من صوت للمهاجرين إلى مطاردِهم.. ماركو روبيو: كيف تحول ابن مهاجر إلى منفذ لأجندات اليمين الأمريكي؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/05/08 الساعة 14:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/05/08 الساعة 17:09 بتوقيت غرينتش
ماركو روبيو وترامب (عربي بوست)

في أواخر سبتمبر/أيلول من عام 2015، جلس السناتور ماركو روبيو في قاعة الكونغرس يستمع بعينين دامعتين إلى خطاب البابا فرنسيس. كان بابا الفاتيكان يتحدث أمام المشرّعين الأميركيين عن المهاجرين، عن أحلامهم، عن أرض الفرص. قال: "جاء ملايين الناس إلى هذه الأرض سعياً وراء حلمهم ببناء مستقبل حر. نحن، شعب هذه القارة، لسنا خائفين من الأجانب لأن معظمنا كان أجنبياً في السابق. أقول لكم هذا بصفتي ابن مهاجرين، مع علمي أن الكثير منكم ينحدرون أيضاً من المهاجرين".

في تلك اللحظة، مسح روبيو دمعةً من عينيه، فهو أيضاً ابن مهاجرين كوبيين، بدا وكأنه وجد صوته السياسي في كلمات البابا. حمل مشاعر الامتنان والفخر، ووجّه نقداً لاذعاً لمنافسه على الرئاسة في ذلك الوقت، دونالد ترامب، الذي كان يشحن حملته بشعارات مناهضة للمهاجرين، ليقول بانفعال وتأثر: "أعتقد أن أمريكا عظيمة. هل تعلم كيف أعرف؟ ليس لدينا لاجئون أمريكيون. لدينا أناسٌ يتمنّون أن يولد أطفالهم هنا!".

لكن تلك اللحظة، بكل ما حملته من عاطفة وتصفيق، بدت وكأنها من زمن بعيد. ففي ربيع عام 2025، عاد روبيو إلى الواجهة، ولكن هذه المرة أمام عدسات الإعلام كوزير خارجية في إدارة ترامب الثانية. لم يكن المشهد عادياً؛ السياسي الذي بدأ مسيرته مبشّراً بـ"حلم المهاجر"، أصبح اليوم يدافع عن قرارات حكومية يمينية تستهدف طلاباً أجانب بسبب دعمهم لقضية فلسطين.

تحت شعار مكافحة معاداة السامية، وجّه روبيو تعليماته للدبلوماسيين الأميركيين بتدقيق حسابات التواصل الاجتماعي للمتقدّمين للحصول على تأشيرات، بهدف منع من يُشتبه بانتقادهم للولايات المتحدة أو إسرائيل من دخول البلاد. ولم يكتفِ بذلك، بل باشر بإلغاء أكثر من 300 تأشيرة بالفعل – كان معظمها لطلاب أجانب شاركوا في احتجاجات داعمة لفلسطين – قائلاً بلهجة حازمة: "نحن نعطيك تأشيرة لتأتي وتدرس وتحصل على شهادة، وليس لتصبح ناشطاً يمزّق جامعاتنا".

هذا التحول الجذري لدى روبيو، من شاب من أبناء المهاجرين دمعت عيناه تأثراً بدعوة البابا فرنسيس للتعاطف مع الأجانب قبل أقل من عقد، إلى رجل دولة يطارد المهاجرين والطلاب الأجانب المناصرين لفلسطين، يلخّص مسيرة سياسية درامية اتسمت بالانتهازية وتقلب الولاءات. إذ شهد ماركو روبيو خلال مسيرته تقلبات حادة في المواقف والتحالفات. فهو ابن لمهاجرين كوبيين، صاغ لنفسه سردية "المنفى الكوبي" التي يدعي انها شكّلت هويته السياسية، واستثمر بذكاء قصته العائلية لكسب التأييد، قبل أن تتكشف لاحقاً كذب روايته.

وهو أيضاً السياسي الطموح الذي صعد نجمه في فلوريدا بفضل دعم ماكينة المنفيين الكوبيين، ثم الواعد الذي حمل راية الإصلاح للمهاجرين من أبناء جلدته قبل أن يتخلىعنها حين اقتضت مصلحته السياسية.

