كارثة صحية تواجه المصريين بسبب تلف جرعات كورونا، تنضم إلى أزمات أخرى في قطاع الصحة، يعانيها المواطنين وتتأثر بها الطواقم الطبية في مصر، حتى بعد أن هدأت وتيرة الإصابات بفيروس كورونا، وضعف تأثيرها على المواطنين.
تشير الحكومة المصرية إلى أن أرصدة اللقاحات الحالية الموجودة في المستشفيات تبلغ 57.5 مليون جرعة لاستكمال التطعيمات، وتتباهى بقدرتها على توفيرها كإنجاز يُحسب لها، لكنها تتجاهل الأسباب التي تقود لتراكم الجرعات بالمستشفيات لأشهر طويلة، دون أن تتمكن من إقناع المواطنين باللقاح، ولا تبرز بالطبع النتائج المترتبة على تحول جرعات الوقاية من الفيروس إلى سموم تصيب المواطنين.
ويقدر وزير التعليم العالي والقائم بأعمال وزير الصحة، خالد عبد الغفار، أعداد المواطنين الذين تلقوا لقاحات كورونا حتى الآن بـ38 مليون مواطن، بنسبة 37% فقط من إجمالي عدد السكان، ما يشير إلى أن قطاعات واسعة ليست لديها الثقة في اللقاحات بوجه عام، وتخشى المجازفة بالذهاب إلى المستشفيات والوحدات والمراكز الصحية المخصصة للتطعيم، لعدم ثقتها في جودتها.
لقاحات منتهية الصلاحية منذ مارس الماضي
تشير إحصاءات وزارة الصحة إلى أنها قدمت ما يقرب من 90 مليون جرعة من لقاح كورونا، في حين أن أرقامها التي أفصحت عنها قبل عام وثلاثة أشهر تقريباً تشير أيضاً إلى أنها تعاقدت على 146 مليون جرعة، سواء كان ذلك من اللقاحات المصنعة عالمياً أو المعبأة في مصر.
يفصح أحد الأطباء الذي يقوم على عملية تلقيح المواطنين في مركز لقاحات رئيسي بالعاصمة القاهرة عن عدد من الخروقات التي تستمر لعدة أشهر دون حسيب أو رقيب، إذ إن لقاح "سينوفاك" المصري الذي توفره وزارة الصحة في الوقت الحالي انتهت صلاحية استخدامه منذ شهر مارس/آذار الماضي، وأن العديد من الشكاوى التي تقدم بها الأطباء لم تلقَ استجابة من المسؤولين الذين يبررون ذلك بأنه مازال آمناً.
وكانت شركة سينوفاك الصينية، والشركة المصرية القابضة للمستحضرات الحيوية واللقاحات (فاكسيرا)، قد وقعتاً اتفاقاً لتصنيع اللقاح الصيني محلياً، وحصل على رخصة الاستخدام الطارئ من هيئة الدواء المصرية، العام الماضي، بعد اجتيازه عمليات التقييم اللازمة من قبل الهيئة، طبقاً للقواعد والمرجعيات العالمية المتبعة لتقييم أمان وجودة وفاعلية اللقاحات.
يلفت الطبيب المصري- الذي رفض ذكر اسمه خشية تعرضه لملاحقات- إلى أن تعليمات الإدارات الصحية هي الانتهاء أولاً من الجرعات المنتهية الصلاحية، أو التي قاربت على أن تنتهي، لكن مع ضعف الإقبال من جانب المواطنين تتراكم اللقاحات، ونكون أمام اختيارين كلاهما مر، إما الاستجابة لتعليمات مسؤولي وزارة الصحة أو الاعتماد على لقاحات أخرى قد لا تتماشى مع الجرعتين الأولى والثانية اللتين حصل عليهما المواطنون من قبل.
