نبيه بري.. صاحب أطول ولاية برلمانية بالعالم، يتحول للزعيم الشيعي الأبرز في لبنان منذ اغتيال نصر الله

عربي بوست
تم النشر: 2025/07/22 الساعة 23:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/07/23 الساعة 08:55 بتوقيت غرينتش
نبيه بري قائد حركة أمل بات يحظى بزعامة شيعية غير مسبوقة/ رويترز

أحدث غياب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن المشهد السياسي اللبناني بعد اغتياله في 27 سبتمبر/أيلول 2024، تغييراً جذرياً داخل الطائفة الشيعية في لبنان، بعد سنوات من تقاسمه النفوذ الشيعي مع نبيه بري، الذي بات يتصدر المشهد السياسي الشيعي في البلاد منذ اغتيال نصر الله، بوصفه "الأخ الأكبر" الذي يمكن أن يملأ الفراغ.  

كانت الصيغة التكاملية بين نصر الله وبري، الأول قائد المقاومة ومرجعية الجمهور عقائدياً وعسكرياً، والثاني رجل الدولة ومهندس التسويات وحامل مفاتيح المؤسسات، ضمن ما سُمّي الثنائية الشيعية في لبنان

بعد أيام قليلة من الغياب الصادم لقيادة حزب الله، ساد الارتباك صفوف الحزب وبيئته؛ في حين برز نبيه بري كمرجعية وحيدة يمكن للجميع أن ينظر إليها في هذه اللحظة الحرجة، بعد مقتل نصر الله.

حتى نائب الأمين العام الجديد لحزب الله، نعيم قاسم، وصف بري علناً بأنه "الأخ الأكبر"، معلناً تأييد الحزب للتحرك السياسي الذي يقوده بري لوقف إطلاق النار. 

وبدا واضحاً أن قيادة حزب الله الجديدة (برئاسة نعيم قاسم) اختارت أن تفوِّض بري بإدارة دفة الاتصالات السياسية مع الخارج لوقف الحرب. 

وكشف بري في حديث صحفي أن تفويض حزب الله له بالتفاوض السياسي ليس أمراً جديداً، وقد تمّ تأكيده وتجديده في هذه الأزمة. 

هكذا وجد رئيس حركة أمل نفسه في موقع الممثل عن المقاومة في لبنان سياسياً، يلتقي الموفدين الدوليين وينسق مع العواصم المعنية لوقف الحرب مع الاحتلال الإسرائيلي.

نبيه بري (يمين) يعد من أكثر السياسيين اللبنانيين ارتباطاً بعلاقات خارجية مع الأطراف الدولية والإقليمية/ رويترز
نبيه بري (يمين) يعد من أكثر السياسيين اللبنانيين ارتباطاً بعلاقات خارجية مع الأطراف الدولية والإقليمية/ رويترز

الزعامة الشيعية

لم يكن بري يطمح يوماً لوراثة دور حزب الله أو قيادة جناحه العسكري، فهو كما يقدم نفسه، السياسي البرلماني لا الميداني، لكنه وجد نفسه الآن المرجعية الشيعية الأبرز والوحيدة القادرة على مخاطبة واشنطن وطهران معاً.

إذ يمتلك بري شرعية شعبية وانتخابية، وذاكرة سياسية عميقة تمتد لعشرات السنين، وعلاقات مرنة مع مختلف الأطراف، بحسب ما تصفه الصحافة اللبنانية. 

هذه المقومات جعلته محط أنظار الداخل والخارج بعد اغتيال نصر الله، إذ اتصل به وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ليبحث مع الأوضاع، وكذلك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وعدد من القادة العرب كوزير خارجية قطر. وعقد بري اجتماعات بارزة مع وزيري خارجية فرنسا وإيران في بيروت ومع مبعوثين دوليين. 

كذلك، فإنه في هذه الفترة، أعيد تسليط الضوء على زعامة بري التاريخية لحركة أمل، وكيف استطاع الحفاظ على تماسكها واستمرارها حتى الآن. 

وتثار تساؤلات عن خليفة محتمل لبري داخل أمل، خاصة أن الرجل بلغ من العمر 87 عاماً. 

ويُذكر في الكواليس اسما باسل بري (نجله من زواجه الحالي)، الذي بدأ يظهر في نشاطات خلفية للحركة، وعبد الله بري (ابنه من زواج سابق) الذي ينشط أيضاً حزبياً. 