والأهم من ذلك، روبيو هو المنتقد الشرس بالأمس لترامب – الذي نعته يوماً بـ"المخادع" ووصفه بأنه غير صالح للرئاسة – قبل أن يتحوّل إلى أحد أكثر الموالين له، يردد شعاراته ويبرّر سياساته بلا تردد. وفي مفارقة صارخة، صار "ليتل ماركو" الذي سخر منه ترامب علناً مجرد تابع مطيع في بلاط الرئيس السابق، يكافئه سيده بمنحه مناصب رفيعة. فكيف وصل روبيو إلى هنا، وما الثمن الذي دفعه من مواقفه ومبادئه في الطريق نحو القمة؟

ابن المهاجرين الكوبيين وسردية المنفى

وُلد ماركو أنطونيو روبيو عام 1971 في ميامي لأبوين كوبيين مهاجرين. لطالما تغنّى روبيو بقصة كفاح والديه باعتبارها حكاية المنفيين الكوبيين النموذجية: أب عامل بسيط هاجر هرباً من استبداد الشيوعية، وأم كدحت كعاملة تنظيف لتأمين مستقبل أفضل لأبنائها في أرض الحرية. صنع روبيو من هذه الرواية ملحمة شخصية يرددها في كل حملة انتخابية؛ إذ صوّر نفسه ابناً لعائلة فقدت وطنها على يد "طاغية اسمه فيدل كاسترو" واضطرت لبدء حياة جديدة من الصفر في الولايات المتحدة. على المنصات الانتخابية، بدت حكايته مؤثرة تلهم الناخبين، وخصوصاً الكثير من الكوبيين: أبوه عمل نادلاً في نوبات عمل متواصلة، لسنوات طويلة، وأمه عملت كخادمة فندق، وضحّيا معاً براحة حياتهما في كوبا الاستبدادية كي ينعم أطفالهما بحياة كريمة في أمريكا أرض الأحلام والحريات.

من صوت للمهاجرين إلى مطاردِهم.. ماركو روبيو: كيف تحول ابن مهاجر إلى منفذ لأجندات اليمين الأمريكي؟
فيدل كاسترو – shutterstock

غير أن الرواية الذاتية التي رسمها روبيو بعناية تخفي وراءها واقعاً أقل مأساوية مما يدّعي. فقد كشف مانويل رويج-فرانزيا، مراسل صحيفة واشنطن بوست في أكتوبر/تشرين الأول 2011، عن أوراق تجنيس العائلة، مؤكداً حصولهم على الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة قبل عامين ونصف من تولّي كاسترو السلطة، وبحسب تحقيق مجلة بوليتيكو الأمريكية، هاجر والداه من كوبا عام 1956 عبر رحلة تجارية عادية، أي قبل سنوات من وصول كاسترو وصديقه جيفارا إلى الجزيرة للإطاحة بحكم الدكتاتور السابق فولغينسيو باتيستا في 1959. بعبارة أخرى، لم يكونا جزءاً من قصة المنفيين الذين فرّوا من حكم الشيوعيين، بل كانا مثل آلاف المهاجرين الذين جاؤوا طلباً لحياة أفضل في عهد باتيستا. بل إن عائلة روبيو عادت في عام 1960 لزيارة كوبا للنظر في إمكانية الرجوع بعد الثورة، وقامت والدته بعدة رحلات إلى هافانا في حكم كاسترو – وهي تفاصيل تتناقض مع سرديته الملحمية و"المنفى" القسري. لقد بالغ روبيو في تصوير عائلته كمنفيين ضحايا الشيوعية، في حين أن خط الزمن لعائلته أقرب إلى قصة مهاجرين اقتصاديين تقليدية، حلموا كغيرهم بـ"الحلم الأمريكي".

رغم ذلك، أدرك روبيو الشاب قوة حكايات المنفى الكوبي في ميامي واستغلها بمهارة. فالجالية الكوبية في جنوب فلوريدا ليست مجرد مجموعة مهاجرين؛ إنها قوة سياسية ضاربة اعتادت أن تصف نفسها بـ"المنفيين" لا "المهاجرين"، معتبرة أنها طُردت قسراً من الوطن الأم. منذ ستينات القرن الماضي، تحولت هذه الجالية إلى صانعة ملوك في ميامي وفلوريدا، تلعب دوراً حاسماً في ترجيح كفة المرشحين في انتخابات الولاية والمحليات فيها، بل وتملي على الرؤساء الأمريكيين سياساتهم تجاه هافانا. نشأ ماركو روبيو في كنف هذا المجتمع السياسي الفريد. فقد تتلمذ على يد الحرس القديم من منفيي حقبة الحرب الباردة في ميامي، ونهل من رواياتهم عن الوطن المسلوب والثورة المغدورة. ورغم أنه لم تطأ قدماه أرض كوبا قط، إلا أن الجزيرة وقصصها شكّلت وعيه السياسي منذ الصغر.

