أثار قرار وزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية مؤخراً استبدال دمغة الذهب التقليدية بدمغة الليزر حالة من القلق والارتباك امتدت من سوق الذهب إلى مئات الآلاف من المنازل في مجتمع توارث ثقافة تخزين الذهب باعتباره من أكثر وسائل الادخار أماناً.
قرار الوزارة المفاجئ خلق حالة من القلق لدى المصريين نتيجة عدم التمهيد لصدوره، ثم التصريحات المتباينة لتهدئة الناس بعد الإعلان عنه، ما أفسح المجال للتكهنات حول الهدف الحقيقي من القرار، وهل هو وسيلة جديدة من الدولة لرصد ما يملكه المصريون من مقتنيات ذهبية تمهيداً لفرض ضرائب أو رسوم عليها.
مخاوف من انهيار أسعار الذهب في حال اندفاع الآلاف لبيع مقتنياتهم خوفاً من تراجع قيمتها
مصدر بشعبة الذهب في اتحاد الصناعات المصري قال لـ "عربي بوست" إن الصورة حتى الآن غير واضحة بنسبة 100% بالنسبة لهم أو للتجار، خصوصاً أن المسألة كلها ظهرت فجأة قبل أيام من خلال تصريح وزير التموين الذي صدر دون تنسيق مسبق مع الشعبة، حتى يمكن لمسؤوليها طمأنة مخاوف التجار والمستهلكين، موضحاً أن التخوف الأكبر لدى الشعبة في هذه المرحلة هو اندفاع الآلاف لبيع مقتنياتهم من الذهب خشية تأثر أسعاره لاحقاً بسبب موضوع الدمغة الجديدة، لأن هذا التصرف لو حدث سيؤدي إلى انهيار سعر الذهب في مصر الأمر الذي يجلب الخراب على آلاف البيوت والأسر التي توارثت اقتناء الذهب عبر الأجيال باعتباره أكثر وسائل الادخار أماناً، لكنه أردف قائلاً في محاولة لطمانة المستهلكين إنه لا يعتقد أن الدولة سوف تسمح بهذا الانهيار، لأنه سوف يؤثر على الاستثمارات المتزايدة التي تخصصها لهذا المجال سواء الاستكشاف أو التجارة، وهو توجه يعني بالنسبة لنا كتجار أن الدولة تراهن على الذهب، وبالتالي لن يكون منطقياً أن تدفع سوقه إلى الانهيار.
باحثة اقتصادية في مركز حكومي للدراسات السياسية والاقتصادية قالت في اتصال مع "عربي بوست" إن مشكلة القرار الذي أصدرته وزارة التموين في شكل وتوقيت صدوره فقط، حيث صدر دون مقدمات تهيئ الشعب لاستقباله بهدوء، ودون توضيحات تهدئ من يصابون بالقلق والتوتر من تبعاته المزعومة، مضيفة أن القرار لن يمس المستهلكين العاديين (على الأقل حتى الآن) وأي شخص يريد بيع الذهب سواء مشغولات أو جنيهات وسبائك صغيرة يستطيع بيعها بالفاتورة لأي صائغ أو حتى بدون الفاتورة لو كان البائعة أو البائعة من الزبائن المعروفين للصائغ، وبالتالي فإن القرار خاص بالشركات لتقليل السرقة والتلاعب والغش خصوصاً من أصحاب محال المجوهرات، لأنه مع الدمغة الليزر ستكون لكل قطعة ذهبية باركود مدون عليه بيانات المستهلك وتاريخ التصنيع ونوع الجرام والوزن، مما يصعب بيعها في حال سرقتها.
وأضافت قائلة إن هناك العشرات من طرق الغش في مسألة الدمغة التقليدية للذهب، وهناك بعض الورش متخصصة في ذلك ومعروفة للتجار غير الأمناء، الذين لا يعنيهم سوى مضاعفة مكاسبهم دون النظر لمصلحة الزبائن، فهناك مثلاً بيع الذهب المهرب من بلدان أخرى بعد دمغه في تلك الورش، وهناك أيضاً بيع مشغولات ذهبية بعيار غير مضبوط، بحيث يكون عدد أسهم الذهب أقل من عدده الحقيقي كأن يباع ذهب عيار ١٨ وهو في الحقيقة يتضمن ٧٥٠ سهم ذهب فقط، وعيار ٢١ (٨٧٥ سهم ذهب) أي أقل من المعدل الصحيح، وكل طرق الغش هذه سوف يتم ضبطها بدمغة الليزر الجديدة التي تنوي الحكومة تطبيقها، وهي موجودة في دول أخرى بالمناسبة.
هل تهدف الحكومة المصرية من القرار لحصر ممتلكات المصريين !
حول قرار دمغة الليزر يقول البعض إن القرار يهدف لحصر ما يملكه المصريون من ذهب ومن ثم تحديد وسائل التعامل معه بفرض ضرائب مثلاً على مالكي الذهب أو رفع أسعار السلع والخدمات مثلما حدث عقب إقبال المصريين على الاستثمار في بناء قناة السويس الجديدة عام 2015 حين تم الكشف عن أن ما يقرب من 25 مليار جنيه من إجمالي الاستثمارات المدفوعة للقناة (64 ملياراً) لم تخرج من البنوك ما يعني أن الدولة لم تكن تعرف عنها شيئاً.