لكن أياً منهما لا يملكان خبرته أو حضوره، أو علاقاته.

كما برزت شخصيات في الحركة مثل المعاون السياسي علي حسن خليل وغيره.

في جلساته الخاصة، حين يُسأل نبيه بري عن نيته ترك المشهد السياسي، يضحك مجيباً بتعليق ساخر: "أنا باقٍ لأنني الوحيد الذي يعرف كيف تسير هذه اللعبة". 

ربما خلف هذه المزحة تكمن حقيقة يدركها معظم السياسيين في لبنان، بأن لا أحد حتى الآن يمتلك خبرة بري وتعقيد علاقاته لفكفكة عقد النظام. 

فالأزمة السياسية التي تلت انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 2022 أظهرت عجز القوى في لبنان على انتخاب رئيس جديد لفترة طويلة، ما أبقى منصب الرئاسة شاغراً وشلّ المؤسسات. 

خلال تلك الفترة، برز بري كصانع الحلول وموزع الأدوار، يدعو إلى جلسات الحوار حيناً، ويعطل جلسات البرلمان حيناً آخر، إلى حين التوافق على اسم مقبول. 

فهو يعرف توقيت الضغط وتوقيت التراجع، ولديه أوراق المواعيد الدستورية والفراغات. 

وكما قال هو نفسه ذات مرة مبرراً لتأجيل جلسات انتخاب الرئيس: "لن أدعو لمسرحية فاشلة. التوافق أولاً، والجلسة اللائقة تالياً".  

نظام المحاصصة الطائفية في لبنان، صب في صالح بقاء نبيه بري حتى اليوم، ليملك مفتاح المجلس النيابي، ومفتاح تسويات الرئاسة، ومفتاح الحضور الإقليمي عبر علاقاته التاريخية. 

وإلى أن يظهر فاعل جديد يمتلك ما يكفي من الحكمة والنفوذ والتفاهمات ليحل مكانه، يبقى نبيه بري حاضراً كعنصر ثابت في معادلة متحركة.

نبيه بري صاحب أكبر ولاية برلمانية في العالم/ رويترز
نبيه بري صاحب أكبر ولاية برلمانية في العالم/ رويترز

أطول ولاية برلمانية في العالم

في بلدٍ تتغير فيه الوجوه السياسية سريعاً، استطاع نبيه بري أن يجعل اسمه مرادفًا للاستمرارية. 

فمنذ عام 1992 يشغل منصب رئيس مجلس النواب اللبناني بلا انقطاع، وأُعيد انتخابه سبع مرات متتالية، ليحقق أطول ولاية برلمانية في العالم. 

كذلك يتزعم بري حركة أمل منذ عام 1980 دون منازع أو انشقاق. 

وتعاقب على لبنان خلال فترة رئاسته للبرلمان أربعة رؤساء جمهورية، وعدة حكومات، لكنه بقي ثابتاً في مكانه.

هذه الاستمرارية غير المسبوقة جعل الكثير من المحللين اللبنانيين يصفونه بأنه أحد الأعمدة الراسخة للنظام السياسي اللبناني، فهو ليس مجرد جزء من المشهد السياسي؛ بل أحد صانعي توازناته. 

نجا بري من كل الكوارث السياسية والأمنية التي عصفت بلبنان خلال نصف القرن الماضي تقريبا. 

إذ شهد الحرب الأهلية (1975-1990) وتداعياتها، ثم الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 واحتلال الجنوب، ومرَّ بسنوات الوصاية السورية، وتقلُّبات مرحلة ما بعد عام 2005، وصولًا إلى انتفاضة 17 تشرين 2019 وانفجار مرفأ بيروت 2020، وحتى الحرب المدمرة التي اندلعت بين إسرائيل و"حزب الله" في 2024.

خلال كل ذلك، بقي بري في موقع السلطة، دون أن تنجح التحولات أو الأزمات في إزاحته. 

من سيراليون إلى معترك النضال 

وُلد نبيه بري في 28 يناير/كانون الثاني 1938 في مدينة فريتاون، عاصمة سيراليون، حيث كان والده المغترب مصطفى بري يعمل في تجارة الماس. 

عاد الطفل نبيه مع عائلته إلى موطنهم في بلدة تبنين الجنوبية بلبنان، ونشأ هناك قبل أن ينتقل في المراهقة إلى بيروت لمتابعة دراسته. 

