تعيش دول المشرق العربي منذ أسابيع على إيقاع الاحتفالات في أعياد الميلاد ورأس السنة الميلادية، بالمقابل يبدو الوضع في دول المغرب العربي مختلفاً من حيث البهرجة والزخم والأشكال الاحتفالية.
أما في دول المغرب العربي فيسمونه "الرّيفيّون" (Revellion) ومظاهر الاحتفالات به تتشابه بين تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا وليبيا إلى حد كبير.
فبالرغم من بعض مظاهر الزينة في المحلات التجارية الكبرى والحفلات في الفنادق، فإنها تبقى مظاهر محتشمة ومحدودة بالمقارنة مع ما تشهده دول الشرق العربي والعالم.
المشرق.. مهد المسيح
تشهد دول المشرق العربي مثل مصر، وسوريا، وفلسطين، والأردن، والعراق انتشار مظاهر متنوعة للاحتفال بمناسبة عيد ميلاد المسيح، ورأس السنة الميلادية.
وتمثل المسيحية جزءاً من التنوع الديني والثقافي في هذه الدول، إذ حافظ السكان على وجودهم المسيحي وأعيادهم وطقوسهم الخاصة لقرون ويصرون على الاحتفال بها كل سنة.
ويعيش في المنطقة العربية نحو 18 مليون مسيحي هم أحفاد المسيحيين الأوائل في المشرق العربي مهد المسيحية، وهم الذين يحرصون على إقامة أعياد الميلاد دينياً واحتفالياً.
وتُقام قداسات في الكنائس الشرقية في السادس من دجنبر/كانون الثاني باللغة العربية، وبإحدى اللغات القديمة سواء القبطية، أو الآرامية، أو اليونانية التي كانت سائدة في شرق المتوسط.
وتتجه الأنظار كل سنة إلى كنيسة المهد، مكان ولادة عيسى (عليه السلام) في بيت لحم في فلسطين، وهي الكنيسة التي بُنيت عام 325 ميلادية.
ولم تعد الاحتفالات في السنوات الأخيرة تقتصر على أحياء ومنازل مسيحي المنطقة العربية، بل اتسعت لتشمل المسلمين أيضاً، إذ أصبحت أشجار الميلاد تزين الشوارع والمحلات والفنادق والأحياء ذات الغالبية المسلمة، وتحقق مبيعات شجرة الميلاد والهدايا ومجسمات "بابا نويل" مداخيل "غير مسبوقة".
المغرب العربي.. صورة مختلفة
وتختلف صورة الاحتفالات برأس السنة إلى حد كبير في دول المغرب العربي، إذ تقتصر احتفالات عيد الميلاد على وضع الزينة في المتاجر الكبرى والفنادق.
ويرتبط الاحتفال في دول المغرب العربي ببداية السنة الجديدة، وليس بليلة الميلاد، التي توافق في الغرب ليلة 25 ديسمبر/كانون الأول، وليلة 7 يناير/كانون الثاني في الشرق.
ويمثل المسلمون في هذه الدول 99% من السكان يتبعون المذهب المالكي، بينما تتوزع 1% على اليهود والمسيحيون في كل من المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.
ويرجع الاحتشام الحاصل في احتفالات رأس السنة في دول المغرب العربي إلى اختلاف الثقافات، فهذه المنطقة تحتفل بشكل أكبر برأس السنة الأمازيغية الذي يأتي بين الثاني عشر والثالث عشر من يناير/كانون الثاني من كل سنة.
تونس.. احتفالات محتشمة
في تونس أصبحت رأس السنة الميلادية جزءاً من ثقافة المجتمع التونسي، بعيداً عن خلفيتها الدينية، لذلك قرر علماء جامع الزيتونة تجاهل إصدار أي فتاوى تمنع أو تجيز هذه الاحتفالات رغم امتلاكهم السلطات الأخلاقية التي تمكنهم من ذلك.
