هل يمكن أن يستيقظ المصريون ذات يوم ليجدوا أن كل الأطباء هاجروا من البلاد؟ قد يرى كثيرون أنه سؤال عبثي لكنه يطرح مخاوف تؤكد مصادر طبية عديدة أنها قريبة التحقق بسبب ما يمكن وصفه بأنه نزيف هجرة الأطباء من مصر في العامين الأخيرين وتحديداً منذ اجتياح وباء كورونا للبلاد.
وتشير تقديرات مصادر طبية مصرية إلى أن الأطباء العاملين في مستشفيات ومراكز صحية حكومية لا تتجاوز نسبتهم 37% فقط من إجمالي عدد الأطباء المسجلين في وزارة الصحة المصرية، بينما تقل هذه النسبة إلى 23.5% فقط من إجمالي الأطباء المسجلين في نقابة الأطباء المصرية والذي يبلغ 350 ألف طبيب، وهي الجهة التي تمنح الترخيص اللازم لمزاولة مهنة الطب في مصر.
وأكدت مصادر في نقابة الأطباء المصرية لـ"عربي بوست" أن هناك ما يقرب من 150 ألف طبيب يعملون خارج مصر حالياً، منهم ما يزيد عن 10 آلاف طبيب شاب هاجروا في العامين الأخيرين، لافتة إلى أن أغلب المهاجرين من التخصصات النادرة التي تحتاجها الدول الغربية بشدة، ولذلك تتساهل جداً في منحهم إقامات قانونية، وتوفر لهم عملاً سريعاً في مستشفياتها الحكومية.
النسبة المتبقية من الأطباء المسجلين في النقابة والذين لم يهاجروا وكذلك لا يعملون في الحكومة، فهم كما ذكرت المصادر يعملون في مستشفيات خاصة أو في عيادات لأنها أكثر ربحاً وأقل مسؤولية، وهؤلاء يصل عددهم إلى 118 ألف طبيب.
معاملة الأطباء الشباب قاسية ومن يعترض يواجه مستقبلاً مظلماً
لماذا نبقى في مصر ونتحمل الإهانات المستمرة وعدم التقدير بينما يمكن أن نعيش ونعمل بشكل أفضل؟! بهذه الكلمات رد الطبيب الشاب محمد. ب على سؤال "عربي بوست" حول أسباب هجرة الأطباء الشباب تحديدا إلى الخارج، وأضاف محمد الذي سافر منذ شهور للعمل في أستراليا أنه لم يتردد لحظة حين علم أن هناك فرصاً لسفر الأطباء إلى أستراليا والإقامة الدائمة هناك والعمل في مستشفيات حكومية، لأنه عانى الأمرين منذ تخرجه في كلية طب قصر العيني أعرق كليات الطب في الشرق الأوسط عام 2017.
ويشرح الطبيب الشاب معاناته فيقول: "في البداية كنت أقضي فترة النيابة وهي تتطلب المبيت في المستشفى 3 أيام أسبوعياً، أعمل منها في مناوبات تستمر لأكثر من 12 ساعة يومياً، وخلالها يعاملني الأطباء الأقدم معاملة أسوأ بكثير مما يعاملون بها عمال النظافة ولا أقول الممرضات أو التمورجية، فكان الطبيب "السنيور" يطلب مني أن أحضر له كوب ماء ثم فنجان قهوة ويصيح فيّ أمام المرضى وطاقم التمريض، وعندما اعترضت كان عقابي حاضراً بمضاعفة مناوباتي في العمل، وعليّ أنا أو أي طبيب نائب القبول بالإذلال، لأن قضاء فترة النيابة أساسية قبل السماح للطبيب باستكمال دراسته للتخصص الذي يريده.
في المقابل -يستكمل- كنت أتقاضى 1800 جنيه شاملة الراتب وكل البدلات الممكنة، وكانوا يصرفون لي مشكورين 45 جنيهاً (أقل من 3 دولارات) على مناوبة السهر في المستشفى، وهي كما يعلم أي مصري لا تكفي لشراء وجبة طعام واحدة فما بالك بثلاث وجبات في اليوم بخلاف المشروبات والمواصلات؟!
