الوريث الأخطر.. هل يكون جي دي فانس مشروع اليمين الأميركي لما بعد ترامب؟

عربي بوست
تم النشر: 2025/03/30 الساعة 06:06 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/03/30 الساعة 06:06 بتوقيت غرينتش
نائب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، جي دي فانس - عربي بوست

في عالم مأزوم سياسياً تتصاعد فيه المواقف المتطرفة، وتتآكل فيه الحدود بين الدين والسياسة، وبين الشعبوية والنخبة، يبرز اسم جي دي فانس حالياً كواحد من أكثر الشخصيات الأميركية إثارةً للجدل والتحول. شاب خرج من عتمة الفقر في بلدات مناطق جبال الأبالاش المنسية إلى أضواء السياسة القومية، ليصبح — خلال أقل من عقد — رمزاً لصعود يمين أميركي جديد: أكثر تنظيماً من ترامب، وأكثر تسويقاً للمظلومية البيضاء، وأكثر قدرة على لبس عباءة الفكر وهو يخوض معاركه الإيديولوجية.

رحلة فانس لم تكن صعوداً صاخباً من لا شيء، بل قصة متشابكة، خيطها الألم، والتناقض، والانتهازية، والإيمان، والمراجعة الذاتية. كتب عن ماضيه كتاباً صار من أكثر الكتب مبيعاً، فأصبح فجأة الصوت "الأصيل" للطبقة العاملة البيضاء، ثم وظف هذا الصوت كمنصة لبناء مشروع سياسي تقاطع فيه الدين بالكراهية، والنخبوية بالتمرد، والماضي الشخصي بخرائط تحالفات دولية تتجاوز الحدود الأميركية.

هذا التقرير لا يسرد فقط قصة رجل يصعد، بل يشرح كيف يمكن أن يُعاد تشكيل اليمين الأميركي المعاصر على يد رجل حادّ الكلمة والرؤية، لا يتردد في شيطنة خصومه، ولا يخفي إعجابه بأنظمة سلطوية، ويرى أن "استعادة أميركا" تمر عبر القيم المسيحية المتشددة، وسياسات قمعية، وتحالفات عابرة للأطلسي مع أقصى اليمين الأوروبي.

فانس ليس مجرد تابع لترامب، بل ربما النسخة المكرسة منه، مصقولة فكرياً، ومستعدة لتحويل الصرخة الشعبوية إلى مشروع دولة. في هذا البروفايل سنحاول فهم كيف تحوّل المثقف الريفي الغاضب إلى منظّر للتطرف السياسي، ولماذا قد يكون جي دي فانس، بما يحمله من وعي تنظيري يميني وخلفية وجدانية، أكثر خطورة من الرجل الذي تبناه.

نشأته

وُلد جيمس ديفيد "ج. د." فانس عام 1984 في بلدة ميدلتون الصغيرة، بأوهايو، بعيداً عن كاميرات المدن، في زاوية أميركية لا يلتفت إليها الإعلام إلا حين تصرخ بالألم. نشأ وسط فوضى الفقر وانكسارات الأسرة، لأب غائب، وأم مدمنة مخدرات تتأرجح بين محاولات الحب والانهيارات العصبية.

ولاية أوهايو – shutterstock

إذ يذكر فانس أن والدته حاولت ذات مرة أن تعتذر له عن إدمانها المستمر على الكحول. اصطحبته إلى مركز تجاري في محاولة يائسة للتعبير عن حبها، لكن الرحلة تحوّلت إلى لحظة رعب. إذ فجأة، وأثناء القيادة، أصيبت بانهيار ذهني حاد. ضغطت على دواسة البنزين بجنون، تجاوزت السيارة سرعة 100 ميل في الساعة، وهي تردد تهديدات بأنها ستقتله وتقتل نفسها.

لكن توقفت السيارة قبل أن تقع الكارثة، ولحسن الحظ، نجا فانس الطفل، لكن قلبه ظل معلقاً في تلك اللحظة، إذ تحولت الأم إلى شخص عنيف، حاولت ضرب فانس، ففرّ منها إلى أحد المنازل المجاورة، مذعوراً.

 يذكر فانس حينها أن الأمور خرجت عن السيطرة تماماً، حيث وصلت الشرطة، وألقت القبض على والدته، فكانت لحظة مؤلمة، إذ رأى أمه تُقاد مكبلة اليدين، وهي الصورة التي لن تنمحي من ذاكرته. وعندما مثل أمام القاضي، اضطر للكذب، مدعياً أنه لم يتعرض لأي عنف منزلي، لأن قول الحقيقة كان سيقوده مباشرة إلى مركز للرعاية.