ويضيف الطبيب ذاته: "لا نجد سبيلاً سوى أن نسوق حجج واهية لمن يرتادون مراكز التلقيح للحصول على الجرعات، دون الإفصاح عن السبب الحقيقي لرفض منحهم الجرعات، حتى لا نتعرض للضرر، والبعض يقتنع بالفعل ويتوجس من وجود مشكلات في اللقاحات، وآخرون يصرون على موقفهم، وفي تلك الحالة نستجيب لرغباتهم".
شهادات تطعيم مزورة
ويكمل شهادته قائلاً: "في مرات عديدة نقوم بتفريغ الجرعات في الهواء والتواصل مع أقاربنا أو أصدقائنا لإصدار شهادات تطعيم لهم دون أن يحصلوا عليها، وبالرغم من أن ذلك يعد فرصة للتخلص من الجرعات غير الآمنة، فإنه يفتح المجال أمام ما يمكن تسميته بتزوير شهادات اللقاح، لأن هناك قطاعات مازالت ترفض اللقاح وتحاول التواصل مع الأطباء لمنحهم شهادات دون أن يحصلوا عليه".
تحاول الحكومة المصرية بشتى الطرق إثبات نجاح خطتها نحو توعية المواطنين بأهمية لقاحات فيروس كورونا، وفي سبيل ذلك توظيف كافة أدواتها لزيادة أعداد الحاصلين على اللقاح، حتى وإن كان ذلك مجرد أرقام تسعى لإبرازها والتسويق لقدرتها على تلقيح المواطنين، حتى لا ينكشف أمر انتهاء صلاحية الجرعات.
وفي سبيل ذلك، أطلقت قبل شهرين تقريباً حملة بعنوان "طرق الأبواب"، تجوب العاصمة القاهرة وعدداً من المحافظات الأخرى، وهدفها الوصول إلى المواطنين في منازلهم، ودفعهم للحصول على اللقاحات، وقدمت الجرعات للأعمار بدءاً من 12 عاماً، وكذلك الحوامل والمرضعات وكبار السن.
كيف فسدت الجرعات
بحسب طبيب مصري يشارك في تلك الحملات بمحافظة المنيا (جنوب)، فإن اللقاحات إلى جانب كونها منتهية الصلاحية فإنها بالطبع تتعرض للتلف، لأن الحملة تنطلق من التاسعة صباحاً وحتى السادسة مساء، ويجب أن تُحفظ الجرعات في درجة حرارة 27 تحت الصفر، في حين يتم وضعها في صناديق ممتلئة بالثلج الذي يتعرض للذوبان مع انتصاف النهار.
يجوب الطبيب المصري الشاب قرى عديدة بمحافظة المنيا، ويجد صعوبة في إقناع المواطنين بالحصول على اللقاح، ولا يجد المحفز الذي يجعله حريصاً على إقناعهم، لأنه يدرك أن الجرعات بينها كثير من الحقن منتهية الصلاحية، إلى جانب أن مسألة إرغام الأطباء على المرور على المواطنين في مساكنهم أمر يتنافى مع طبيعة عملهم، ويعرضهم للإرهاق الشديد، مع حرمانهم من الإجازات بسبب العجز الكبير في أعدادهم.
ويوضح أن هناك أربعة أصناف من الجرعات منتهية الصلاحية، في الفترة ما بين أبريل/نيسان وحتى يوليو/تموز الماضي، وهي (أسترازينيكا وفايزر وسينوفاك المصري وسينوفارم)، قبل أن تبدأ وزارة الصحة في ضخ جرعات جديدة مع هذا الشهر، مع إعلانها عن إتاحة جرعة رابعة وتنشيطية لمن حصلوا على اللقاح قبل ستة أشهر.
لا تمنح إدارات المستشفيات الفرصة أمام الأطباء للاعتراض على الجرعات منتهية الصلاحية، وتهدد الأطباء بتوالي حملات التفتيش عليهم إذا تداول المواطنون أنباء تلف الجرعات، وفي النهاية سيكونون مسوؤلين أيضاً أمام القانون، لأنهم تورطوا في المخالفة، وبحسب الطبيب الذي تحدث بعد محاولات عديدة لإقناعه بأنه فكر في مرات عديدة بترك رسالة مجهولة على مواقع التواصل الاجتماعي لفضح الأمر، لكنه تراجع خوفاً على مستقبله.
