"القانون في إجازة" مقولة شهيرة لسعد زايد، أحد الضباط المصريين الأحرار في الستينيات، عندما تم سؤاله عما إذا كان ما يفعله يتفق مع القانون أم لا ليفعل ما يحلو له، هذا ما يعانيه مريدو استخراج الأوراق الثبوتية في مصر.
تلك المقولة تنطبق على ما يحدث للمعارضين المصريين في الداخل والخارج، فهم يعانون الأمرَّين للحصول على حقهم الدستوري في تجديد أو استخراج جواز سفر، فالقانون لا يتم تفعيله حين يتعلق الأمر بأصحاب رأي أو معارضين أو سياسيين، ويتم التضييق عليهم عبر منع أو تأخير تجديد جوازاتهم أو استخراج أخرى جديدة لمواليدهم.
لم يكن إفصاح المحامية والناشطة الحقوقية المصرية ماهينور المصري، قبل أيام، عن تسلّمها جواز السفر الخاص بها، بعد أشهر من مماطلة المؤسسات الحكومية المسؤولة عن استخراج الأوراق الرسمية، سوى وميض يمكن أن يكشف خبايا عديدة في الجوانب المعيشية والحياتية التي يعانيها المفرج عنهم من سجناء الرأي في مصر، ويتعرضون فيها لعقوبات أخرى جديدة قد لا تقل ألماً ومرارة عن تجربة السجن.
نشرت المصري تدوينة على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" في الحادي والثلاثين من يوليو/تموز الماضي روت فيها جزءاً من تفاصيل المعاناة التي تعرضت لها أثناء إجراءات استخراج وثيقة جواز السفر، وتحركت الجهات المعنية فقط حينما أرسلت شكاوى لوزير الداخلية ومساعده لشؤون الوثائق بعد تسعة أشهر على بدء أولى خطواتها لتكتشف أنها صدرت بالفعل بتاريخ 19 أبريل/نيسان الماضي.
وقالت الناشطة التي تم الإفراج عنها قبل عام تقريباً: "يئست من الحصول على جواز السفر بشكل طبيعي، وكان لديَّ توجه للجوء للقضاء، وكان ذهابي للسؤال ما إذا كان صدر أم لا استعداداً للتحركات القانونية، لكن تسلمته في النهاية ولا أعلم ما إذا كان لديَّ الحق في السفر أم لا".
وجرى توقيف المصري في سبتمبر/أيلول 2019 عقب تظاهرات محدودة شهدتها القاهرة تلبية لدعوة المقاول والممثل المصري محمد علي للتظاهر عبر حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تمكنت من اجتذاب نسبة متابعة كبيرة، بعد حديثه عن فساد في دوائر الدولة العليا، وواجهت الناشطة المصرية اتهامات بـ"نشر أخبار كاذبة" و"مشاركة أهداف جماعة إرهابية".
عرقلة استخراج الأوراق الرسمية عقوبات جديدة بحق المفرج عنهم
تعد حالة ماهينور واحدة من حالات كثيرة تعاني في الداخل والخارج؛ بسبب التعنت في استخراج أو تجديد أوراقهم الثبوتية، وتتركز الشكاوى من صعوبة الحصول على الأوراق الرسمية من جانب المفرج عنهم من سجناء الرأي والمحبوسين على ذمة قضايا سياسية، وهو ما يؤشر على أن الهدف هو مزيد من التضييق عليهم، وضمان عدم مغادرتهم البلاد حتى مع استمرار أحكام المنع من السفر لدى العديد من المعارضين السياسيين الذين تم الإفراج عنهم مؤخراً.
تردد محمد رشاد -المفرج عنه بعد انقضاء فترة عقوبته بتهمة نشر أخبار كاذبة بسبب تدوينات معارضة له على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"- على قسم شرطة الدقي بمحافظة الجيزة وسجل الأحوال المدنية بالمحافظة ذاتها لفترة دامت لأكثر من عشرة أشهر لاستخراج بطاقة الرقم القومي عقب انقضاء عقوبته في أبريل/نيسان من العام 2021.
وبحسب الشاب الثلاثيني: "إدارة قسم الشرطة تحججت بأن البطاقة لم تصل إليها من مصلحة الأحوال المدنية، وحينما ذهبت إلى المصلحة للسؤال عنها أخبرني الموظف بأنه جرى إرسالها إلى قسم الشرطة لتسلمها، واستمرت رحلة البحث عنها بين قسم الشرطة ومصلحة الأحوال المدنية قبل أن أتسلمها في مايو الماضي".
