مع كل ضحية تسقط تُفتح جراح جديدة، ويتذكر أهل المنطقة العشرات من أبنائهم الذين قضوا نحبهم داخل آبار ضيقة، وهم يبحثون عن لقمة عيش في ظل وضع اقتصادي صعب في المدينة.
آبار الفحم الحجري في المغرب مأساة مدينة جرادة الشرقية، حيث يوجد أجود أنواع الفحم الحجري، وهو نوع "الأنتراسيت"، الذي اكتشفته فرنسا سنة 1927 خلال استعمارها للمغرب.
سنة 1936 تحديداً، بدأ استغلال الفحم وأصبحت جرادة مركزاً منجمياً تحولت معه المنطقة إلى مدينة بأسلوب حياة حضري، وأضحت قبلة لليد العاملة، خصوصاً خلال سنوات الجفاف من سوس وتيزنيت وتارودانت والريف والأطلس المتوسط.
لعنة الفحم.. المأساة تُعيد نفسها
كان في مدينة جرادة منجم كبير للفحم الحجري تابع لشركة "مفاحم المغرب" قررت الحكومة إغلاقه سنة 2001، وبررت ذلك بارتفاع تكلفة الإنتاج، وقالت إنها ستوفر بدائل اقتصادية للسكان الذين يعتمدون على الفحم للعيش، لكن لم يحدث شيء من كل تلك الوعود.
غياب مناجم مرخصة دفع سكان المنطقة للبحث عن بديل لاستخراج الفحم الحجري وإعادة تسويقه، فحفروا آباراً تقليدية يُطلق عليها محلياً اسم "الساندريات"، وهي محفوفة بالمخاطر، وتسببت في إزهاق العشرات من الأرواح.
حُفرت آبار الفحم الحجري في المغرب نواحي المدينة بعمق يتراوح بين 50 و80 متراً حتى الوصول إلى الفحم، بعدها يبدأ الحفر العرضي واقتلاع طبقات الفحم، وهو أمر كله مخاطر؛ لأن طبقات الأرض المحفورة تكون آيلة للسقوط في أية لحظة.
ويعتمد العاملون في آبار الفحم في المغرب على إضاءة تقليدية، وغالباً ما تكون شموعاً تستهلك كميات كبيرة من الأوكسجين تحت الأرض، فينتج عنها حالات اختناق كثيرة بثاني أكسيد الكربون وتسبب وفاة العشرات.
أيضاً يسقط ضحايا آبار الفحم الحجري في المغرب نتيجة انفجار المياه الجوفية وهم تحت الأرض، وأغلبهم يُصاب بأمراض تنفسية نتيجة استنشاق الغازات السامة والغبار في منطقة ضيقة.
آخر ضحايا آبار الفحم في المغرب أعلنت عنه السلطات المغربية بوفاة 3 أشخاص كانوا محاصرين في آبار الفحم لقوا مصرعهم اختناقاً بثاني أكسيد الكربون، يوم الثلاثاء الماضي، داخل بئر لاستخراج الفحم الحجري مستغل من قبل إحدى التعاونيات المؤسسة بصفة قانونية.
ورغم أن الضحايا كانوا يشتغلون تحت رعاية شركة مرخص لها بالدخول لآبار الفحم، إلا أن الحادثة أعادت الأزمة الإنسانية التي تعيشها مدينة جرادة، والتي بمجرد ما تقترب من حقول الآبار تجد وجوه الناس مفحمة بالسواد من كثرة الوقت التي يقضونه داخل الآبار.
جرادة الاحتجاجات
بعد 20 عاماً، وبعد إقفال المصانع المنجمية، تحولت مدينة جرادة إلى منطقة احتجاجات اجتماعية دائمة، آخرها كان في 22 ديسمبر/كانون الأول 2017، عندما توفي شقيقان غرقاً داخل إحدى آبار الفحم الحجري.