جلطات ومشاكل بالجهاز الهضمي أبرز مشكلات اللقاحات منتهية الصلاحية
ويؤكد مدير إحدى مستشفيات حميات الصدر بالقاهرة، أن وزارة الصحة تنبهت للأضرار الناتجة عن بقاء الجرعات لفترات طويلة في أماكن تخزين غير مطابقة للمواصفات العالمية، وبدأت في توريد كميات جديدة من لقاح سينوفاك المعبأ محلياً، وذلك بعد أن تعددت شكاوى أطباء الصدر والباطنة، من إصابة المواطنين الحاصلين على لقاحات بجلطات ومشكلات عديدة بالجهاز الهضمي، تحديداً بعد حصولهم على لقاحات "أسترازينيكا" و"جونسون" الذي جرى تخزينه لفترات طويلة، قبل أن تفرج عنهما وزارة الصحة بكميات كبيرة، أغلبها كانت قد انتهت صلاحيتها.
ويضيف أن المستشفيات ومراكز التطعيم تحتوى على أماكن تخزين مؤمّنة، وتحظى بإشراف طبي مستمر، لكن المشكلة تتمثل في تعريض الجرعات لأشعة الشمس والأجواء الحارة في حملات طرق الأبواب التي يجب أن تتوقف لحين انتهاء فصل الصيف، وكذلك فإن بعض الأكشاك المخصصة لتلقي اللقاحات في الميادين العامة ومحطات المترو لا تكون مجهزة بالشكل السليم، ويترتب على ذلك تلف كثير من اللقاحات دون أن يكون لدى الأطباء إمكانية التخلص منها.
وتشير وزارة الصحة المصرية على لسان متحدثها الرسمي حسام عبدالغفار إلى أن متوسط عمر اللقاحات عام على الأقل، لكن الأطباء وكذلك مدير المستشفى الذي تحدثنا معه، أشاروا إلى أن "سينوفاك المصري" صلاحيته ستة أشهر فقط، كما أن هؤلاء أجمعوا على أن الأخطر من مدة الصلاحية يتمثل في أجواء الحفظ غير الجيدة التي تعرض اللقاح للتلف.
"تارجت اللقاحات" يزيد صعوبات عمل الأطباء في مصر
وتسلط إحدى الطبيبات التي تعمل بأحد مراكز اللقاحات بمحافظة الإسكندرية الضوء على أزمة أخرى تتعلق بما تصفه بـ"تارجت اللقاحات"، إذ تطلب مديرية الصحة بالمحافظة من كل طبيب يعمل ضمن منظومة "طرق الأبواب" ملء استمارات لـ60 مواطناً يومياً، بما يعني تسجيلهم على سيستم الوزارة بأنهم حصلوا على اللقاحات، وهو ما يشكل صعوبة بالغة على الأطباء الذين يمضون أوقاتاً إضافية لتحقيق ذلك.
وتشدد على أنه بالمعدلات الطبيعية من الممكن أن ينجح الطبيب الواحد في إقناع 10 إلى 20 مواطناً يومياً، لكن الوصول إلى رقم 60 يبقى صعباً للغاية، ويكون البديل تفريغ اللقاحات في الهواء، مقابل تسجيل أسماء مواطنين لم يحصلوا على اللقاحات من الأساس، بدلاً من التعرض لمضايقات المديرين أو تغيير أماكن العمل.
وتؤكد أن الأطباء يختارون التخلص من اللقاحات المنتهية الصلاحية أولاً، وفي أحيان عديدة يتم تفريغ جرعات مازالت سارية، مشيرة إلى أن المراكز الطبية تتسلم اللقاحات من وزارة الصحة أثناء فترة صلاحيتها، لكن مع بقائها شهرين أو أكثر تكون قد انتهت، ودائماً ما تلجأ مستشفيات الحميات ومراكز اللقاحات للتركيز أولاً على منح المواطنين لقاحات تقترب من انتهاء مدتها.