أما الآن فأتقاضى حوالي 3000 دولار شهرياً تكفي احتياجاتي وتفيض، وهناك زيادة سنوية ونسبة أتقاضاها عن العمليات الجراحية التي أشارك فيها، والأهم من كل ذلك أنني ألقى معاملة آدمية وأشعر بأن السنوات السبع التي قضيتها في الدراسة لم تذهب هدراً.
يذكر أن معاناة د. محمد تكررت مع العديد من الأطباء الشباب، ومنهم الطبيب المقيم بكلية الطب جامعة عين شمس محمد صلاح الشرقاوي، الذي قدم استقالته من العمل وروى في منشور على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك المعاناة التي كابدها طوال فترة عمله كنائب في مستشفى الدمرداش التابعة لكلية الطب ودفعته للاستقالة، ما أثار ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي، ودفع العديد من الأطباء للتضامن معه ومطالبة الجهات المختصة بفتح تحقيق فيما قاله وإيقاف استقالته ومحاسبة من تسبب له في هذه المعاناة.
طبيبة تنادي في الشوارع على تطعيمات شلل الأطفال مثل البائعين الجائلين!
من جهتها قالت د. سلوى التي عادت إلى مصر مؤخراً مع زوجها الذي يعمل طبيباً أيضاً، بعدما عملوا أكثر من 10 سنوات في المملكة العربية السعودية، إنها وزوجها يسعيان بقوة للعودة إلى السعودية وقد تواصلا مع إدارة المركز الطبي الذي كانا يعملان فيه هناك من أجل العودة، وهما حالياً في انتظار الحصول على الموافقات اللازمة للعودة إلى هناك، التي تتمنى الطبيبة أن تكون دائمة!
وتفسر الطبيبة التي تخرجت في كلية طب قصر العيني عام 2005 أنها عملت 5 سنوات في مصر عقب تخرجها قضت خلالها فترة النيابة واستكملت دراستها حتى تخصصت في طب النساء والتوليد، ثم تزوجت طبيباً زميلاً لها وسافرا معاً إلى السعودية قبل أن يعودا قبل شهور إلى مصر حيث استلما عملهما السابق في مستشفى حكومي تابع لوزارة الصحة.
وتقول إنها تواجه المهانة يومياً في عملها سواء من المرضى الذين يتطاولون عليها وعلى زملائها لفظياً على مرأى رجال الأمن الذين لا يحركون ساكناً، أو من الوزارة نفسها التي يتفنن مسؤولوها في التقليل من شأن الأطباء، وكان آخر المهازل إلزام أطباء المستشفى بالنزول في حملات للتطعيم ضد شلل الأطفال في بعض أحياء محافظة القاهرة، حيث فوجئت بأن عليها الطواف على الشوارع والمنازل وتحمل سخافات البعض وإقناع آخرين بأهمية التطعيم لأن لديها "تارجت" يجب عليها تحقيقه وإلا تتعرض للخصم من حوافزها التي تمثل أكثر من 50% من راتبها الشهري الذي لا يتجاوز 2000 جنيه.
وتضيف بكلمات تبللها دموعها: "شعرت وقتها بأنني مثل الأراجوز الذي يقدم عروضه في شوارع الأحياء الشعبية لتسلية الناس أو البائعين المتجولين، وقررت منذ ذلك اليوم البحث عن فرصة للخروج من مصر بأي طريقة، وراسلت عملي السابق في السعودية للعودة إليه، كما أبحث مع زوجي عن أي فرصة متاحة لسفر الأطباء في أي دولة تتيح لنا أن نعيش حياتنا بشكل آدمي بعيداً عن المهانة التي نعيشها يومياً في مصر.
19 جنيهاً بدل العدوى للأطباء و3 آلاف جنيه للقضاة!
الاعتداء على الأطباء بات مشهداً يومياً مألوفاً في أغلب المستشفيات الحكومية والعامة، كما يقول د. رضا الذي يعمل كطبيب في وحدة العناية المركزة في مستشفى عام لمدة يومين ويعمل يومين آخرين في مستشفى خاص، حيث قال لـ"عربي بوست" إنه شخصياً تعرض لمحاولات اعتداء لفظي وبدني عدة مرات في المستشفى العام، حيث اعتاد الناس إلقاء كل مشاكلهم على الأطباء.