تلقى علومه في مدارس الجنوب وبيروت، ثم التحق بكلية الحقوق في الجامعة اللبنانية وتخرج منها عام 1963 متفوقًا في دفعته. وأكمل دراساته العليا في جامعة السوربون في باريس، ومارس بعدها مهنة المحاماة في بيروت. 

خلال شبابه الجامعي، انخرط بري في الحركة الطلابية وترأس الاتحاد الوطني لطلبة الجامعات عام 1963. وتزامن نشاطه السياسي المبكر مع صعود الإمام السيد موسى الصدر الذي أطلق حركة "المحرومين" للدفاع عن حقوق الطائفة الشيعية المحرومة في لبنان. 

جذب خطاب الصدر الإصلاحي والمحاجج انتباه المحامي الشاب، فالتحق بري بحركة المحرومين وتولّى فيها مسؤوليات إعلامية وتنسيق سياسي. 

ومع تأسيس موسى الصدر للجناح العسكري تحت اسم حركة أفواج المقاومة اللبنانية (أمل)، أصبح بري من أعضاء قيادة الحركة، ملتزماً بنهج مقاومة إسرائيل في الجنوب. 

بعد اختفاء الإمام موسى الصدر المفاجئ خلال زيارته لليبيا عام 1978، واجهت حركة أمل فراغاً قيادياً، تولّى على إثره حسين الحسيني رئاسة الحركة لفترة قصيرة، لكنه استقال عام 1980 اعتراضاً على انخراط الحركة في الحرب الأهلية. 

في تلك اللحظة الحرجة، برز نبيه بري كمرشح توافقي لقيادة أمل. انتُخب بري رئيساً للحركة في 20 أغسطس/آب 1980، بعد أن حظي بدعم القواعد والكوادر، بفضل أسلوبه اللبق والمرن في التعاطي مع الجميع، وكذلك الحاسم حين يتطلب الأمر. 

منذ ذلك الحين، باتت الحركة مرادفة لشخصه، فلم ينازعه أحد على زعامتها طوال ما يزيد عن أربعة عقود. 

حروب الثمانينيات وترسيم حدود النفوذ 

مع احتدام الحرب الأهلية اللبنانية في الثمانينيات، وجدت حركة أمل نفسها في مواجهة تحديات عسكرية وسياسية متعددة. 

وقاد بري الحركة في ما عُرف بـ"حرب المخيمات" بين عامي 1985 و1988، حيث اصطدمت أمل عسكرياً مع فصائل فلسطينية في بيروت والجنوب، في محاولة من الحركة لضبط الأمن بالمناطق الشيعية ومنع تكرار الصدامات مع تنظيمات مسلحة أخرى. 

كذلك خاضت قوات أمل اشتباكات دامية مع مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي في إقليم التفاح بجنوب لبنان عام 1988، ضمن سياق الصراع على مناطق النفوذ خلال أواخر الحرب الأهلية.  

إلا أن أخطر مواجهات أمل في تلك الحقبة كانت مع القوة الشيعية الصاعدة حديثاً آنذاك، حزب الله. 

في عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي، تشكَّل حزب الله بدعم مباشر من الثورة الإسلامية في إيران، مستقطباً مجموعات من الشباب المؤمن بفكر ولاية الفقيه، ونهج المقاومة المسلحة للاحتلال. 

رأت حركة أمل في الوافد الجديد تحدياً خطيراً، خاصة أن الحزب الناشئ سعى إلى استقطاب قواعد الشيعة، وتقديم نفسه كمقاومة إسلامية جهادية. 

تصاعد التوتر تدريجياً إلى أن اندلع القتال بين مقاتلي أمل وحزب الله، فيما سُمّي "حرب الإخوة" بين عامي 1988 و1990.

سالت دماء كثيرة في تلك الحرب المؤلمة التي دارت رحاها في الضاحية الجنوبية لبيروت وبعض قرى الجنوب والبقاع، ولم تصدر أرقام دقيقة عن الضحايا. 

ورغم أن أمل كانت فصيلاً شيعياً كبيراً ذا قواعد شعبية واسعة، فإن مقاتلي حزب الله أثبتوا بأساً وتصميماً كبيرين، وكادوا ينتزعون السيطرة في بعض المناطق. 

