لم تواجه الثروة الداجنة في مصر أزمة مثل التي تشهدها حالياً جراء جملة من العوامل الداخلية والخارجية التي عصفت بأحد أبرز الاستثمارات الناجحة في مصر، ما يهدد بأزمات غذائية واجتماعية قد لا تجد الحكومة نفسها قادرة على التعامل معها.
وتعد صناعة الدواجن في مصر من أهم الصناعات لما توفره من بروتين بأرخص الأسعار مقارنة باللحوم الحمراء، وتعتبر الملاذ الآمن لكل أفراد المجتمع بكل طبقاته، ويوفر كل من الدواجن وبيض المائدة ما يقرب من 75% من البروتين للمصريين، وبالتالي فإن الخسارة تقع على قطاعات مجتمعية مختلفة بعيداً عن الخسائر المادية المباشرة للعاملين في القطاع.
يتفق أصحاب الشركات ومربو الدواجن على أن أبعاد المشكلة الحالية تتمثل في انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، ما ساهم في زيادة أسعار خامات الأعلاف والأدوية المستوردة من الخارج وهي تشكل عصب الصناعة، إلى جانب منع دخول مئات الآلاف من أطنان الأعلاف الموجودة في الموانئ المصرية جراء عدم تنفيذ شروط البنك المركزي بتوفير الاعتمادات المستندية للاستيراد من الخارج، على الرغم من أن الأمر يتعلق بإحدى الخامات الغذائية التي لا يمكن الاستغناء عنها.
مشروع ناجح ينتهي بتهديد بالسجن
يُعبر المأزق الذي وقع فيه محمد حامد، صاحب مزرعة لتربية الدواجن، عن جوهر الأزمة، إذ إنه استمر في تجارة الدواجن لأكثر من 5 سنوات تمكن خلالها من الانتقال من كونه أحد الموزعين أو من يسمون بـ"السماسرة" بين شركات تربية الدواجن والمحال التجارية، ليقيم مشروعه الخاص به عبر بناء مزرعته الصغيرة بمحافظة الشرقية، قبل أن يقرر بيعها بسعر زهيد إثر تعرض الدواجن فيها للإصابة بأنفلونزا الطيور، ولم يتمكن من تسديد ديونه.
يشير حامد إلى أن صناعة الدواجن تواجه مشكلات جمة منذ بدء العام الحالي، والذي شهد اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، وكانت نتيجة ذلك أن تضاعفت أسعار الأعلاف.
تشير إحصاءات تجارة الأعلاف في مصر إلى أنها شهدت ارتفاعاً بلغ 60% منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، ووصل سعر الطن إلى 13 ألف جنيه قبل أن يتراجع قليلاً خلال الأيام الماضية ليصل إلى 12.6 ألف جنيه، وأن الأسعار قابلة للزيادة خلال الأيام المقبلة مع التراجع المستمر في قيمة الجنيه مقابل الدولار، لأن 90% من احتياجات خامات الأعلاف مستوردة من الخارج بما يتجاوز 11 مليون طن سنوياً، وتتكون الأعلاف من 60% ذرة صفراء، و30% كُسب فول الصويا، و10% إضافات.
حاول حامد، كما يقول لـ"عربي بوست"، تجاوز الأزمة مجدداً، واستطاع أن يحصل على شحنات من الأعلاف مع السماح بسداد قيمتها بعد انتهاء دورة البيع، لكنه لم يستطع إكمالها مع إصابة الدواجن بأنفلونزا الطيور ونفوقها بالكامل، ووجد نفسه مضطراً لدفع ملايين الجنيهات لمصنع الأعلاف، واضطر للخروج من السوق والبحث عن مصدر رزق آخر يستطيع من خلاله تسديد ديونه، وإلا فإن السجن سيكون مصيره.