ماركو روبيو.. ابن المنفى الذي باع الحنين طلباً للسلطة

ساعدت هذه الخلفية روبيو في صقل هويته كابن بار للجالية الكوبية المحافظة. و في عام 2006، قبيل تولّيه رئاسة مجلس النواب في فلوريدا، صعد روبيو إلى المنصة مرتدياً زهرة حمراء على طية سترته، وقال بصوت عاطفي: "في يناير/كانون الثاني 1959، استولى بلطجي يُدعى فيدل كاسترو على السلطة في كوبا… كثير من الكوبيين هربوا إلى هنا، واستقبلهم أرحم الناس في العالم." ثم توجّه إلى الحاضرين، مطمئناً ومحتفياً بما حققه أبناء المنفى الكوبي في أمريكا، واصفاً إياهم بـ"جيلٍ عظيم"، وقال: "اليوم، أبناؤكم وأحفادكم هم وزراء التجارة في الولايات المتحدة، وأعضاءٌ في الكونغرس، وهم رؤساء تنفيذيون لشركاتٍ من قائمة فورتشن 500، ورواد أعمالٍ ناجحون، وفنانون حائزون على جوائز غرامي، وصحفيون مشهورون، وأعضاءٌ في مجلس الشيوخ الأمريكي، وقريباً، رؤساءٌ لمجلس النواب في فلوريدا"، في إشارة إلى نفسه. حظي حينها الخطاب بتغطية إعلامية واسعة في فلوريدا، إذ كان حدثاً بالغ الأهمية. حيث كان روبيو أول أمريكي من أصل كوبي يتولّى رئاسة مجلس النواب في فلوريدا.

بملامحه الطفولية التي سخر منها ترامب وخطاباته الحنونة، استطاع سلب قلوب الكثيرين، فأكثر من تمجيد إرادة المنفيين وصمودهم، وصوّر نفسه امتداداً لجيل الآباء المناضلين ضد الشيوعية. وأظهر ماركو الشاب، أنه خلف هذا الوجه الطفولي، سياسيٌّ بارع من ميامي، عرف كيف يلاعب مشاعر مجتمع يعيش على ذكريات الوطن الضائع وآمال العودة. وهكذا بنى سمعته كـ ابن المنفى العائد لخدمة قضيته.

بدعم من شبكات النفوذ الكوبي في ميامي، بدأ ماركو روبيو مسيرته السياسية عام 1998 بعضوية مفوضية مدينة ويست ميامي، وبرز سريعاً كنجم صاعد في الحزب الجمهوري بفلوريدا. انتُخب لعضوية مجلس النواب المحلي وهو في الـ28، ثم أصبح رئيساً له بعمر 35، بدعم من جيب بوش الذي اعتبره الخليفة المحافظ المنتظر.

منذ بداياته، قدّم روبيو نفسه كصوت للمنفى الكوبي، واتخذ مواقف متشددة ضد نظام كاسترو، رافضاً أي تقارب مع هافانا، حتى حين تغيّرت آراء الجيل الكوبي الشاب ممن سئموا خطابات الحرب الباردة التي رأوا فيها عائقاً أمام تحسّن أوضاع بلدهم الأم البائسة وشعبها، عارض بشدة روبيو تطبيع العلاقات مع كوبا. وحين اتخذ الرئيس باراك أوباما خطوة تاريخية بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا عام 2015، كان روبيو في طليعة المنتقدين، واعتبر الخطوة "خيانة" لتضحيات المنفيين، ما أكسبه ولاء كبار السن من الكوبيين، لكنه باعد بينه وبين الشباب واللاتينيين الآخرين.

من صوت للمهاجرين إلى مطاردِهم.. ماركو روبيو: كيف تحول ابن مهاجر إلى منفذ لأجندات اليمين الأمريكي؟
ماركو روبيو – shutterstock

في 2010، فاز بمقعد في مجلس الشيوخ، ليصبح أصغر سيناتور جمهوري من أصول لاتينية، وسرعان ما سطع نجمه كواجهة لجيل جديد من المحافظين ذوي الجذور اللاتينية. واصل الدفع بأجندة متشددة تجاه كوبا والأنظمة اليسارية في أمريكا اللاتينية (مثل فنزويلا ونيكاراغوا)، مما رسّخ صورته كصقر كوبي في الحزب الجمهوري، عقائدي لا يساوم على المبادئ، لكنه أدرك لاحقاً أن طموحاته الوطنية تتطلب خطاباً أوسع من مجرد تمثيل الجالية الكوبية.