أدركت سوريا وإيران، الراعيتان للطرفين، خطورة استمرار اقتتال الحلفاء الشيعة. وتوسط حافظ الأسد (الرئيس السوري آنذاك) وروح الله الخميني (المرشد الإيراني الأعلى) لرعاية اتفاق مصالحة عام 1989، أنهى نزاع الإخوة بين أمل وحزب الله. 

قضى التفاهم غير المكتوب الذي تلا تلك الحرب، بتقاسم النفوذ داخل الطائفة الشيعية: تتولى حركة أمل بزعامة بري الشق السياسي والتمثيل الرسمي للطائفة في مؤسسات الدولة، فيما يُمنح حزب الله دور المقاومة العسكرية ضد إسرائيل.

هكذا، احتفظ بري بموقعه ممثلاً أساسياً للشيعة في الدولة اللبنانية، بينما انكب حزب الله على قتال الاحتلال في الجنوب مع الاحتفاظ بقدر من التمثيل النيابي أيضاً. 

هذا الترتيب، كرّس ثنائية بين الحزبين ما زالت قائمة إلى اليوم: الثنائي الشيعي الذي يتقاسم الأدوار، ويتعاون في استراتيجياته الكبرى رغم الاختلاف في الأسلوب والأيديولوجيا. 

شكَّلت علاقة بري بـ"حزب الله" نموذجاً لافتاً في إدارة التناقضات. فعلى الرغم من مرارة حرب الثمانينيات، نجح بري وأمين عام حزب الله الراحل حسن نصر الله، في بناء علاقة شخصية وثيقة منذ تولي نصر الله قيادة الحزب عام 1992. 

وُصفت تلك العلاقة بأنها تُدار بـ"ميزان الجوهرجي"، أي بحسابات دقيقة وحذرة جداً وفق المصطلح اللبناني، تضمن عدم تصاعد الخلافات مهما تباينت المواقف. 

في المحطات التي وقع فيها تباين سياسي بين الحركة والحزب، كان بري ونصر الله ينجحان في استيعاب الشارع الشيعي ومنع انقسامه. 

حتى أن نصر الله نفسه أطلق على بري لقب "الدبلوماسي" في أحد خطاباته، تقديراً لقدرته على تدوير الزوايا، وتجنب التفجير الداخلي.  

وتجلّى دور بري المُهدّئ أكثر من مرة، أبرزها خلال حرب يوليو/تموز 2006، حين قام باتصالات مكثفة محلياً ودولياً للمساعدة في وقف إطلاق النار. 

يقول مقربون من الطرفين، إنه كلما أدخل حزب الله البلاد -والجنوب تحديداً- في مغامرة عسكرية محفوفة بالخطر، كان بري يشكّل جسر الخلاص والإنقاذ للطائفة الشيعية، يوظف حنكته السياسية لإخراج المكاسب للطائفة وتعزيز نفوذها السياسي في الدولة، ولو كان ذلك أحياناً على حساب حصة الطوائف الأخرى. 

 بين دمشق وعين التينة: حليف الأسد الأب وخصم الأسد الابن 

أتقن نبيه بري طوال مسيرته فن السير بين حقول الألغام الإقليمية. فبصفته زعيماً شيعياً بارزاً، ارتبط بعلاقة قوية مع النظام السوري منذ بدايات صعوده. 

كان الرئيس السوري حينها حافظ الأسد، يرى في بري الابن السياسي الناضج للجنوب اللبناني، ويعتمد عليه لضبط الأوضاع في البيئة الشيعية، وضمان توازنها مع قوة حزب الله. 

في حقبة الوصاية السورية على لبنان (1990-2005)، تمتع بري بحظوة خاصة لدى دمشق، فلم يعارضها يوماً في القرارات الاستراتيجية الكبرى، وحافظ بالمقابل على "هامش خصوصية لبنانية" في إدارة شؤون الداخل.

هكذا نجح بري في تعزيز نفوذه المحلي مستظلاً بالمظلة السورية الإقليمية، من دون أن يبدو مجرد تابع ينفذ الأوامر. لكن هذا التوازن اختل بعد عام 2000 حين خلف بشار الأسد والده في حكم سوريا.  

اختلف أسلوب بشار عن أبيه؛ فالأخير لم يكن يمتلك صبر القديم وذكائه في التعامل مع الحلفاء اللبنانيين. 

سرعان ما اصطدم بشار الأسد بطموحات بري واستقلاليته النسبية. كان التوتر الأول بينهما حول مسألة التمديد للرئيس إميل لحود عام 2004، إذ تردد أن بري لم يكن متحمساً لفرض التمديد دستورياً لولاية لحود تحت الضغط السوري.