تدنٍّ في أعداد الحاصلين على اللقاحات يومياً
وفي المقابل، يقول مصدر مطلع بوزارة الصحة المصرية، إن حالة اللامبالاة التي تطغى على غالبية المواطنين جراء رفض الحصول على اللقاح، أو إيمانهم بمدى تأثيره الإيجابي على تخفيف حدة الإصابة بالفيروس، يقود لتراكم الجرعات التي تعاقدت عليها وزارة الصحة قبل عام ونصف العام تقريباً، ووصلت إلى القاهرة في توقيتات مختلفة على مدار العام الماضي والشهور الماضية.
ويضيف أن خريطة تلقي اللقاحات تشير إلى تدنٍّ كبير في أعداد الحاصلين عليها يومياً، وبعد أن وصل الرقم في فترات إلى 500 ألف حالة يومياً، أضحى الآن لا يتجاوز 100 ألف حالة، وهناك حالة من العزوف عن الذهاب إلى المراكز والمستشفيات، لكن في الوقت ذاته لا يمكن الجزم بأن هناك جرعات منتهية الصلاحية، أو لديها تأثيرات سلبية على صحة الحاصلين عليها، ونصدر تعليماتنا للمستشفيات بإعدام الجرعات التالفة.
ويوضح المصدر، الذي رفض ذكر اسمه، أن الفترة الراهنة تشهد زيادة مضطردة في أعداد الإصابات، وأن تقارير طبية تشير إلى 50% من أعراض نزلات البرد والتهاب الحلق وسيلان الأنف مصابة بالفيروس، لكن لا يتم اكتشافها أو تسجيلها بشكل رسمي، كما أن حالات الوفيات تستمر في التزايد أيضاً، وأغلبها لكبار السن أو ممن لديهم مشكلات في الجهاز المناعي.
ويتوقع أن يشهد شهرا أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني، زيادات مضطردة في أعداد الإصابات؛ تزامناً مع موسم الإنفلونزا الموسمية، وإمكانية انتشار سلالات جديدة من الفيروس داخل مصر، ما يترتب عليه اهتمام المواطنين بتلقي اللقاحات.
ومع بداية الشهر الماضي، كشفت وزارة الصحة عن رصدها ارتفاعاً في معدلات الإصابة المجتمعية بفيروس كورونا بنسبة 6.9%، قبل أن يعلن مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الصحة والوقاية الدكتور محمد عوض تاج الدين، عن انخفاض أعداد الإصابات تدريجياً مع نهاية الأسبوع الأول من شهر أغسطس/آب، مؤكداً أن تدفق اللقاحات على مصر ما زال مستمراً.
توصلت دراسة حديثة لشركة "إيرفينتي" البريطانية، الخاصة بتحليل البيانات الطبية، إلى أن أكثر من مليار جرعة من لقاحات فيروس كورونا تم هدرها على مستوى العالم، من بين 14 مليار جرعة لقاح، وقامت الشركة بتتبع البيانات الصحفية والإخبارية حول إهدار اللقاحات حول العالم، وتبيّن أن الدول أهدرت هذه الكميات رغم الحاجة الملحة للتطعيم.
وأوضحت الدراسة أن أكثر من 25 مليون جرعة من لقاح سبوتينيك الروسي لم يتم استخدامها إلى حين انتهاء صلاحيتها، كما تبين أن 19 مليون جرعة خاصة بلقاح أسترازينيكا تم إهدارها أيضاً، لأسباب ترجع إلى أن جزءاً منها ربما يكون منتهي الصلاحية، فيما جزء آخر بات غير صالح للاستخدام، بسبب إجراءات التبريد والتخزين، أو حتى بسبب إهمال الطواقم الطبية في مصر.