الهجرة والسياسات الداخلية.. بين مبادئ روبيو ومصلحته

برغم أن روبيو صعد إلى السياسة برواية "ابن مهاجرين"، بل وقد بكى تأثراً حين ذكّره البابا فرنسيس بأن أمريكا أمة بُنيت بأيدي الغرباء واستقبلت الحالمين بالحرية، إلا أن تلك العواطف لم تمنعه من اتخاذ مواقف صارمة تجاه المهاجرين غير النظاميين عندما اقتضت مصلحته ذلك، فاتسمت مواقفه إزاء المهاجرين بالتقلّب وفقاً لحسابات المكسب والخسارة السياسية له.

في بداياته السياسية، مال روبيو إلى الاعتدال نسبياً في قضية الهجرة. أثناء عمله في مجلس نواب فلوريدا، دعم مشروع قانون يتضمن بعض عناصر قانون DREAM الذي يمنح وضعاً قانونياً لأبناء المهاجرين غير الشرعيين. بل إنه، بصفته رئيساً لمجلس الولاية، حال دون تمرير مشروعات قوانين شديدة الصرامة ضد المهاجرين. هذه الخطوات بدت منطقية لمساره كابن مهاجرين، يتعاطف مع مجتمعه، وكانت أيضاً مؤشراً على واقعية روبيو السياسية في ولاية متنوعة الأعراق مثل فلوريدا.

لكن يبدو أن انتفاضة حزب الشاي اليمينية داخل الحزب الجمهوري عام 2010 وضعت روبيو أمام اختبار صعب لولائه الأيديولوجي. خلال حملته لانتخابات مجلس الشيوخ تلك السنة – والتي تزامنت مع صعود خطاب شعبوي معادٍ للمهاجرين داخل الحزب الجمهوري – غيّر روبيو لهجته كلياً. فبعد أن كان متعاطفاً مع حلم المهاجرين الشباب، أعلن معارضته الصريحة لقانون الـDREAM أثناء ترشحه لمجلس الشيوخ إرضاءً للجناح اليميني في حزبه.

نجحت هذه المناورة في درء تهمة "اللين" عنه مؤقتاً، ومهّدت له طريق الفوز بالمقعد. لكن سرعان ما ظهر تردّد روبيو وازدواجية مواقفه في السنوات التالية بشأن ذات القضية.

ففي أعقاب الهزيمة القاسية التي مُني بها الجمهوريون في الانتخابات الرئاسية عام 2012 – ويرجع بعضها إلى فقدان ثقة الناخبين اللاتينيين – عاد التيار المعتدل في الحزب لينادي بضرورة إصلاح سياسات الهجرة لجذب الناخبين من أصول لاتينية. وجد روبيو نفسه مجدداً أمام فرصة لاعتلاء المسرح الوطني كـصوت عقلاني من أصول لاتينية داخل الحزب الجمهوري. وبالفعل، انضم في 2013 إلى مجموعة "عصابة الثماني" في مجلس الشيوخ، وهي تحالف بين الحزب الجمهوري والديمقراطي قدّم مشروعاً شاملاً لإصلاح نظام الهجرة، يتضمن مساراً إلى الإقامة الدائمة ثم الجنسية للمهاجرين غير النظاميين. روّج روبيو بقوة لهذا المشروع، معتبراً إياه حلاً متوازناً يحمي الحدود لكنه يراعي الواقع الإنساني لملايين العائلات المهاجرة. وللحظة، بدا وكأن السيناتور الشاب يعود كابن مهاجرين بار لإحداث اختراق تاريخي في أحد أكثر الملفات تعقيداً في واشنطن.

لكن الآمال سرعان ما تبخّرت أمام ثورة غضب قاعدته المحافظة. فالجناح اليميني في الحزب سارع إلى وصم خطة روبيو، وأصبح منبوذاً، إذ هاجمت مؤسسة هيريتيج، وهي مركز أبحاث محافظ، مقترح روبيو ووصفته بأنه "عفو" سيكلّف الشعب تريليونات الدولارات. واصطف أعضاء مجلس النواب الجمهوريون العاديون ضد مشروع القانون، رافضين دعم مسار منح الجنسية للمهاجرين غير الشرعيين، واتهموه بخيانة القيم الجمهورية الأساسية إرضاءً للديمقراطيين. وبحلول عام 2014، أصبح اسم روبيو مقروناً بكلمة "خائن" أو "جمهوري بالاسم فقط (RINO)" في أعين الكثيرين من أنصاره السابقين.