رغم ذلك، اضطر كرئيس للبرلمان أن يؤمّن تمرير التعديل الدستوري لتمديد ولاية لحود ثلاث سنوات إضافية بضغط مباشر من عنجر (المخابرات السورية آنذاك). 

مرَّ التمديد في مجلس النواب بأكثرية 96 نائباً، رغم اعتراض كتلة جنبلاط وبعض المعارضين، لكنه شكّل شرارة أدت لاحقًا إلى صدور القرار الدولي 1559 وانقسام الساحة الداخلية. 

بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، طُلب من بري تقديم دعم عسكري للنظام بإرسال مقاتلين من حركة أمل للقتال إلى جانب الجيش السوري في مواجهة المعارضة. رفض بري هذا الطلب بشكل قاطع، معتبراً أن حركة أمل لم تُنشأ لتقاتل خارج لبنان، وأن زج الشباب الشيعي في الحرب السورية مغامرة خطرة لا تتحملها البيئة الشعبية للحركة. 

شكل هذا الرفض منعطفًا حاداً في علاقة بري بنظام الأسد الابن.

شعر بشار الأسد بأن بري خذله في لحظة مصيرية، فبدأ عبر حلفائه اللبنانيين محاولة تطويق بري سياسياً، وتحجيم نفوذه، بحسب مصادر من الحركة. 

ازدادت الفجوة بين الرجلين، وبدأت دمشق تروّج لوجوه شيعية أخرى كبدائل محتملة لبري، مثل اللواء جميل السيد واللواء عباس إبراهيم.

بيد أن أياً من تلك المحاولات لم يُثمر؛ فقد صمد بري على موقفه من دون صدام مباشر مع النظام السوري، مكتفياً بالصمت، والعمل من خلف الكواليس في عين التينة، مقر إقامته ومكتبه ببيروت.  

يُروى بين المقرّبين من بري، أنه يوم أعلن عن سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، خرج بري عن صمته المعهود، ووزّع الحلوى ابتهاجاً، في صالون منزله. 

ويُنقل عنه أنه علّق ساخراً: "سقط مضيع الفرص"، في تلميح إلى بشار الأسد الذي أضاع فرص التسوية مراراً. بري المعروف بأنه لا ينتقم علناً، لم يُخفِ ارتياحه لانهيار خصمه الإقليمي الذي اعتبر نفسه يوماً خالداً في الحكم. 

بري والحريري: شراكة الضرورة وترويكا الحكم 

مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ودخول اتفاق الطائف حيز التنفيذ مطلع التسعينيات، ظهرت حقيقة أن إعادة إعمار لبنان لا تكفيها النصوص الدستورية وحدها، بل تتطلب تفاهمات ضمنية بين زعماء الطوائف الأقوياء. 

هكذا نشأت صيغة حكم غير مكتوبة عُرفت بـ"الترويكا" في عهد ما بعد الحرب، لتجمع بين ثلاثة أضلاع: نبيه بري (رئيس السلطة التشريعية)، ورفيق الحريري (رئيس السلطة التنفيذية)، وإلياس الهراوي (رئيس الجمهورية). 

ورغم أن الدستور منح رئيس الجمهورية حينها صلاحيات واسعة، إلا أن نفوذ الهراوي تقلص مقابل تنامي دور الحريري وبري، خاصة بدعم وتفويض مباشر من الجانب السوري الراعي للاتفاق. 

سرعان ما انضم وليد جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، كطرف رابع غير رسمي يوفر الغطاء السياسي والأمني للترويكا، بفضل ثقله الدرزي وتحالفه مع سوريا.

تشكلت ترويكا الحكم هذه كمعادلة أمر واقع لإدارة البلاد: بري يُمسك بزمام اللعبة البرلمانية والتشريعية، والحريري يتولى قيادة ورشة الإعمار وضخ الأموال والعلاقات الخارجية، وجنبلاط يضبط مفاصل الإدارة والأجهزة الأمنية.

فكان الأول يحكم تحت قبة البرلمان، والثاني من السراي الحكومي، والثالث من كليمنصو (مقر جنبلاط). 

هكذا أمّن هذا التحالف الضمني استقراراً نسبياً سمح بإطلاق مشاريع إعادة البناء وتثبيت السلم الأهلي، لكنه بالمقابل، عزز نفوذ زعماء الطوائف على حساب منطق المؤسسات والقانون، كما يقول المنتقدون. 