ويتذكر في هذا السياق واقعة قدوم فتاة مع والدها للكشف عليها، وعندما تبين أنها حامل ثار الأب وحاول الاعتداء على الأطباء الذين يفترون على ابنته "الآنسة"، لكن بعد ساعات من المفاوضات وتدخل العشرات من "أولاد الحلال" اعترفت الفتاة بأنها أقامت علاقة مع خطيبها السابق، وهناك واقعة أخرى عندما استقبل المستشفى مريضاً بالقلب، وعندما طلب من مرافقيه انتظار خلو سرير في العناية، فوجئ بهم يشهرون أسلحة نارية وبيضاء عليه وتهديده بأنه إذا لم يتصرف فوراً ستنتهي حياته، وعرف لاحقاً أن المريض مسجل خطر في المنطقة وأن مرافقيه هم مساعدوه في الإجرام.
ويختتم كلامه قائلاً إن كل الاعتداءات على الأطباء تتم أمام أعين الإعلام والمسؤولين، لكن لا أحد يتدخل، لأن الأطباء ليس لديهم "ظهر" في الدولة، وليس بعيداً اعتداء عدد من أمناء الشرطة على أطباء مستشفى المطرية التعليمي قبل سنوات، ويتساءل في حسرة: "بأي ضمير تصرف الدولة 3 آلاف جنيه بدل عدوى للقاضي بينما تعطي الطبيب الذي يواجه العدوى يومياً 19 جنيهاً شهرياً؟!".
شكوك حول مشروع قانون لإنشاء كيان جديد يعتني بالأطباء والعمل الطبي
هذه المخاوف التي لم تعد سراً دفعت الحكومة المصرية للتدخل في محاولة لإيقاف نزيف هجرة الأطباء خارج مصر، فقدمت قبل أيام مشروع قانون لمجلس النواب لإنشاء كيان جديد يعتني بالأطباء والعمل الصحي يطلق عليه "المجلس الصحي المصري"، تكون تبعيته لرئيس الجمهورية، ويهدف إلى تنظيم مجالات الصحة ورفع المستوى العلمي والتطبيقي الأطباء ومساعديهم، ومن المقرر أن يحل الكيان الجديد الذي تمت الموافقة على إنشائه في لجنة الصحة بالبرلمان المصري محل الهيئة المصرية للتدريب الإلزامي للأطباء التي أنشئت سنة 2016 بموجب قرار رئيس الوزراء.
لكن مصدراَ بنقابة الأطباء علق على مشروع القانون والمجلس المزمع إنشاؤه فقال لـ"عربي بوست" إن مشروع القانون غير واضح حتى الآن، خصوصاً في جزئية حقوق الأطباء، فكل ما أعلن عنه من مواد القانون عبارات إنشائية من عينة تنظيم مجالات الصحة في مصر، ورفع المستوى العلمي والتطبيقي للأطباء والعاملين في مختلف التخصصات الصحية، وتطوير التدريب الصحي التخصصي، واعتماد الشهادات المهنية واختبار الأطباء للتحقق من استيفائهم للتأهيل الكافي للممارسة الطبية والصحية التي تحقق أعلى درجة لأمان المرضى وضمان تحسين الخدمات الصحية في مصر، بينما لم يتضمن مشروع القانون كلمة واحدة عن رفع دخول الأطباء أو توفير الأمان لهم خلال ممارسة عملهم.
واضاف المصدر: "كما أن المجلس المزمع إنشاؤه ليس جديداً من حيث الفكرة، حيث إنه يحل محل الهيئة المصرية للتدريب الإلزامي للأطباء التي أنشئت بدورها قبل 6 أعوام فقط، لكن الجديد في مشروع القانون نقل تبعية المجلس إلى رئيس الجمهورية، وكذلك مشاركة إدارة الخدمات الطبية بالقوات المسلحة المصرية فيه باعتبارها فرعاً من فروعه، ولا نعرف هل سيكون هذا لصالح الأطباء والمرضى بحيث توضع الإمكانيات الطبية للقوات المسلحة في خدمة العمل الطبي العام، أم إن إشراك إدارة الخدمات الطبية العسكرية يهدف لإشراف الجيش على العمل الطبي لمحاكاة ما يسود مصر في السنوات الأخيرة وتتمثل في إشراف القوات المسلحة على كافة المجالات المدنية!