ارتفاعات تصل إلى 60% في أسعار الأعلاف
وارتفعت تكاليف الشحن في المراكب القادمة من أوكرانيا أو روسيا أو من الأرجنتين والبرازيل بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، متأثرة بتبعات الحرب الروسية، إذ كانت تكلفة شحن الحاوية 20 قدماً تبلغ 800 دولار، أما الآن فبلغت 9500 دولار، أما الحاوية 40 قدماً فكانت تكلفة شحنها قبل الحرب نحو 3 آلاف دولار، واليوم أصبحت 19500 دولار.
يشرح أحد أصحاب شركات الدواجن الكبرى في مصر لـ"عربي بوست" طبيعة ما حدث في السوق هذا العام، مشيراً إلى أن المشكلة الحقيقة التي تسببت في خروج ما يقرب من 30% من الشركات الصغيرة وصغار المربين من السوق ترجع إلى عدم القدرة على سداد تكاليف الدورة الإنتاجية، مع الزيادات المضطربة في أسعار الأعلاف، والتي تحدد بشكل أساسي سعر الكتكوت، وبالتالي فإن صغار المربين وجدوا أنفسهم في أزمة لأنه وفقاً للزيادات من المفترض أن تتضاعف أسعار الكتكوت أسوة بزيادة أسعار الأعلاف، لكن طبيعة العرض والطلب لم تمكنه من ذلك، وتعرض الكثير لخسائر فادحة.
ويوضح أن المربين الذين اعتادوا على شراء سعر طن الأعلاف بـ4500 جنيه العام الماضي يحاولون شراءه الآن بـ13 ألف جنيه، وكذلك الوضع بالنسبة لفول الصويا الذي لم يتجاوز سعره 6000 جنيه للطن، والآن وصل إلى 15000 جنيه، لكن على الرغم من ذلك فإن صغار المربين يجدون صعوبات في الحصول على الأعلاف بالأساس، مع تراجع قدرة مصانع الأعلاف على الاستيراد، واقتصار تعاملها مع شركات صناعة الدواجن الكبرى، وعدم سماحها بتقسيط أسعار البيع مثلما كان معتاداً في السابق.
تخفيض الإنتاج الحل الأسهل لكنه لا يحل الأزمة
ويؤكد أن كثيراً من الشركات بدأت في اللجوء إلى وسائل أخرى توفر من خلالها الأعلاف، وتساهم في تقليل تكاليف الإنتاج لديها، وذلك عبر الاتجاه لشراء أنواع تحتوي نسب بروتين منخفضة، وبالتبعية تكون أسعارها منخفضة، ولم يعد الإقبال على "الصويا هاي بروتين بنسبة 60%" موجوداً كما كان في السابق، وأضحى الجميع يبحث عن "صويا 44% بروتين"، وهو ما ستكون له تأثيراته الغذائية السلبية على المدى الطويل.
ويشدد على أن الشركات لجأت إلى وسائل أخرى تمثلت في تخفيض القطعان الموجودة لديها، وتخفيض الإنتاجية بنسب وصلت في كثير من الشركات الكبرى إلى 50% لتقليل حجم الخسائر، وذلك نتيجة عدم القدرة على الإيفاء بمتطلبات التربية ومخاوفها من تعرض الطيور للنفوق.
حينما لجأت الشركات الصغيرة إلى الحيلة نفسها لتخفيض النفقات وجدت نفسها مجبرة على الإغلاق والخروج من السوق بعد فترة وجيزة؛ لأن ذلك تسبب في انخفاض دخلها العام، ولم تعد قادرة أيضاً على تلبية تكاليف العمالة وأماكن التربية والتدفئة وتوفير العلاج والأمصال اللازمة، وكذلك دفع ملايين الجنيهات لشراء أطنان الأعلاف، بحسب ما أكده المصدر ذاته، والذي أشار إلى أن أزمات صناعة الدواجن أثرت على آلاف الأسر التي كان يعمل أحد أفرادها في القطاع.