رغم ما يبدو من تباينات شخصية وسياسية بين بري والحريري، جمعتهما شراكة عملية فرضتها ضرورة المرحلة، فرفيق الحريري، رجل الأعمال السني القادم من عالم الإعمار وعلاقات الخليج والغرب، احتاج إلى خبرة بري، ابن الجنوب والمقاومة، في دهاليز السياسة اللبنانية لضمان تمرير المشاريع في مجلس النواب وضبط التوازنات.  

عارض نبيه بري اعتزال الحريري السياسة/ رويترز
عارض نبيه بري اعتزال الحريري السياسة/ رويترز

بري، السياسي المحنك المتوجس من الهيمنة الحريرية الاقتصادية، أدرك أنه لا يمكنه إنجاز ما يريده لطائفته وبيئته الجنوبية دون التعاون مع الحريري الذي يملك مفاتيح المال والدعم الدولي. 

كان بري الأكثر بطئاً وتحفظاً في اتخاذ القرار، لكنه أيضاً الأكثر قدرة على التعطيل متى أراد؛ بينما الحريري الأسرع تنفيذاً وطموحاً، لكنه بحاجة دائماً إلى غطاء سياسي من عين التينة ليمضي قدماً. 

حكمت هذه الترويكا الواقعية لبنان ببراغماتية مفرطة، مع تحالف مصلحة وتوازن. 

لم يكن بري والحريري حليفان بالمعنى التقليدي، لكن كلاً منهما أدرك أن سقوط أحدهما سيؤدي إلى اهتزاز هيكل النظام الذي بُني بعد الحرب. 

لذلك، حافظا على حد أدنى من التنسيق والاحترام غير المُعلن طوال التسعينيات.

وعندما تم اغتيال رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، كان نبيه بري في مقدمة مشيّعيه، لا بصفته الرسمية كرئيس مجلس النواب فحسب، بل كشريك في بناء المرحلة السابقة، وركنٍ من أركان صيغة الحكم التي كان الحريري أحد أسسها. 

بعد اغتيال الحريري الأب، انقسم لبنان سياسياً بين معسكري 8 آذار (الموالي لسوريا وإيران) و14 آذار (المعادي للنفوذ السوري والمدعوم غربياً). 

اصطفّ بري يومها في قيادة معسكر 8 آذار إلى جانب حزب الله والتيار الوطني الحر، فيما تزعم سعد الحريري (نجل رفيق) تيار المستقبل في قيادة معسكر 14 آذار. 

ظاهرياً، كانت العلاقة بين بري وسعد الحريري علاقة خصومة سياسية بل عداوة، إذ مثّل كل منهما قطباً في تحالف مناقض للآخر.  

غير أن المفارقة تجلّت في استمرار خيط رفيع من الود والتعاون خلف الكواليس بين الرجلين، أشبه بإعادة إنتاج للتحالف القديم على قاعدة "سلامة النظام أولاً"، بحسب ما كانت الصحافة اللبنانية حينها تقول. 

سعد الحريري، ورغم خطابه العالي ضد سلاح حزب الله وحلفائه، لم ينظر إلى نبيه بري كخصم شيعي صرف، بل اعتبره شريكاً ضرورياً لحفظ التوازن، وصمام أمان يربط بين "الشرعية الطائفية" و"الشرعية الدستورية" في البلاد. 

أما بري، فرغم تموضعه في الضفة المناهضة لتيار 14 آذار، بقي يردد في العلن وفي المجالس الخاصة مقولته الشهيرة: "مع سعد، ظالماً كان أم مظلوماً". 

هذه العبارة التي أثارت استغراب بعض حلفائه، تعكس قناعة بري بأن خروج سعد الحريري من المعادلة حينها، يضعف ليس فقط التوازن السني-الشيعي، بل يهدد ركائز النظام اللبناني ذاته، ويفتح الساحة أمام قوى سنّية أخرى أكثر تشدداً، أو فراغ قيادي خطير. 

حين قرر سعد الحريري اعتزال العمل السياسي مطلع عام 2022 وعزف عن الترشح للانتخابات، كان بري من أشد الممتعضين، ونُقل عنه قوله بمرارة إن "لبنان خسر عنصراً أساسياً من عناصر الاستقرار" بغياب الحريري الابن، محذرًا من أن البدائل المطروحة على الساحة السنية تفتقر للشرعية الشعبية ولا قدرة لها على ضبط الشارع. 

