تتربع تايوان في المرتبة الرابعة عشرة عالمياً، والسابعة آسيوياً ضمن قائمة "غلوبال فاينانس" لأغنى دول العالم في 2022.
يأتي هذا رغم المشاكل السياسية الكبيرة التي تتعرض لها تلك الجزيرة، والتي تطالب الصين بضمها لسيادتها رغماً عن الحكومة التايوانية، ودخول الولايات المتحدة كحليف لها.
كيف إذاً استطاعت تايوان رغم كل ذلك الوصول لهذه المرتبة الاقتصادية المتقدمة؟
علامَ يعتمد التصنيف؟
تلجأ المجلة المالية الأمريكية، غلوبال فاينانس، في تصنيفها للدول الـ192 على قائمتها إلى وضع عدّة مؤشّرات بعين الاعتبار لتحديد معنى "الغنى" الحقيقي.
يهتمّ التصنيف بمؤشر الناتج المحلّي الإجمالي (GDP)، لكونه يقيس قيمة جميع السلع والخدمات المنتجة في هذه الدول، إلا أنّ هذا المؤشر لا يكفي وحده مع تفاوت الدخل الكبير بين الأغنياء والطبقات الأخرى.
ولذلك، يُقسّم التصنيف مجمل الناتج المحلّي على عدد الأشخاص المقيمين في البلد، وتُؤخذ معدلات التضخم بعين الاعتبار وتكلفة السلع والخدمات المحلية، للوصول لصورة أدقّ لمتوسط مستوى المعيشة في الدولة.
يُسمّى الرقم الناتج بتعادل القوة الشرائية (PPP)، ويعني بالمحصّلة كمية السلع والخدمات المتوفرة أمام الفرد بمقابل دخله المُتاح خلال مدة زمنية محددة.
معجزة تايوان الاقتصادية
شهدت تايوان قفزةً هائلة في النمو الاقتصادي خلال النصف الأخير من القرن العشرين، فيما بات يُعرف بمعجزة تايوان أو المعجزة الاقتصادية التايوانية.
نما الناتج القومي الإجمالي لتايوان بصورة استثنائية في الفترة الواقعة بين 1965 إلى 1986، فقد زاد بنسبة 360% في هذه الإحدى وعشرين سنة.
ورغم أن اقتصاد تايوان شهد فترات ازدهار وانكماش متعددة عبر التاريخ، فإن تايوان استطاعت الحفاظ على نمو اقتصادي جيد عبر السنين، حتى أن اقتصادها فاق بنموّه اقتصاد جارتها الصين عام 2020.
قطاع التصنيع التنافسي
سبق الإصلاح الزراعي ازدهار تايوان الاقتصادي في الستينيات ومهّد له، ولكن العمالة بدأت بالانتقال لقطاع التصنيع الذي تسبب بالطفرة الاقتصادية في الستينيات والسبعينيات.
واتسم القطاع الاقتصادي التايواني بالمرونة الفائقة والقدرة على التطور بما يتناسب مع المتطلبات الفعلية لكل فترة زمنية.
فقد استهلّت تايوان صناعتها بالتركيز على تصنيع المواد الغذائية والمنسوجات، وما شابه ذلك من منتجات في البداية.
في الثمانينيات، شرعت تايوان في الانتقال نحو الصناعات ذات الكثافة الرأسمالية، والقائمة على توظيف المعرفة، ويلاحظ ازدياد تركيزها على الصناعات المعدنية والآلات شيئاً فشيئاً.
ومن ثم بدأ التركيز ينصبّ على قطاع الإلكترونيّات، الذي كان يُنظر له في شرق آسيا على أنه جواز السفر للمستقبل، لا سيما وأنّ حصّة صادرات التكنولوجيا العالية بدأت تنافس بتسارعٍ كبير على المستوى العالمي.
صناعة الإلكترونيّات والرقائق
تُعتبر الإلكترونيات هي محرّك التصنيع في تايوان على مدى العقود الأخيرة، وأصبحت الجزيرة مركزاً رئيسياً لتكنولوجيا المعلومات في المنطقة، مع حيازتها مكانة خاصة في وادي السيليكون الأمريكي.
وصارت تايوان رائدة فيما بات يُعرف بالثورة الصناعية الرابعة (Industry 4.0)، التي تتطور بوتيرة أُسيّة لا خطيّة.
وتشمل هذه المرحلة أحدث القطاعات والأنظمة التكنولوجية القائمة على الابتكار ومزج التقنيات، بما فيها: الروبوتات ذاتية الحركة والذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، البيانات الضخمة، الأمن السيبراني، التقنيات السحابيّة، الطباعة ثلاثيّة الأبعاد (أو التصنيع التجميعي)، وغيرها من مجالات في طور التطوير.