ووفقاً لبيانات شعبة الدواجن في مصر فإن الصناعة يعمل بها نحو ثلاثة ملايين عامل وتتجاوز استثماراتها 100 مليار جنيه سنوياً، وتشير البيانات ذاتها إلى أن البلاد تحقق اكتفاءً ذاتياً من الدواجن بنحو 95%؛ إذ تنتج نحو 1.6 مليار طائر سنوياً.
لكن العديد من المربين يرون أنه "اكتفاء ذاتي وهمي"؛ لأن نصيب الفرد المصري من البروتين من الإنتاج ضعيف جداً بالنسبة لبروتين أي دولة أخرى، فهو يتراوح من 13 إلى 14 كيلوغرام في العام الواحد، بينما في بعض دول الخليج والدول العربية الأخرى يتراوح من 40 إلى 50 كيلوغرام للفرد في السنة.
مخاوف من موسم شتاء بلا دواجن
يتوقع أحد مربي الدواجن الذي خرج من السوق مؤخراً أن يشهد الشتاء القادم أزمة شح دواجن في السوق المصرية، وهو ما سيترتب عليه ارتفاع أسعارها بشكل كبير، ويرجع ذلك لأكثر من سبب، على رأسها خروج عدد من الشركات العاملة من السوق تحديداً التي تعمل في الأقاليم المصرية بعيداً عن العاصمة القاهرة، والتي لن تستطيع أن تتجاوب مع الزيادات المضطربة في تكاليف الإنتاج.
إلى جانب عدم قدرة الشركات على توفير اللقاحات والمضادات الحيوية الخاصة بالدواجن، والتي تأتي مستوردة من الخارج، في ظل استمرار مشكلات الاستيراد وأزمات شح الدولار التي تعانيها الشركات الكبرى التي أضحت غير قادرة على توفيره، وهو ما ستكون نتائجه بحسب المصدر ذاته، أن يلجأ المربون إلى بيع الطيور مبكراً دون الاستفادة الكاملة منها، وقد ينتج عن ذلك أزمة موازية في سوق بيض المائدة.
اللافت أن المصدر لديه قناعة تامة بأن هناك خطة ممنهجة لتدمير صناعة الدواجن في مصر، وذلك لحساب جهات محسوبة على الحكومة المصرية والجيش تتجه نحو التجارة في استيراد الدواجن المجمدة، وهو ما يترجمه إعفاء الدواجن المستوردة من تكاليف الجمارك، ويحقق ذلك مكاسب طائلة للشركات العاملة في استيراد الدواجن، وأبرزها الشركة القابضة الغذائية، وهي إحدى شركات قطاع الأعمال المملوكة للدولة.
ويشير إلى أنه في الوقت الذي يعاني فيه المربون من شح الدولار وعدم توفره، تقوم الشركات الحكومية والمملوكة لأشخاص يعملون لصالح الحكومة بشكل غير مباشر باستيراد الدواجن المجمدة من الخارج، والتي تتسم بانخفاض أسعارها مقارنة بالمحلية، وسيكون لديها تأثير سلبي على الصناعة المحلية التي تكبلها الحكومة بفرض ضرائب ورسوم وتأمينات وتواجه مشكلات ارتفاع أسعار الطاقة دون أن تحصل على دعم يساعدها على الاستمرار.
ويعمل المنتجون على محاولة استمرار الإنتاج رغم الخسائر، حفاظاً على السوق والمستهلك، ولكنهم لن يستطيعوا الصمود أكثر من ذلك، واستمرار خروج المربين وخلق الأزمات أمام الصناعة سوف يعملان على قلة المعروض وارتفاع سعر الدواجن ليصل إلى 100 جنيه.
فتح باب الاستيراد لصالح شركات الحكومة
وقررت الحكومة المصرية فتح الباب أمام استيراد الدواجن المجمدة في شهر مارس/آذار الماضي بعد أن اتخذت قراراً بوقف استيرادها العام الماضي، وكان مبررها في ذلك الحين يتمثل في التعامل مع ارتفاع أسعار الدواجن البيضاء في السوق المصري، والتي وصلت إلى 40 جنيهاً للكيلوغرام، نتيجة تناقص المعروض، بعد تعرّض 80% من المزارع لجائحة فيروسية، أدت إلى نفوق أكثر من 35% من الإنتاج.