عن تلك النظرية تقول الباحثة إنه لا يمكن استبعادها من الحسبان خصوصاً أن الدولة أثبتت في عديد من المواقف أن همها الأول جباية المزيد من الضرائب والرسوم من المواطنين دون مراعاة لأي بعد اجتماعي، لكنها شخصياً لا تميل لتأييد تلك النظرية لأكثر من سبب، أهمها أن القرار بحسب تفسيرات الدكتور ناجي فرج مستشار وزير التموين لصناعة الذهب، أنه ليس إجبارياً على المواطن أن يتوجه لدمغ الذهب القديم الذي يمتلكه بالليزر، كما أن الأمر أيضاً ليس إجبارياً على تجار الذهب أو أصحاب الصاغات، ما يعني أن الأفراد لن يكونوا ملزمين بالإفصاح عما يملكونه من ذهب، وهي الفقرة الرئيسية التي بنيت عليها نظرية المؤامرة السابقة.
2.25 قيمة الدمغة الحالية على كل جرام من الذهب.. ودمغة الليزر ستكون أغلى
هل تكفي الفترة الانتقالية التي حددها وزير التموين المصري بعام واحد للانتقال من الدمغة التقليدية إلى دمغة الليزر، وما هي تكلفة الدمغة الحالية وكم ستبلغ تكلفة الدمغة الجديدة؟!
يقول نادي نجيب سكرتير عام شعبة المعادن الثمينة والأحجار الكريمة في تصريحات صحفية، إن استبدال دمغة الذهب الحالية بدمغة الليزر الجديدة سيستغرق ما بين 5 إلى 6 سنوات على أقل تقدير، موضحاً أن استبدال الدمغة القديمة بدمغة الليزر جاء لمنع حالات الغش في الذهب، بجانب عدم تشويه قطع الحلي بتلك القديمة، والتى تتم عن طريق "خبط" القطعة بشكل قوي يؤثر على جمالها ويشوهها، مضيفاً أن مختلف الشعب المعنية بالذهب والمعادن الثمينة تطالب بتطبيق قرار دمغ الذهب بالليزر منذ أكثر من 10 سنوات للحد من وسائل غش تلك المشغولات.
وأضاف أن قيمة الدمغة الحالية تبلغ ألف جنيه على كيلو الذهب، بمعدل 1.25 جنيه عن كل جرام، يضاف إليها ضريبة القيمة المضافة، والتى تحتسب بمعدل جنيه عن كل جرام، متوقعاً أن تكون قيمة دمغة الليزر أغلى بعض الشيء من الدمغة التقليدية القديمة، وذلك بسبب استخدام أجهزة متطورة للغاية، يصبح معها دمغ قطع المشغولات الصغيرة أمراً يحتاج دقة متناهية للغاية.
وحول الارتباك الذي تسبب به القرار في سوق الذهب وخوف مئات الآلاف على مصير مقتنياتهم الذهبية قال سكرتير عام شعبة المعادن الثمينة والأحجار الكريمة، إن جميع المشغولات الذهبية الحالية مدموغة في مصلحة الدمغة والموازين، وعند رغبة أحد المستهلكين ببيع مشغولاته الذهبية، لن يخصم التاجر أو الشاري قيمة إعادة دمغها بختم الليزر الجديد، وهذا بحسب الاتفاق مع وزارة التموين، كما أكد أنه لا صحة بشأن توقف عمليات بيع وشراء المشغولات الذهبية التى تم دمغها بالطرق التقليدية، أو أن يكون للدمغة الجديدة أي تأثير على تعثر بيع المشغولات الذهبية المدموغة بالطرق القديمة، مؤكدة أنه سيستمر تداولها بشكل طبيعي، وأن الدمغة بالليزر ستطبق على المشغولات التي سيتم تصنيعها حديثاً بعد اعتماد العمل بها رسمياً.
قرار "دمغة الليزر" يتزامن مع تركيز الدولة على الاستثمار في الذهب ولا يهدف لفرض ضرائب جديدة
مسؤول بوزارة التموين قال في اتصال هاتفي مع "عربي بوست" أن الجدل حول الأمر زاد عن حده كثيراً ربما بسبب طبيعة المصريين الذين لا يتورع أغلبهم عن الإدلاء بالفتوى في أي موضوع وأغلبهم يفعلون ذلك دون علم، مضيفاً أن الأمر ببساطة محاولة من الدولة لتصحيح أوضاع سوق الذهب بالتزامن مع إنشاء أول مصفاة للذهب معتمدة دولياً بمنطقة مرسى علم بالصحراء الشرقية بتكلفة 100 مليون دولار ويمكنها دمغ الذهب المستخرج من المناجم وختمه بالكود الدولي "9999"، وذلك بعدما كانت مصر تلجأ الى إرسال الذهب المستخرج إلى كندا أو سويسرا من أجل دمغه وختمه قبل تصديره أو عودته إلى مصر مرة أخرى، وهناك أيضاً مدينة الذهب في العاصمة الإدارية الجديدة والتي تعكس تاريخ مصر العريق بتلك الصناعة الحرفية الدقيقة، مع وجود كبرى صالات العرض المجهزة، وأشار إلى أن هناك توجهاَ حكومياً مصرياً في الوقت الحالي للتركيز على تعظيم الاستفادة من استكشاف وتجارة الذهب خصوصاً بعد ارتفاع إنتاج منجم السكري إلى 15 طناً سنوياً، وهو إنتاج تجاري وليس اقتصادياً، وكذلك تم توقيع 25 عقداً مع 11 شركة مصرية وعالمية للبحث عن الذهب في 75 قطاعاً بالصحراء الشرقية، باستثمارات حوالي 57 مليون دولار.