استمرت الاحتجاجات في المدينة لأيام، طالب من خلالها أبناء المنطقة ببدائل اقتصادية لإنهاء أزمة البطالة المتفشية بين صفوف الشباب، أيضاً طالبوا بتنفيذ الدولة لوعودها التي قُدمت بعد إغلاقها للمنجم الأصلي سنة 2001.
ورفع المحتجون شعارات سياسية أيضاً تزامناً مع احتجاجات أخرى في منطقة ريف المغرب. وفي 16 يناير/كانون الثاني 2018 تم الإعلان عن خطة طارئة لتحقيق مطالب السكان، حسب ما جاء في قصاصة وكالة الأنباء المغربية الرسمية.
وأسفرت هذه الاحتجاجات الاجتماعية بمدينة جرادة عن اعتقال عشرات النشطاء بالمنطقة وإدانتهم بأحكام متفاوتة بالسجن، قبل أن يفرج عنهم بعفو ملكي، في يونيو/حزيران 2019.
آبار الفحم الحجري في المغرب.. من المستفيد؟
يقوم عمال من سكان مدينة جرادة بحفر الآبار بأساليب ومعدات تقليدية، والبحث عن الفحم الحجري وبيعه لأشخاص حاصلين على رخص استغلال الفحم بأجر لا يتجاوز 60 درهماً (6 دولارات) في اليوم.
المركز المغربي لحقوق الإنسان كشف في تقرير أنجزه أن المستفيد الأول من استخراج الفحم الحجري من آبار مدينة جرادة هم أشخاص يُطلق عليهم "بارونات الفحم"، والذين استفادوا من تراخيص استغلال الفحم الحجري التي منحتها السلطة المحلية والإقليمية والجهوية لهم بعد إغلاق المنجم سنة 1998.
وحسب التقرير الذي صدر سنة 2018 بعد حادث وفاة شقيقين غرقاً في إحدى الآبار، فإن مناجم الفحم تعمل بطريقة فيها "استغلال بشع للعمال" الذين يعتمدون "وسائل جد بدائية" و"في غياب أدنى شروط الصحة والسلامة".
وأضاف التقرير أن "كل ذلك يتم بعلم السلطة المحلية والإقليمية والجهوية"، واصفاً ظروف عمل عمال جرادة بالقنانة والعبودية، بسبب دفع "أبناء جرادة نحو الموت والهلاك داخل أعماق تتجاوز أحياناً المائة متر".
وحسب المصدر نفسه، فإن "الآبار العشوائية لاستخراج الفحم استمرت في تشغيل حوالي 3 آلاف عامل، غالبيتهم من عمال المناجم المسرحين سابقاً من شركة مفاحم المغرب، وكذلك شباب ونساء وقاصرين".
الفحم يلتهم الغابات
وعلى مدار عشرات السنين، خلف الاستغلال المنجمي العشوائي في جرادة مخلفات معدنية قدَّرها وزير الطاقة والمعادن المغربي السابق عزيز الرباح في وقت سابق، بنحو 20 مليون طن.
كما كان للاستغلال العشوائي الذي أعقب إغلاق شركة مفاحم المغرب أبوابها، أثر كبير ضار على الغابات المحيطة، وهو ما يضر بالتوازن البيئي.
وقال الناشط الحقوقي المدافع عن البيئة محمد بنعطا للأناضول، إن "العاملين في القطاع يلجأون إلى قطع الأشجار بغرض استخدام أخشابها دعامات لأسقف المناجم لمنعها من الانهيار، وقد حدث استهلاك مفرط للغابات".
وختم بنعطا بالتشديد على أن "هذا الاستغلال الذي اضطر إليه العاملون بسبب غياب إمكانات ضمان وسائل سلامة بديلة، له أثر كبير ضار على التنوع البيولوجي الذي زخرت به الغابات المحيطة".
وكشف تقرير للمركز المغربي لحقوق الإنسان أن الآلاف من عمال الآبار يُصابون بمرض السحار السيليسي أو ما يعرف في جرادة بـ"السيليكوز"، لذلك طالبوا بضرورة إحداث مراكز طبية تُتيح العلاج المجاني لهؤلاء العمال في الإقليم.