ومازال مربو الدواجن يضعون في أذهانهم ما أقدمت عليه الحكومة في عام 2016، حينما أصدرت قراراً بمنع تداول الدواجن الحية في محافظتي القاهرة والجيزة، ومعاقبة كل من يثبت قيامه ببيعها حية في المحال التي كانت مخصصة لها، بالسجن والغرامة، وكان القرار مبهماً في ذلك الحين قبل أن يتضح أنه خدم بشكل مباشر شركات الدواجن التابعة للجيش.
ولم يجرِ تنفيذ القرار على الأرض وتراجعت الحكومة عن تطبيقه، لكن بعد أن قامت شركات تابعة لجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة باستيراد ملايين الأطنان من الدواجن المجمدة، وهو ما تسبب في انعدام الثقة بين شركات الإنتاج المحلية والحكومة.
ويؤكد صاحب إحدى شركات الدواجن، رفض ذكر اسمه، أن شركته خسرت ملايين الجنيهات بسبب قرار الحكومة بوقف تداول بيع الدواجن الحية؛ لأنه أقدم على تأسيس مجزر آلي لبيع الدواجن المجمدة، مستفيداً من الثروة الداجنة الموجودة لديه، لكن الحكومة لم تنفذ القرار، واضطر لبيعه بسعر زهيد بسبب عدم قدرته على تسويقه بالشكل الأمثل؛ لأن الشركات أدركت أنها ليست بحاجة لمجازر لبيع الدواجن محلياً.
ويضيف أن مربي الدواجن خلال الأشهر الماضية وجهوا استغاثات عديدة للحكومة لكن دون جدوى، وطالبنا بسرعة الإفراج عن أطنان الأعلاف المتراكمة في الموانئ منذ شهر مارس الماضي، ورغم أن البنك المركزي تحدث عن أولوية الإفراج عن السلع ذات الارتباط المباشر بالأمن القومي المباشر، إلا أن ذلك لم يتحقق حتى الآن على الأرض، وهو ما ينذر بأزمة محتدمة في الشتاء المقبل التي يعزف خلالها المربون عن الدخول في الصناعة نتيجة ارتفاع تكاليف التدفئة، وكذلك شح الأدوية والأمصال المطلوبة.
لجنة عليا لم تتخذ أي قرار منذ عام ونصف
ويتخوف كثير من التجار من إغلاق شركات الأعلاف أبوابها؛ لأن أغلبها يعمل لصالح مزارعي الدواجن الذين أضحوا غير قادرين على الاستمرار في الصناعة، ويؤكد هؤلاء أن بحث شركات استيراد الأعلاف عن تحقيق مكاسب بطرق مختلفة جراء ضعف قدراتها الاستيرادية وانخفاض معدلات بيعها يدفع بعضها لزيادة أسعار أطنان البيع بأسعار تفوق الأسعار العالمية، بحجة عدم توفير الدولة للدولار اللازم للاستيراد.
وأمام أزمات القطاع المتراكمة اكتفى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بتشكيل "لجنة عليا" في يونيو/حزيران من العام الماضي لتطوير صناعة الدواجن، لكن اللجنة التي تشكلت من وزير الزراعة وتضم في تشكيلها رئيس لجنة تشريعية في البرلمان ورئيس اتحاد منتجي الدواجن، لم تنعقد سوى مرتين، ولم يصدر عنها أية حلول جذرية للأزمة.
وتشير إحصاءات حكومية إلى أن إنتاجية بيض المائدة انخفضت خلال الأشهر الثمانية الماضية من العام الجاري، متأثرة بأزمة صناعة الدواجن، لتسجل نحو 5.8 مليار بيضة فقط، بما يساوى نحو 60٪ من إنتاجية الفترة المقابلة من 2021، ونحو 40٪ من الفترة المقابلة لها في عام 2020.