ويضيف: "خلال تلك الفترة وجدت صعوبات جمة، سواء كان ذلك أثناء عملية إلحاق ابني بإحدى المدارس الحكومية أو عدم القدرة على التنقل خوفاً من حملات التفتيش، واضطررت لتأجيل زفاف أختي التي انتظرت خروجي من السجن، باعتباري ولي أمرها عقب وفاة والدي".
يشير رشاد إلى أنه لم يحصل بعد على حريته، فالصعوبات التي واجهها أثناء تردده على قسم الشرطة والمصالح الحكومية بحثاً عن بطاقته، وكذلك طريقة تعامل الموظفين معه جعلته يدرك أنه قد يجد نفسه بالسجن مرة أخرى في أي لحظة، وأن الجهات الأمنية تتعنت حتى تجد مبرراً للقبض عليه، وأنه ما زال تحت الرقابة التي تجعله غير قادر على العودة بشكل طبيعي لممارسة حياته.
شباب يضيع مستقبلهم بسبب التضييق الحكومي
منذ أيام طالب حزب الإصلاح والتنمية المعارض، بمناسبة اليوم العالمي للشباب 12 أغسطس/آب في بيان له، الحكومة المصرية بوقف التعنت الذي تمارسه ضد عائلات المحبوسين على ذمة قضايا سياسية (قضايا الرأي) وحرمانهم من الترقي الوظيفي والأكاديمي وصعوبة عودة المحبوسين أنفسهم إلى وظائفهم بعد خروجهم من الحبس، وسوء المعاملة التي تمارس ضدهم وأسرهم دون مبرر.
يشير محمد بيومي -وهو اسم مستعار لشاب في نهاية العشرينيات- إلى أنه جرى إلقاء القبض عليه أثناء المظاهرات التي اندلعت في مناطق متفرقة بالعاصمة القاهرة؛ احتجاجاً على التفريط في جزيرتَي تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية بالعام 2017، وتم فصله من كلية الآداب بجامعة القاهرة بسبب عدم اهتمام إدارة سجن مزرعة طرة بإيصال التعذر لحضور الامتحانات إلى مصلحة السجون، والتي كان عليها أن ترسله للجهات التعليمية المعنية.
بعد الإفراج عن الشاب المصري قبل عام ونصف تقريباً، وبعد أن قضى ما يقرب من أربع سنوات في السجن وجد نفسه مفصولاً، وحينما ذهب إلى سجن المزرعة للاستعلام عن التعذر ولماذا لم يصل إلى إدارة الجامعة لم يتلقّ إجابة وافية سوى بأن إدارة السجن أرسلته إلى مصلحة السجون، وهي إحدى الإدارات التابعة لوزارة الداخلية، بحسب ما يروي الشاب المصري.
لم يجد بيومي سوى الذهاب إلى النيابة العامة لإثبات وجوده في السجن خلال تلك الفترة والحصول على جواب بذلك لإدارة الجامعة، لكنه لم يحصل عليه حتى الآن، ولا يجد سبيلاً للعودة مرة أخرى إلى جامعته سوى أن يسلك الطريق القضائي، والذي قد يمتد لسنوات أملاً في أن يحصل على حقه باستكمال تعليمه.
منع استخراج الأوراق الثبوتية انتهاك لمواد الدستور
يدوّن العديد من المحامين العاملين في المجال الحقوقي شهاداتهم بشأن رفع دعاوى قضائية أمام محكمة القضاء الإداري لتمكين موكليهم من جواز السفر أو شهادات الدراسة أو بطاقات الرقم القومي، والتي دائماً ما تستغرق وقتاً للفصل فيها.
يؤكد محامٍ وحقوقي معروف لـ"عربي بوست" أن الصعوبات التي يواجهها موكلوه بشأن استخراج الأوراق الرسمية دائماً ما ترتبط بسجناء الرأي، ولا تعبر عن حالة عامة يعانيها السجناء بوجه عام، وأن التعنت في استخراج الوثائق الحكومية دائماً ما يتبعه تعنت آخر يرتبط بصعوبات العودة إلى العمل مرة أخرى، وهو ما تعرض له الناشط السياسي شادي الغزالي حرب.