هكذا، ورغم سنوات الخصومة والتنافس، بقيت علاقة بري بآل الحريري نموذجاً يجمع التباين السياسي بالمودة الشخصية. وربما ساعد هذا الغموض الخلّاق في العلاقة على إبقاء قنوات الحوار مفتوحة دوماً بين المعسكرين حتى في أصعب الظروف. 

ملف ترسيم الحدود البحرية: بري يفاوض والحزب يراقب 

منذ بدء الحديث عن وجود ثروة من الغاز في شرق المتوسط، أواخر العقد الأول من الألفية الجديدة، وضع نبيه بري عينه على ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. 

فقد اعتبر بري ملف الترسيم منذ عام 2010 قضية سيادية للطائفة الشيعية بامتياز، ورأى أنه الأقدر على إدارتها دون تقديم تنازلات تمس الحقوق اللبنانية. 

رفض بري بشكل قاطع تسليم هذا الملف لأي جهة أخرى، سواء رئاسة الجمهورية أو الحكومة، وظل محتفظاً بزمامه عبر لجان التواصل مع الوسطاء الدوليين. 

ويعود ذلك لاعتقاد بري بأن أي تسوية حدودية مع الاحتلال الإسرائيلي ينبغي أن تتم تحت مظلة الثنائي الشيعي وبتوافقه، بحيث يتكامل الدور الميداني لحزب الله مع الدور السياسي لبري. 

فالأول، يلوّح بقوة المقاومة لحماية الحقوق، والثاني يفاوض بمرونة للحفاظ على المكتسبات. 

لم يكن بري يُفاوض إسرائيل مباشرة، بل كان يفاوض الأمريكيين نيابة عن لبنان، وبالتحديد المبعوث الأمريكي الخاص آموس هوكشتاين الذي تولى وساطة غير مباشرة بين بيروت وتل أبيب.

اتسمت جلسات بري مع هوكشتاين بالصراحة والمناورة الذكية في آن، إذ كان بري يُدرك أين يرفع السقف وأين يجب التنازل التكتيكي، ضمن خطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها من الحزب. 

يُنقل أن هوكشتاين مازح بري مرة خلال جولة تفاوض، قائلاً له بالإنجليزية: "You are the boss" كناية عن أنه صاحب القرار في المفاوضات. 

ابتسم بري وأجاب: "ليش نحنا مختلفين؟"، في إشارة مازحة إلى معرفته سلفاً بأنه الممسك بخيوط اللعبة. 

وبعد مفاوضات مكوكية شاقة استمرت لنحو عامين، نجح بري عبر فريقه المفاوض وبغطاء ضمني من حزب الله، في التوصل إلى اتفاق تاريخي لترسيم الحدود البحرية الجنوبية في أكتوبر/تشرين الأول 2022. 

الاتفاق الذي رعته الولايات المتحدة آنذاك لم يوقع رسمياً بين لبنان وإسرائيل (بسبب عدم الاعتراف المتبادل)، إنما جرى عبر تبادل رسائل مع الأمم المتحدة. 

ومنح لبنان كامل حقل قانا الواقع ضمن مياهه الاقتصادية، مقابل حصول إسرائيل على كامل حقل كاريش وضمانات أمنية بعدم التصعيد.

حصل اللبنانيون بذلك على حقهم في التنقيب، بما يسهم في إنقاذ اقتصادهم المنهار، والإسرائيليون ضمنوا استقرار جبهتهم الشمالية لاستثمار الغاز، وسجل الأمريكيون إنجازًا دبلوماسيًا بمنع حرب محتملة. 

أما نبيه بري، فقد خرج في نظر الداخل صانعَ التوازنات والمعجزات، بعدما أنقذ ثروة لبنان البحرية، وثبّت معادلة "الحقوق تحت حماية المقاومة والتفاوض".

ولعل كلمات الرئيس ميشال عون حينها أشارت بوضوح إلى رضا الجميع، إذ أعلن أن الصيغة النهائية تلبي مطالب لبنان، وتحفظ حقوقه بالكامل، فيما أكدت التسريبات أن الرؤساء الثلاثة – عون وميقاتي وبري – راضون عن نتائجها. 