إزاء هذا الضغط الهائل، وخوفاً على مستقبله السياسي، تراجع روبيو بسرعة مذهلة. وانسحب من التحالف الداعم لإصلاح الهجرة، ولتدارك الضرر الذي لحق بصورته لدى القاعدة اليمينية، اندفع لتبني مواقف محافظة متشددة في ملفات أخرى، فألقى بنفسه في أتون الحملة للمطالبة بإلغاء قانون الرعاية الصحية (أوباما كير) عام 2013، مؤيداً إغلاق الحكومة كورقة ضغط.

هذا التحول من مُصلح للهجرة إلى مُحارب شرس ضد برامج الديمقراطيين الاجتماعية، أظهر باكراً أن روبيو مستعد لتبديل أولوياته سريعاً وفق ما تتطلبه موجات المد والجزر داخل حزبه. وقد لخّصت مجلة بوليتيكو حالته بالقول إن علاقة روبيو بإصلاح الهجرة ظلّت "علاقة مترددة وملتبسة" تعكس التوازن الصعب بين استقبال عائلته بالترحاب كلاجئين من جهة، وبين "نزعات القومية لدى يمين حزبه" من جهة أخرى.

يُذكر أن روبيو لم يعترض يوماً على الامتيازات الاستثنائية التي يتمتع بها الكوبيون في نظام الهجرة الأميركي، رغم موقفه المتشدد من تسوية أوضاع مهاجرين من دول أخرى. فقد استفاد أبناء جلدته من قانون التكيف الكوبي لعام 1966، الذي يمنحهم معونات اجتماعية فورية، وإمكانية الحصول على الإقامة ثم الجنسية خلال عام، إلى جانب سياسة "القدم المبللة/القدم الجافة" التي تضمن لهم اللجوء بمجرد الوصول إلى اليابسة الأميركية. ورغم أن هذه السياسات تشكل "عفواً عاماً" حصرياً لفئة واحدة، لم يطالب روبيو بمراجعتها، بينما تجنّب دعم أي إجراءات مماثلة للمكسيكيين أو أبناء أمريكا الوسطى.

"ليتل ماركو" يتعلم الطاعة

مع اقتراب الانتخابات الرئاسية لعام 2016، قرر ماركو روبيو رفع سقف طموحه بخوض سباق الترشيح الجمهوري للرئاسة. قدّم نفسه آنذاك كوجه شاب واعد، وبديلاً عصرياً للقيادات التقليدية ممثلةً في حاكم فلوريدا السابق جيب بوش، الشقيق الأصغر للرئيس جورج دبليو بوش، من جهة، ولنجم تلفزيون الواقع دونالد ترامب من جهة أخرى. خلال مناظرات الحزب الحامية، اشتبك روبيو وترامب مراراً بعبارات لاذعة كشفت عن هوة واسعة بين الرجلين. سخر ترامب من قصر قامة روبيو ولقّبه ساخراً بـ"ليتل ماركو" (ماركو الصغير)، متهماً إياه بالضعف وقلة الحيلة. أما روبيو فرد الضربة ونعته علناً بـ"المحتال"، محذراً من مغبة اختيار شخص "عديم الخبرة والاتزان" لقيادة البلاد.

وللمفارقة، استخدم روبيو حينها "الهجرة" كسلاح، وأظهر نفسه أشد تطرفاً ضدها، وقال: "أمي وأبي – كانت أمي خادمة في فندق، وبدلاً من توظيف أمريكية مثلها، قمتم بإحضار أكثر من ألف شخص من جميع أنحاء العالم لشغل تلك الوظائف بدلاً من ذلك."

بل وأضاف: "أجدُ من المدهش حقاً أن يعتقد دونالد أنه هو من اكتشف مشكلة الهجرة غير الشرعية. أستطيع أن أقول لكم، عندما ترشحتُ لمجلس الشيوخ هنا في ولاية تكساس، ترشحتُ متعهداً بقيادة النضال ضد العفو، والنضال من أجل بناء جدار."

احتدمت المعركة الشخصية بينهما، ما حجب أي احتمال للتقارب السياسي. فبينما اتهم روبيو ترامب بالشعبوية الفارغة وانعدام المبادئ، صوّر ترامب روبيو كشاب طموح يفتقر إلى إنجازات حقيقية. وفي خضم تلك المواجهة، لم يتورّع روبيو عن السخرية من ترامب في تجمعاته الانتخابية، متهكّماً على حجم يديه وتعثره في المناظرات.