ومؤخراً أصدرت محكمة القضاء الإداري حكماً بإلزام رئيس جامعة القاهرة وعميد كلية طب قصر العيني بإعادة الدكتور شادي الغزالي حرب لعمله كأستاذ مساعد، وعضو هيئة التدريس بكلية طب جامعة القاهرة، وتسليمه عمله بالكلية.
ويضيف الحقوقي أن العراقيل التي يواجهها المُفرج عنهم تختلف من الذين كانوا محبوسين احتياطياً وبين من صدرت بحقهم أحكام نهائية، ففي الحالة الأولى ليس هناك تهم مثبتة أو حجة قانونية تدفع للتضييق على المفرج عنهم والذين يتمتعون بكافة حقوقهم ولا يواجهون مشكلات تذكر حين استخراج أوراق رسمية أو التنقل أو السفر، وهؤلاء يعودون لوضعهم الطبيعي ويسهل دمجهم في المجتمع.
الأزمة تكمن في الحالة الثانية، والتي تتعلق بمن صدر بحقهم أحكام نهائية ويُخلى سبيلهم بقرارات العفو الرئاسي -بحسب الناشط الحقوقي- وفي تلك الحالة تتزايد العراقيل والتعقيدات، خصوصاً إذا كان الحكم يترتب عليه آثار أخرى غير الحبس، والواقع يشير لوجود عقوبات أخرى يواجهها المفرج عنهم عقب خروجهم من السجن، وفي الأغلب لا يستطيعون التأقلم مرة أخرى مع المجتمع.
يشير الحقوقي إلى أن المفرج عنهم يواجهون مشكلات اجتماعية وإنسانية هائلة، بينها عراقيل استخراج الأوراق الرسمية، وإن كان أغلبهم لا يكون لديه القدرة على التفرغ لمواجهة المشكلات المرتبطة بالبيروقراطية والعراقيل الأمنية في مقابل اهتمامهم بلملمة بقايا حياتهم التي انهارت مع دخولهم السجن، إلى جانب انخراطهم في مجابهة الصعوبات الاقتصادية التي يواجهونها جراء فقدانهم وظائفهم تحديداً، وأن هؤلاء تكون جريمتهم إبداء آرائهم وليس التورط في جرائم عنف أو قتل.
بحسب عضو بمجلس حقوق الإنسان المصري -رفض ذكر اسمه- فإن الحكومة لا تعير اهتماماً للمفرج عنهم من سجناء الرأي مع ترويجها للتوسع في الإفراج عنهم، وفي الوقت ذاته، فإنها تنتهك مواد الدستور والاتفاقيات الدولية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تتيح للمواطنين حق الحصول على الوثائق الرسمية.
وتعد الحالة الوحيدة التي يكون بمقتضاها لدى الحكومة الحق في سحب جوازات سفر المواطنين أو منع إصدارها من يدرجون على قوائم الإرهاب، وتنص المادة (7) من قانون الكيانات الإرهابية رقم 8 لسنة 2015، على "أنه تترتب بقوة القانون على نشر قرار الإدراج ما لم تقرر المحكمة خلاف ذلك، فيما يتعلق بالأشخاص.. سحب جواز السفر أو إلغاؤه، أو منع إصدار جواز سفر جديد".
يضيف المصدر أن استمرار التعنت في وقت أطلقت فيه حواراً وطنياً تهدف من خلاله لفتح المجال العام وإتاحة الحريات العامة يشي بأن هناك أطرافاً خفية في الدولة العميقة تسعى لتخريبه، كما أن مثل هذه التصرفات قد تقود المتضررين منها للانتقام من الدولة بطرق وأساليب عديدة، مشيراً إلى أن البيروقراطية التي تهيمن على العمل الحكومي في مصر تفاقم مشكلات المفرج عنهم.
التضييق على المعارضين بالخارج يدفعهم لرفع دعاوى قضائية
بالمثل توظف الحكومة المصرية مسألة التعنت في استخراج الأوراق الحكومية ضد المقيمين في الخارج، ولا يقتصر الأمر على جوازات السفر، حيث تتعنت أحياناً القنصلية المصرية في بعض الدول في إنهاء المعاملات القنصلية لبعض المعارضين المصريين، مثل تسجيل زيجاتهم في القنصليات المصرية أو عمل التوكيلات الرسمية وإصدار وثائق الميلاد وتوثيق الشهادات الدراسية، وذلك بناء على تعليمات من الأجهزة الأمنية المصرية.
