصرية قد أطلقت مشروع "التجلّي الأعظم" في شهر سبتمبر/أيلول من العام 2020، وقالت في ذلك الحين إنها تستهدف تحويل مدينة سانت كاترين إلى وجهة سياحية عالمية، عبر إنشاء مزار روحاني على الجبال المحيطة بالوادي المقدس، بإجمالي استثمارات تقدر بأربعة مليارات جنيه مصري (205 ملايين و800 ألف دولار) للمرحلة الأولى، التي لم تنته بعد، وكان مقرراً لها أن تنتهي بنهاية هذا العام، لكنها حددت موعداً مبدئياً للانتهاء منها في إبريل/نيسان من العام المقبل.
ويرجع التباطؤ في إنهاء المشروع للمطالبات العديدة التي تشدد على ضرورة إيقاف ما تقوم به، وفي شهر مارس/أذار الماضي طالب خبراء مصريون وأجانب الحكومة المصرية بالوقف الفوري لأعمال المشروع، وطالبوا بتدخل عاجل من منظمة اليونيسكو.
وطبقاً للأكاديمي الأمريكي، جوزيف هوبز، أستاذ الجغرافيا في جامعة ميسوري وصاحب كتاب "جبل سيناء"، فإن "المخطّط الرئيسي لهذا المشروع سينشر الإنشاءات والطرق حول كل هذه الأماكن المقدسة"، مضيفاً أن "أتباع الديانات الإبراهيمية، وهم غالبية السياح في سانت كاترين، الباحثين عن طبيعة ملهمة لا يريدون هذا التطوير القبيح، والذي سيتسبّب في رفع سانت كاترين من قائمة مناطق التراث العالمي بشكل مخجل، وسيؤدّي إلى مقاطعة السياح المنطقة".
واعتبر مدير مشروع الاتحاد الأوروبي لمحمية سانت كاترين بين عامي 1996 و2003، جون غرينغر، أنه ينبغي "تصنيفُ سانت كاترين منطقة تراث عالمي في خطر"؛ بسبب استمرار تنفيذ هذا المشروع بالشكل الذي يسير عليه حالياً.