لكن أداء روبيو الانتخابي لم يواكب حماسه الخطابي. فبعد سلسلة من النتائج المخيبة في الانتخابات التمهيدية، بلغت ذروتها بهزيمته الساحقة في ولايته الأم فلوريدا على يد ترامب نفسه، أعلن انسحابه من السباق في مارس/آذار 2016. يومها، بدا وكأن جسوراً قد قُطعت بينه وبين ترامب، إذ قال إن الأخير "قسّم الحزب والمجتمع"، وأكد اختلافه معه في معظم القضايا الجوهرية.

لكن السياسة، كما يُقال، لا تعرف العداوات الدائمة. فمع فوز ترامب بترشيح الحزب ثم بالرئاسة، وجد روبيو نفسه أمام واقع جديد: إما الالتفاف حول الرئيس المنتخب شأنه شأن بقية الجمهوريين، أو البقاء في موقع المعارض مخاطراً بتهميش نفسه. فاختار روبيو براغماتية البقاء.

روبيو، الذي كان ناقداً صريحاً، غيّر موقفه لاحقاً، وأعلن تأييده لترامب علناً، وشارك في مآدب عشاء رفيعة المستوى إلى جانبه، وقدّم له نصائح سياسية حول قضايا محورية. تجاوزت هذه العلاقة الجديدة حدود البراغماتية، إذ وصف المطلعون تفاعلاتهما بأنها اتسمت باحترام متبادل وتعاون متزايد. هذا التطور في العلاقة دفع كثيرين للاعتقاد بأن روبيو سيكون المرشح الأوفر حظاً لمنصب نائب الرئيس في انتخابات 2024. لكن القيود الدستورية – وتحديداً القاعدة التي تمنع الناخبين من التصويت لرئيس ونائب رئيس من نفس الولاية – حالت دون ترشيحه، بما أنه وترامب ينحدران من فلوريدا.

ترامب يكافئ روبيو على انصياعه

عندما فاز ترامب مجدداً بالبيت الأبيض في انتخابات 2024، جاء دور روبيو لينال حصته من عطايا ترامب، فأعلن الأخير ترشيح ماركو روبيو لتولي منصب وزير الخارجية في إدارته الجديدة.

في بداية الأمر، شكّك الجميع في قدرة روبيو على البقاء في كنف ترامب، فقد تذكّر البعض خلافاته مع الأخير واختلافاته في بعض السياسات، وتوقّعوا ألا يصمد طويلاً في دائرة ترامب الضيقة، ورأى بعض المراقبين أنه قد يكون "أضعف لاعب" في فريق ترامب، وأن أيامه في المنصب ستكون معدودة أمام منافسيه الأقوى نفوذاً، مثل ستيف ويتكوف، صديق ترامب ومبعوثه الخاص إلى الشرق الأوسط، والذي أعطاه ترامب صلاحيات وملفات الخارجية الأهم، كملف حرب الإبادة في غزة والحرب الروسية الأوكرانية.

لكن روبيو فاجأ الجميع بقدرته على التكيّف وكسب ثقة ترامب تدريجياً. وخلال الشهور الأولى من عام 2025، حرص روبيو على إظهار انضباطٍ تام ضمن فريق ترامب، مبتعداً عن أي جدل أو تمايز شخصي. بل إن تقاريره وتصريحاته أصبحت مجرد صدى لمواقف الرئيس، حتى ولو خالفت مواقفه الشخصية السابقة في مجلس الشيوخ.

وعلّق السيناتور الجمهوري جيمس ريش، رئيس لجنة العلاقات الخارجية، على براعة روبيو تلك، قائلاً: "لقد قبل هذه الوظيفة وهو يعلم تماماً ما ينتظره". وأضاف: "عندما تتولى وظيفة كهذه، لا تعود حراً كما كنتَ عندما كنتَ عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي… عندما تتولى الوظيفة، فإنك تلتزم بتحقيق ما يريده رئيسك، وهو يتمتع بقدرة حقيقية على تحقيق ذلك".

هذا السلوك أثمر سريعاً: فعندما اندلعت فضيحة "سيغنال غيت" – بعد أن أدرج مستشار الأمن القومي مايكل والتز صحفياً بالخطأ في دردشة خاصة عبر تطبيق "سيغنال" – ومع تزايد غضب ترامب من والتز، خصوصاً بعد لقائه المثير للجدل مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير/شباط 2025، أقال ترامب مستشاره للأمن القومي، وسارع إلى تكليف ماركو روبيو بتولي المنصب بالإنابة إلى جانب مهامه كوزير للخارجية، ليصبح أول وزير خارجية منذ هنري كيسنجر يتولى منصبي مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية في الوقت نفسه.