ويبلغ عدد المسيحيين حوالي 30000، منهم 25000 من الكاثوليك وهم يمثّلون أقليّة، ولكنّها أقليّة تؤدّي دوراً نشيطاً في قطاعات مختلفة تعليمية واجتماعية واقتصادية وذلك لأسباب تاريخية وثقافية.
ورغم العدد المهم في عدد المسيحيين، فإن تونس مثل باقي دول المغرب العربي وشمال إفريقيا، تبقى الاحتفالات فيها بمناسبة رأس السنة محتشمة مقارنة مع دول المشرق العربي.
تقول الصحفية التونسية حياة بن هلال إن التونسيين يحتفلون بنهاية السنة في إطار محتشم ومحدود، فقبل 10 سنوات لم تكن أي احتفالات بالمطلق بـ"الكريسماس"، ولم تكن هناك أي مظاهر احتفال بين المواطنين التونسيين باستثناء بعض العائلات المسيحية وهي قليلة.
لكنها تشير في حديثها مع "عربي بوست" إلى أنه مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيرها في أسلوب العيش والتفكير، أصبح البعض وفي إطار التقليد والتفاعل ينظمون احتفالات خاصة بين العائلة أو الأصدقاء، فيلتئمون حول وليمة الدجاج والمرطبات، ويلتقطون الصور ويسهرون لاستقبال السنة الجديدة بالفرح والاحتفال.
هذه الاحتفالات المحدودة والمحتشمة كما تقول حياة لا تتم ليلة الميلاد، بل ترتبط بنهاية السنة الإدارية وبداية سنة جديدة.
الجزائر.. العطلة أولاً
نفس الصورة في الجزائر، فالاحتفالات محدودة كما يوضح لـ"عربي بوست" الصحفي فهيم ناتوري، إذ تقتصر الاحتفالات على اقتناء حلويات خاصة وتتم في أجواء عائلية أو مع الأصدقاء ليلة السنة الجديدة.
وفي الجزائر تحرص بعض الأسر فقط على شراء حلوى لابيش (La Bûche) الفرنسية وتحضير طبق دسم، والاحتفال مع الأسرة في البيت فقط، والقلة القليلة هي التي تحتفل خارج البيوت.
ويتكون المجتمع المسيحي في الجزائر من المواطنين الجزائريين ذوي الأصول الأوروبيَّة والمقيمين الأجانب والمهاجرين والطلاب القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء؛ إلى جانب المسلمين الذين تحولوا إلى المسيحيَّة والذين تُقدر أعدادهم بين 50,000 إلى 380,000 شخص.
ويمارس المسيحيون بالجزائر طقوسهم الدينية على أوجه مختلفة، فمنهم من يجهر بمعتقده، ومنهم من يخشى ردة فعل المجتمع الذي يدين أغلبيته بالإسلام، فيمارس شعائره بعيداً عن الأعين.
ويستغل بعض الجزائريين عطلة السنة الجديدة، خاصة وأنها تتزامن مع العطلة المدرسية الشتوية للسفر والاحتفال في الصحراء في أماكن خاصة في الجزائر مثل تاغيت، تامنراست وإيليزي بالدرجة الأولى أو غرداية بالدرجة الثانية.
المغرب.. احتفالات خارج البيوت
وفي المغرب، يحتفل المسيحيون الأجانب فقط بعيد الميلاد في قداسات بالكنائس، غير أنها ممنوعة على المغاربة الذين غيروا دينهم من الإسلام إلى المسيحية، هؤلاء يحتفلون في قداسات جماعية في البيوت بشكل سري ويسمونها "كنائس منزلية".
من الصعب على مسيحي مغربي أن يكشف عن دينه، إذ يعتبر هذا الأخير مرتداً عن الإسلام وكافراً، وهذا غير مسموح بتاتاً ومرفوض من المجتمع والقانون. ورغم أن الدستور ينص على حرية العقيدة والدين، فإن المسيحيين المغاربة قد يواجهون مشاكل مع الأمن تصل إلى الاعتقال.