ومن أبرز النقاط التي أثّرت في حكاية نجاح تايوان في التحوّل نحو الصناعة التكنولوجية، كان عبر تأسيس معهد أبحاث التكنولوجيا الصناعية عام 1973 لاستكشاف أبرز القطاعات الصناعية التي يمكن أن تقوم بالاقتصاد، وكذلك البحث عن أفضل العقول التايوانية المتخصصة في الخارج واستقطابها للعودة وخدمة البلاد.
ضمن هذا التوجه، نجحت الحكومة التايوانية آنذاك بإقناع المهندس موريس تشانغ الذي كان يعمل في الولايات المتحدة بالعودة إلى بلاده عام 1985، وتولي مسؤولية رئاسة المعهد.
بعد عامين، أسس تشانغ شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة (TSMC)، التي صارت الرقم الأصعب في صناعة أشباه الموصلات (الرقائق) على مستوى العالم.
غدت أشباه الموصلات العصب الرئيسي للصناعة التكنولوجية المتقدمة، ويُشبّه البعض دورها الحسّاس في السياسة العالمية الآن بدور النفط في التاريخ القريب لمنطقة الشرق الأوسط.
وقد أثبتت الأيام حُسن تخطيط تايوان بدخولها في هذا المجال، فالطلب العالمي على الرقائق تفاقمَ بصورة هائلة كما تنبّأ تشانغ، وصارت هذه الصناعة العنصر الرئيسي الذي يدفع بمؤشر الإنتاج الصناعي التايواني للارتفاع المستمر في السنوات الأخيرة وفقاً لوزارة الشؤون الاقتصادية.
عوامل أخرى مساعدة
مع تطوّر تايوان إلى قوة اقتصادية في الثمانينيات، بدت ملامح النضج والتنوع بالظهور في نموذجها الاقتصادي، مصحوباً ذلك بوجود دولي قويّ، واحتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي.
لعب عامل توفر العمالة الرخيصة وانخفاض أجور التصنيع في تايوان دوره في تعزيز النمو الاقتصادي، مع ما يقدّمه للشركات المُنتجة والاستثمار الأجنبي من مستوى فعّال في التعليم والتكلفة والجودة.
تتسم ظروف العمل في تايوان بالصرامة والانضباط، ورغم احتجاجات العمّال لتحسين مستوى الأجور ومطالب أخرى، فإن الأجور لا تزال متدنية، مقارنة بمعظم الاقتصادات الآسيوية النظيرة لها بمستوى التعليم والتنمية، وإن كانت لا تزال أفضل من الصين.
ووفقاً لوزارة العمل التايوانية، بلغ متوسط الراتب المبدئي للخريجين من 808 إلى 1245 دولاراً أمريكياً في شهر يونيو/حزيران من العام الجاري.
وساهمت السياسات الحكومية في دفع التوسع الاقتصادي السريع، بما في ذلك مجموعة الاستراتيجيات المُطبّقة في الخمسينيات والستينيات، ومن ثم توّجه الحكومة لإجراء تكيّف هيكلي مع شكلٍ جديد لاقتصادٍ يُناسب ظروف البلاد.
وفي الثمانينيات بدأت الحكومة حملة الخصخصة، لتعرض أكبر وأهم البنوك والمنشآت الصناعية التي تمثل محور اقتصاد اليونان للبيع، وذلك بعد عقودٍ من التدخل الحكومي المباشر في الاقتصاد.
تدريجياً، تحول الاقتصاد التايواني إلى النموذج الحالي الموجّه للتصدير إلى الخارج، ومحرّك نموّه وأساسه القطاع الخاص الذي طوّر حيويته الخاصة في السوق الحرّة.
بالإضافة إلى العديد من النقاط التي بدا فيها أثر التخطيط الحكومي، مثل عمل الحكومة على تطوير اقتصادها بطريقة توزّع الصادرات التايوانية على أسواق جديدة للوقاية من التنافس الشرس للدول الصناعية، والانضمام لمنظمة التجارة العالمية، وغير ذلك.
ويعدّ التوجه للتصنيع الذكي أحدث استراتيجيات تايوان الهادفة لإبقاء نموذجها الاقتصادي، متكيّفاً ومنافساً باستمرار، ويشمل ذلك مجموعة القرارات التي أصدرتها حكومة تساي إنغ وين لتحويل تايوان إلى جزيرة رقمية ذكية، تعتمد في تصنيعها على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة والابتكار.