قلق متصاعد
شجار مستمر يتصاعد يومياً في منزل نجلاء، وهي سيدة مصرية تعمل في مجال الإعلام، حيث تندلع المشاجرات مع زوجها الذي يرى ضرورة بيع المشغولات الذهبية التي تمتلكها والتي تمثل حصيلة عملها لمدة أكثر من 20 عاماً، قبل أن ينخفض سعر الذهب غير المدموغ بدمغة الليزر الجديدة التي أعلنت عنها وزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية، أو تبادر الحكومة بفرض رسوم وضرائب على المشغولات الذهبية التي يمتلكها الأفراد.
في المقابل تريد نجلاء التأني في البيع حرصاً منها على مشغولاتها الذهبية التي تمثل كل قطعة منها ذكرى مهمة في حياتها، لكنها في نفس الوقت تقاوم هاجساً ينغص عليها حياتها هذه الأيام بأن قيمة المشغولات الذهبية سوف تنخفض في الأسواق رغم تأكيدات مسؤولي وزارة التموين عدم حدوث ذلك.
وكانت وزارة التموين والتجارة الداخلية في مصر قد فاجأت الشعب بإصدار بيان في الخامس عشر من يناير/كانون الثاني الحالي أكدت فيه صدور قرار بتبديل دمغة الذهب التقليدية المعمول بها منذ عشرات السنوات إلى دمغة الليزر، وأن الأخيرة هي الدمغة التي ستكون معتمدة فقط في الفترات القادمة، مع وجود مرحلة انتقالية لمدة سنة سيظل اعتماد الدمغة التقليدية "القلم" بالتوازي مع دمغة الليزر حتى الانتهاء من المشغولات التي لم يتم دمغها بالليزر"، وحول موقف المواطنين الذين يمتلكون مشغولات غير مدموغة، قال علي مصيلحي، وزير التموين، في تصريحات تليفزيونية: "أعتقد اللي عنده دهب كله مدموغ لسبب إنه بيشتريها من تاجر، أما السبائك فيتوجه أصحابها إلى مصلحة الدمغة والموازين بفرعيها في العبور والجمالية لتقديم طلب دمغها مقابل رسوم بسيطة".
صائغ يتوقع إحجام أصحاب محال المجوهرات عن شراء الذهب من الأفراد خلال الفترة المقبلة
نجلاء قالت لـ"عربي بوست" إن صاحب محل المجوهرات الذي تتعامل معه منذ سنوات طويلة وتثق فيه وفي نزاهته، قال لها إنه لا يضمن عدم انخفاض الأسعار وربما انهيارها أيضاً في الفترة المقبلة رغم التأكيدات الحكومية بعدم إمكانية حدوث هذا الانخفاض، وقالت إن الرجل بنى توقعاته المتشائمة على الارتباك الذي صاحب اتخاذ قرار الدمغة الجديدة، وبناء عليه، فإنه يتوقع أن يحجم أصحاب محال المجوهرات عن شراء الذهب من الأفراد خلال الفترة المقبلة لحين وضوح الصورة، وأنه شخصياً سوف يمتنع عن شراء الذهب إلا من الزبائن المقربين منه جداً والذين "يعز عليه زعلهم"، لكن غير ذلك لن يشتري حتى يعرف رأسه من قدميه، ويعرف رسوم دمغة الليزر، وغيرها.
حال نجلاء وزوجها هو نفسه حال مئات الآلاف من المصريين الذين يستثمرون أغلب أموالهم في شراء الذهب والعقارات، وقد رأى بعضهم بعينيه "خراب البيوت" الذي طال من استثمروا في العقارات، بعد مجموعة القرارات التي اتخذتها الدولة في العامين الماضيين لوقف تراخيص البناء وقوانين التصالح وغيرها من قوانين جعلت امتلاك قطعة أرض من أجل البناء عليها ورطة يصعب الخروج منها، وكذلك جعلت أصحاب الشقق في أزمة، لأن الدولة دخلت كمنافس قوي لبيع الشقق بتسهيلات يصعب على الأفراد تقديمها، وبات السؤال الذي يشغل أذهان مئات الآلاف من المصريين حالياً، هل سيتعرض من يملكون ذهباً سواء مشغولات أو سبائك إلى نفس المصير المظلم الذي واجهه أصحاب الأراضي والعقارات؟!