هوكشتاين مجدداً… دور الإطفائي قبل انفجار الحرب

لم تنته فصول علاقة بري مع الموفد الأمريكي آموس هوكشتاين عند اتفاق الترسيم البحري. فمع اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتصاعد التوتر على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، عاد هوكشتاين إلى بيروت في زيارات مكوكية خلال الأشهر اللاحقة، حاملاً هذه المرة قبعة الوسيط لمنع انفجار شامل بين حزب الله وإسرائيل. 

وكما جرت العادة، لم يطرق هوكشتاين باب قيادة حزب الله مباشرة، بل توجه إلى عين التينة للقاء بري، لتبريد الجبهة الجنوبية دون إحراج المقاومة.

خلال لقاءات بري وهوكشتاين في أواخر 2023، طرح رئيس البرلمان أفكاراً لهدنة مرحلية على الحدود، تضمنت وقفاً متزامناً لإطلاق النار على جانبي الحدود، وعودة المدنيين المهجرين إلى قراهم في جنوب لبنان وشمال إسرائيل، مع التزام الطرفين بتجميد أي أنشطة عسكرية جنوب نهر الليطاني (أي ضمن نطاق عمل قوات اليونيفيل). 

 كانت تلك الهدنة غير المكتوبة تهدف لمنع انزلاق لبنان إلى حرب شاملة، على أمل أن تترافق مع هدنة أوسع في غزة. 

وجد هوكشتاين الطرح منطقياً، خصوصًا أن حزب الله –بحسب ما تسرّب– لم يعترض على مبدأ التهدئة المشروطة، طالما أنها تحفظ "حق الردع" ولا تُعتبر تنازلاً.

الجيش اللبناني أيّد ضمناً أي خطوة تمنع تدمير البلاد مجدداً. بدت الأمور وكأنها تتجه إلى تبريد بؤرة الجنوب، ريثما تنجلي معركة غزة. 

لكن، نسفت إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو، كل الأفكار المطروحة للتهدئة المحدودة. واستمرت الاعتداءات وتصاعد القصف المتبادل، وسرعان ما انزلقت الأوضاع نحو مواجهة أوسع في منتصف سبتمبر/أيلول 2024. 

شنّت إسرائيل اجتياحات وضربات جوية غير مسبوقة استهدفت مواقع حزب الله ومنطقة الضاحية الجنوبية لبيروت، ورد الحزب بوابل من الصواريخ على العمق الإسرائيلي. 

مع توسع الحرب، أخذ المدنيون في جنوب لبنان بالنزوح شمالاً بأعداد هائلة، فيما أُعلنت البلدات الحدودية مناطق منكوبة. 

في 27 سبتمبر/أيلول 2024، وقعت الضربة الكبرى باغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في غارة جوية استهدفت اجتماعاً لقادة الحزب. مثّل ذلك زلزالًا سياسيًا داخل الطائفة الشيعية وفي لبنان عموماً. 

فقد الحزب قائداً كاريزمياً شغل موقعاً استثنائياً منذ 1992، وبدا هناك فراغ مكانه بدأ بري في تعبئته.

لكن على مستوى الشارع الشيعي الأوسع، لا بد من الإشارة إلى أن خصوم بري كُثر داخل الطائفة وخارجها. 

فمنذ انتفاضة 17 تشرين 2019، ارتفعت أصوات شعبية غاضبة ضد الطبقة الحاكمة ككل، وكان لبري نصيب وافر من الهتافات الغاضبة والاتهامات بالفساد والاحتكار. 

وتعرضت مكاتب ومقار حركة أمل لهجمات من محتجين في الجنوب وبيروت، ومُزّقت صور بري في بعض الساحات الغاضبة. 

وُجهت له اتهامات بتكديس الثروة واستغلال النفوذ، حتى لُقب في هتافات المحتجين بـ"البلطجي" و"العرّاب" باعتباره أحد أركان نظام المحاصصة الطائفي. 

ومع أن شعبية حركة أمل تراجعت نسبياً أمام تمدد حزب الله منذ التسعينيات، فإن ما تبقى لها من قاعدة كان أيضاً عرضة للاهتزاز تحت وطأة الانهيار الاقتصادي في السنوات الأخيرة.

رغم ذلك، يُلاحظ أن بري لم يتأثر كثيراً بكل هذه العواصف، إذ ما يزال في منصبه حتى الآن، وتتزايد النظرات والتطلعات إليه في الظرف السياسي الحالي منذ اغتيال نصر الله.

تحميل المزيد