مقابل ذلك يسمح للمسيحيين غير المغاربة بممارسة شعائرهم في الاحتفال بأعياد ميلاد المسيح في الكنائس المنتشرة في أغلب مدن المملكة، بشكل علني كما أن السلطات الأمنية توفر لهم الحماية اللازمة.
وتنحصر الاحتفالات بعيد الميلاد ورأس السنة في المغرب في بعض المدن الكبرى مثل الرباط والدار البيضاء ومراكش وطنجة، حيث تزين المحلات التجارية بالأشجار المغطاة بالثلوج، وتعرض أسواق الزهور أشجار الميلاد للبيع، وتعرض متاجر الحلويات أشكالاً متنوعة من الحلويات الخاصة بالمناسبة.
احتفال كوني
بحلول شهر ديسمبر/كانون الأول، وبدء الاحتفالات العالمية بعيد الميلاد ونهاية السنة، تظهر الفتاوى الدينية التي تتوجه للمسلمين لمنعهم من الاحتفال كون هذه المناسبة دينية وفي احتفال المسلمين بها وإحيائها تشبه بالنصارى.
غير أن الكاتب المغربي والباحث في الدراسات الإسلامية محمد عبد الوهاب رفيقي له رأي مختلف في هذا الموضوع، ويرى أن الفتاوى الفقهية التي تحذر من الاحتفال بميلاد المسيح ورأس السنة مرتبطة بسياق تاريخي اتسم بالصراع بين الديانات.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أنه "في ذلك الوقت كان من الطبيعي جداً أن تبرز بعض الفتاوى المنتصرة لما هو هوياتي وديني، أما اليوم فنحن نعيش في عصر آخر، واحتفالات رأس السنة ليست مقتصرة على أتباع ديانة معينة، بل أصبحت احتفالاً كونياً تُشارك فيه كل شعوب وأمم العالم".
وبالرغم من تحول هذه المناسبة إلى احتفال كوني وثقافي أكثر منه ديني على غرار احتفالات عالمية أخرى مثل عيد الأم وعيد الحب وغيرهما، فإن رفيقي يلاحظ اختلاف الزخم بين دول المشرق العربي وغربه.
ويرى أن الاحتفالات الكبيرة والمبهرجة التي تشهدها دول المشرق العربي بميلاد المسيح هي احتفالات حديثة، ويعتبرها رد فعل على ما كانت تعرفه المنطقة من "انغلاق حضاري" وفق تعبيره، و"انتقام من الماضي" الذي اتسم بالتضييق على الاحتفالات الدينية للمسيحيين.
أما في دول شمال إفريقيا فيقول إن الاحتفال بهذه المناسبة يتم بنوع من التوازن والاعتدال كونها لم تشكل -تاريخياً- أي حرج، ولم تشهد المنطقة أي حالة من الانغلاق.
وأشار رفيقي إلى أن المغاربة كانوا قبل الإسلام وبعده يحتفلون بذكرى مولد المسيح لأن الإمبراطورية الرومانية وغيرها من الإمبراطوريات المسيحية حكمت المغرب في فترة معينة، فبقي الاحتفال بميلاد المسيح مستمراً وتزامن مع بداية السنة الفلاحية التي توافق الأيام الأولى من يناير/كانون الثاني، فكان يتم الجمع بين الاحتفالين معاً.
ويسجل أن المغرب مثلاً عاش في فترات مهمة من تاريخه حالة من التسامح بين الأديان بحكم طبيعته وثقافته وبيئته المختلفة عن المشرق، وهو ما خلق نوعاً من التعايش في كثير من المدن أدى إلى حصول اشتراك في الاحتفال سواء احتفال المسلمين بالمناسبات المسيحية واليهودية أو احتفال اليهود والمسيحيين بالمناسبات الإسلامية، وهي الحالة التي سمحت بحالة الاعتدال التي يتم النظر بها للاحتفال بعيد ميلاد المسيح.