من صوت للمهاجرين إلى مطاردِهم.. ماركو روبيو: كيف تحول ابن مهاجر إلى منفذ لأجندات اليمين الأمريكي؟
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبة جي دي فانس، ويظهر في صورة وزير خارجيته ماركو روبيو – shutterstock

ولم يكن ذلك المنصب الإضافي الوحيد؛ إذ أسند ترامب إلى روبيو أدواراً أخرى مؤقتة، مما جعل الأخير يحمل أربعة ألقاب رسمية في وقت واحد (وزير الخارجية، مستشار الأمن القومي بالوكالة، المدير بالوكالة لوكالة التنمية الدولية USAID، والقائم بأعمال مسؤول المحفوظات الوطنية). فبات روبيو أشبه بـ"الوزير الشامل" في إدارة ترامب، يتحرك في كل ملف يريده الرئيس، من الدبلوماسية إلى الأمن وصولاً لشؤون التنمية.

مجلة بوليتيكو الأميركية وصفت روبيو بأنه يعطي درساً لمن أراد البقاء في دائرة نفوذ الرئيس متقلب المزاج: "أخضع غرورك وآراءك لآراء الرئيس؛ التزم الصمت عند الحاجة، ولكن كن صريحاً في الدفاع عن وجهة نظر ترامب؛ وتفوّق على منافسيك من خلال بذل ما يكفي لجعل ترامب غير راغب في الوقوف ضدك."

ويبدو أن هذا ما نجح روبيو في فعله بعناية؛ فقد روّض غروره وطوّع طموحاته الشخصية، واضعاً نفسه في خدمة رجل آخر. هذا الانضباط أكسبه موقعاً متقدماً في إدارة ترامب، لكنه أثار أيضاً موجة انتقادات حادة. فخصومه يرون أن صعود روبيو جاء بثمن باهظ: التخلّي عن مبادئ وسياسات طالما دافع عنها. بالنسبة لكثيرين، لم يعد روبيو أكثر من تابع لترامب، بصلاحيات محدودة ونفوذ مرهون برغبات الرئيس.

السفير الأميركي السابق في البحرين، آدم إيريلي، عبّر عن هذا الرأي بحدّة حين قال: "بمجرد أن تسمح لنفسك بأن تُداس، فإنك تفقد احترامك، وتفقد مكانتك، وتفقد مستقبلك في واشنطن… وروبيو اليوم مجرد ممسحة أقدام."

روبيو في خدمة الاحتلال

على رأس أولويات السياسات التي تبنّاها روبيو في حقبته الجديدة جاءت علاقته بإسرائيل وحرصه على كسب رضا جماعات الضغط المؤيدة لها في واشنطن. فرغم أن روبيو كان دائماً من الصقور الجمهوريين المؤيدين لإسرائيل خلال عمله في الكونغرس، إلا أن ولاءه بلغ مستوى غير مسبوق مع دخوله وزارة الخارجية. تجلّى ذلك في حملته العدائية ضد الناشطين المؤيدين لفلسطين، وخاصة الطلاب الأجانب في الجامعات الأمريكية.

وبتوجيه مباشر منه، تبنّت الخارجية الأمريكية سياسة تدقيق صارمة في خلفيات المتقدّمين للتأشيرات من الطلاب والزوار، ترتكز على تمحيص نشاطهم على الإنترنت ومواقفهم السياسية. والهدف المعلن: منع دخول أو ترحيل كل من يبدي "مواقف معادية" للولايات المتحدة أو لحليفتها إسرائيل. وبتفويض من أوامر تنفيذية وقّعها الرئيس ترامب في أيامه الأولى بعد العودة إلى البيت الأبيض، أُطلقت حملة لترحيل الأجانب، بحجة محاربة معاداة السامية وحماية الحرم الجامعي من التطرّف.

انبرى روبيو بحماسة لتنفيذ هذه التوجيهات مستفيداً من صلاحياته الواسعة. وبحلول ربيع 2025، كانت وزارته قد ألغت مئات التأشيرات لطلاب شاركوا في تظاهرات سلمية داعمة للفلسطينيين أو انتقدوا علناً الغارات الإسرائيلية على غزة. ولم يتردّد روبيو في تبرير هذه الإجراءات القمعية بلهجة تتطابق مع خطاب أقصى اليمين الموالي لإسرائيل. ففي مؤتمر صحفي، ألقى باللائمة على الطلاب الأجانب "الناكرين للجميل" الذين يأتون للدراسة في أمريكا ثم ينخرطون في أنشطة سياسية معادية، قائلاً: "إذا جئت إلى بلدنا بتأشيرة طالب ثم شاركت في نشاطات من هذا النوع، فسنلغي تأشيرتك". وأضاف متهكّماً أن الجامعات مكان للدراسة وليس "لتمزيقها" بالاحتجاجات. وكأن روبيو بذلك يعلن أن حرية التعبير تقف عند حدود انتقاد إسرائيل بالنسبة للأجانب المقيمين في الولايات المتحدة.