ويعد ذلك أحد أشكال عقابهم؛ لأن انتهاء صلاحية جواز السفر تتسبب لهم في إيقاف أي معاملات رسمية تخصهم أو تتعلق بأسرهم في الدول التي يقبعون بها؛ لذا يلجأ البعض إلى رفع دعاوى قضائية لمحاولة إجبار الحكومة المصرية على تجديد جواز سفره، إذ يترتب على منع صدور جواز السفر منع المقيمين في الخارج من تجديد إقاماتهم في الخارج، ما يحرمهم من الحصول على أي خدمات مثل الصحة والتعليم وغيرهما.
وفي مطلع العام الماضي، رفضت محكمة القضاء الإداري الدعوى المقامة من الفنان المصري عمرو واكد، التي يطالب فيها بإلزام وزارة الخارجية عبر القنصلية المصرية في العاصمة الإسبانية مدريد، بتجديد جواز السفر الخاص به.
وقال واكد، في دعواه: "إنه يحاول منذ بداية العام 2020 تجديد جواز السفر الخاص به عن طريق القنصلية المصرية في مدريد بإسبانيا؛ نظراً لتواجده خارج البلاد لارتباطه بعدة أعمال فنية عالمية تستدعي بقاءه المتواصل لفترة خارج البلاد، غير أن المسؤولين بالقنصلية أخبروه شفوياً بأنه لن يتم تجديد جواز سفره، وأنه مواطن مصري كفل له الدستور والقانون حقه في حيازة جواز السفر وتجديده عند الاقتضاء، ولا يوجد نص في دستور أو قانون يحولُ بينه وبين هذا الحق ما دام متمتعاً بالجنسية المصرية التي يفخر بها".
والأمر ذاته تكرر مع نائب رئيس الجمهورية المصري السابق، محمد البرادعي الذي ماطلت وزارة الخارجية معه لعدة أسابيع قبل أن تمنحه جواز السفر الجديد بسبب معارضته للنظام.
وكذلك المرشح الرئاسي الأسبق أيمن نور، الذي حرم من تجديد جواز سفره منذ سنوات، رغم حصوله على حكم قضائي بذلك.
ورفضت السفارة المصرية في لندن قبل ذلك تجديد جواز سفر الصحفي المصري عبد المنعم محمود، وطلبت منه التوجه إلى القاهرة في حال رغب بتجديد جواز سفره، وأعلن محمود أنه تقدّم باستمارة تجديد جواز السفر في القنصلية المصرية في لندن بتاريخ 3 يناير/كانون الثاني 2017، وتم إبلاغه بأن جواز السفر يصدر خلال شهر من وقت التقديم، ليكتشف لاحقاً وجود رفض تجديد الجواز في لندن، حيث يقيم.
واحد من هؤلاء الممنوعين من تجديد جواز السفر تحدث لـ"عربي بوست"، موضحاً أنه توجه إلى القنصلية المصرية في إسطنبول لتجديد جواز السفر، وكلما تواصل مع القنصلية أخبروه أن طلبه ما زال معلقاً وفي انتظار الموافقة الأمنية وفي النهاية أخبروه أنه تم رفض تجديد الجواز ويسمح له فقط بإصدار وثيقة سفر للعودة إلى البلاد.
يوضح مصدر أمني بإدارة الجوازات لـ"عربي بوست" أن تلك التضييقات الأمنية الهدف منها حماية الوطن من العبث بمقدراته، مشيراً إلى أن المرفوضين أمنياً عليهم أحكام قضائية أو عسكرية وآخرون هاربون من التجنيد وبعضهم استولى على أموال المواطنين.
ورداً على تساؤل بأنهم يأخذون العاطل بالباطل، ويضعون الجميع في سلة واحدة؛ لأن منهم من لم يتورط في أعمال عنف أو جرائم، قال المصدر: عليه أن يخرج من البلد المتواجد فيه بوثيقة سفر لدخول مصر، ووقتها سيكون الأمن الوطني في انتظاره؛ للتأكد من أنه ليس على قائمة ترقُّب الوصول من السفر، بعد ذلك يتم استيفاء بعض الأوراق وتسليمه إلى مديرية الأمن التابع لها للكشف الجنائي، وتستغرق تلك الإجراءات ثلاثة أيام، وإذا كانت كل الملفات الخاصة به سليمة يستطيع بعد ذلك استخراج جواز سفر خلال خمسة أيام عمل، والذهاب أينما شاء.
ويُنهي حديثه بأنه من الممكن أن تظهر عراقيل في أي من الخطوات السابقة تؤجل السفر أو تلغيه.