القرارات "المعلبة" وعدم إدراك الدولة لدوافع هجرة الأطباء تفاقم المشكلة بدلاً من حلها
مسؤول سابق بنقابة الأطباء توقع أن تتفاقم مشكلة هجرة الأطباء إلى خارج مصر في السنوات المقبلة، بسبب فشل الجهات المعنية في التعامل مع الأمر الذي يبدأ باستيعاب تلك الجهات لأسباب الهجرة ومن ثم العمل على معالجتها، لكن ما يحدث هو مزيد من القرارات "المعلبة" والسلطوية التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من تأجيج الأزمة.
واستشهد المسؤول على كلامه بطريقة تعامل رئيس الوزراء مع مشكلة نقص الأطباء بسبب سفرهم للخارج، حيث أصدر تعليماته بمنع تجديد الإجازات للأطباء في الخارج، لكن ذلك لم يؤد سوى لعودة 15% فقط من حوالي 70 ألف طبيب يعملون في دول الخليج.
مثالان آخران على تقاعس الدولة في التعامل مع الأزمة ساقهما المسؤول، أولهما الاتجاه لتخريج دفعات استثنائية من الأطباء، لأن هذا يمكن تطبيقه مع طلاب الكليات العسكرية بينما يجب أن يبقى طالب الطب في كليته 6 سنوات لأنه في كل عام دراسي يتعلم المزيد ويكتسب معلومات عن المهنة لا يمكنه ممارستها بدون تلك المعلومات، والمثال الثاني إعلان الرئيس المصري دراسة تحويل الصيادلة إلى أطباء وهذا يدل على عدم دراية بالفرق بين الصيادلة والأطباء في طبيعة العمل، ما دفع نقابة الأطباء لإعلان رفضها الفكرة نهائياً.
لكن أسوأ تصرف من الحكومة بحسب المسؤول كان محاولة الضغط على الأطباء الراغبين في الاستقالة عبر تحويلهم للجهات الأمنية، وأصبح الطبيب الراغب في الاستقالة يحول لجهاز الأمن الوطني، لكن هذا الإجراء لم يردع الأطباء عن الاستقالة وإنما على العكس ضاعف أعداد المستقيلين بسبب اتساع دائرة النفور لدى الأطباء من طريقة تعامل الدولة معهم كأنهم مجرمون بينما هم يبحثون عن أبسط حقوقهم المهنية والمعيشية.
يذكر أن الدكتورة ميرفت عبد العظيم النائبة البرلمانية طالبت بإلزام الأطباء الجدد بكتابة إقرار أو تعهد بالعمل فى مصر 5 أو 6 سنوات بعد التخرج، ومن يريد السفر عليه أن يدفع ثمن تعليمه، بدعوى أن من يسافرون إلى أوروبا من الأطباء المنتمين للطبقة العليا في المجتمع، مشيرة إلى أنه من غير المنطقي أن تصرف مصر على دول غنية مثل ألمانيا وإنجلترا، من خلال تقديم أولادنا جاهزين لهم، دون تكلفة عليهم؛ فنحن نعلمهم مجاناً فى أعرق الجامعات، مثل عين شمس وقصر العينى والأزهر والإسكندرية، ونصرف عليهم مئات الآلاف من الجنيهات، ليتركونا بعد الامتياز مباشرة، لتستفيد منهم دول أخرى، خاصة تلك الدول التي تستقطبهم دون شروط.
وأكدت أن علاج مشكلة هجرة الأطباء لا يكون بالتشريعات ولكن بتعديل الرواتب، وتوفير ظروف آدمية للعمل، وزيادة عدد الطلاب المتقدمين لكليات الطب.