مظاهرات في نيويورك احتجاجًا على اعتقال محمود خليل – رويترز

واعتبرها كثيرون استهدافاً سياسياً غير مسبوق يُذكّر بعصور المكارثية. وبالفعل، نُشرت قصص مؤلمة عن طلاب تم اعتقالهم وترحيلهم فجأة دون محاكمة عادلة. من ذلك مثلاً ما حدث مع طالبة دكتوراه تركية، "روميسا أوزتورك"، تبلغ 30 عاماً، تدرس في جامعة تفتس بمنحة فولبرايت، ألقت قوات الأمن الأمريكية القبض عليها بالقرب من منزلها في سومرفيل بولاية ماساتشوستس أثناء توجهها إلى حفل إفطار خلال شهر رمضان المبارك، فقط لأنها ترفض إبادة الأبرياء في غزة! وانتشر مقطع فيديو يوثّق لحظة اعتقالها، ويظهر فيه أفراد ملثمون وهم يقيّدونها بالأصفاد ويأخذون هاتفها بالقوة في وضح النهار.

لا يمكن فصل اندفاع روبيو في هذا المضمار عن سعيه الحثيث لإرضاء اللوبي الإسرائيلي النافذ في واشنطن. فمنذ كان في مجلس الشيوخ، عُرف عنه التقارب الشديد مع مواقف لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) وغيرها من جماعات الضغط الموالية لإسرائيل. ففي مطلع عام 2019، كان روبيو هو من قدّم أول مشروع قانون في مجلس الشيوخ لذلك العام، ولم يكن يتعلق بميزانية الحكومة أو إنهاء الإغلاق الحكومي آنذاك، بل بحزمة تشريعات لحماية إسرائيل ودعمها. تضمّن المشروع "قانون مكافحة حركة المقاطعة (BDS)" الذي يمنح الولايات الأمريكية ضوءاً أخضر لمعاقبة الشركات التي تقاطع إسرائيل. ورغم الجدل حوله حينها، أصرّ روبيو على المضي قُدُماً به، معتبراً أن الوقوف ضد حملة المقاطعة جزء من حماية حليف أساسي. وحين عارض الديمقراطيون المشروع وعرقلوه آنذاك، شنّ روبيو هجوماً عليهم بزعم أنهم يهادنون معاداة السامية.

مثل هذه المواقف وغيرها كرّست صورة روبيو كواحد من أقوى المناصرين لإسرائيل في المؤسسة الجمهورية. ولا شك أن ذلك جلب له دعماً سياسياً ومالياً وافراً من جهات مؤيدة لإسرائيل، سواء داخل حزبه أو من المانحين. و بوصوله إلى وزارة الخارجية، بات في موقع يسمح له بترجمة ولائه إلى أفعال ملموسة تؤدي فعلياً أجندة اليمين الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة. فهو لم يكتفِ بالدفاع الثابت عن سياسات الاحتلال الإسرائيلي، بل تجاوز ذلك إلى استهداف خصوم إسرائيل داخل أمريكا، حتى لو كانوا طلاباً عزل، جريمتهم الوحيدة رفع العلم الفلسطيني أو رفض الإبادة في غزة.

ترتسم صورة ماركو روبيو كرجل سياسي صعد بخطى ثابتة على سلّم النفوذ، ويبدو أنه وعى مبكراً أن الطريق إلى النفوذ في السياسة الأمريكية يمر عبر كسب ود جماعات ضغط قوية كهذه. فكما استفاد من نفوذ لوبي المنفيين الكوبيين محلياً، ربما يسعى اليوم للاستفادة من اللوبيات الصهيونية لطموحه القادم.

فهكذا رأيناه ينتقل بسلاسة من مركز قوى إلى آخر: من كاسترو، العدو المشترك الذي وحّد قاعدته في ميامي، إلى ترامب، الزعيم الشعبوي الذي سيطر على حزبه، وصولاً إلى التحالف مع دعاة الدعم المطلق لإسرائيل في الداخل الأمريكي. وفي كل محطة، يبدي روبيو ولاءً منقطع النظير لمن يوفر له رصيد القوة والنفوذ.

تحميل المزيد