من هنا بدأت رحلة التنقل بين منازل وأزواج مؤقتين لأمه، حتى استقر به المطاف في حضن جدته بوني، المرأة التي أنقذت روحه بثلاث سنوات من الثبات. كان يناديها "مامو"، وهي التي منحته اسمه العائلي "فانس"، نسبةً إلى جده و زوجها الراحل.

عاش فانس طفولة يلفها الفقر، في بيت جدّيه بمدينة جاكسون بولاية كنتاكي، حيث لا أحد غريب عن الآخر، وحيث الحلم الأميركي يبدو نكتة مستوردة من شاشات التلفاز. هناك، بدأ وعيه يتكوّن، بين مشاهد الإدمان، والبطالة، وأحاديث النقمة على الحكومة.

كانت درجات فانس في المدرسة سيئة، وكان على وشك الاستسلام وترك التعليم. شعر حينها بالهزيمة، وكأن شيئاً يسحبه إلى القاع. لكن حينها، وقفت جدته إلى جانبه بثبات. إذ يتذكر فانس كيف أنفقت ذات يوم 180 دولاراً على آلة حاسبة ليكمل دراسته — مبلغ لم يكن سهلاً عليها أن تمتلكه، لكنها أرادت أن تقول لفانس إن مستقبله يستحق، وإن التعليم مهم. من تلك اللحظة، عرف أن التعليم قد يكون طوق النجاة من هذا الفقر. ومع أنه لم يكن يملك حتى مضارب غولف، وجدت جدته وسيلة لتؤمّن له أدوات اللعبة، فقط ليختلط بمن يملكون شيئاً من النفوذ.

عمل أيضاً في محل بقالة، ولاحظ كيف يُساء استخدام نظام الدعم الاجتماعي، وبدأ يفكر أن الفقر ليس مجرد أرقام، بل ثقافة وتدوير مستمر للعجز.

دراسته

رغم تفوقه في اختبار SAT، وهو امتحان القبول الجامعي في الولايات المتحدة، ظل الطريق إلى الجامعة ضبابياً أمام فانس، فلم يكن في محيطه من يرشده، فاختار الخيار الأقرب: التحق بسلاح مشاة البحرية الأميركية. هناك، وتحديداً عام 2005، نُشر في محافظة الأنبار غرب العراق، حيث عمل في الشؤون العامة، يرافق الصحفيين ويكتب تقارير للصحافة العسكرية.

زميله وصديقه المقرّب، كولين تيرنان، يتذكره جيداً: "كان أكثر اهتماماً بالسياسة من بقية الجنود. يوم قابلنا ديك تشيني (نائب الرئيس بوش حينها)، كان الوحيد الذي بدا متحمساً حقاً"، رغم أنه كان أيضاً متفهماً للجوانب المظلمة لغزو العراق. خلال خدمته، تدهورت صحة جدته بوني، المرأة المُلهِمة التي مثلت له الحصن. وحين عاد إلى أميركا، كانت قد رحلت. فغابت الجدة، وبقي أثرها في كل قرار اتخذه بعدها.

جنود أمريكيون في العراق، أرشيفية/ رويترز

استفاد فانس من برنامج المحاربين القدامى، والتحق بجامعة أوهايو عام 2007، ودرس هناك العلوم السياسية والفلسفة، وبدأت حياته تأخذ منحى جديداً: كان متفوقاً أكاديمياً، يعمل في وظائف متعددة، يبني صداقات، ويكتشف أن لديه ما يقدمه في هذا العالم. لكنه ظل يرى أن مسقط رأسه باقٍ على حاله؛ الفقر، التذمر، وغياب الشعور بالمسؤولية.

وفي عام 2009، قرر فانس أن يغامر بطموحه القديم: تقدّم بطلب إلى كلية الحقوق، وفي العام التالي، قُبل في كلية "ييل" المرموقة. من مقاعد أوهايو المتواضعة إلى قاعات نخبوية تُخرّج القضاة والمستشارين، دخل فانس عالماً لم يكن يتخيله.

وكما كوّنت حقول أوهايو الفقيرة خلفيته الفكرية وحقده الطبقي، صقلت قاعات "ييل" الأكاديمية منظوره النقدي لكلٍّ من ثقافة الفقر الريفية والبنية الطبقية في أميركا.

في جامعة ييل، وجد فانس نفسه محاطاً بأبناء الأثرياء، ممن لم يعرفوا يوماً معنى الحرمان. شعر بأنه دخيل على هذا العالم. في البداية، حاول إخفاء خلفيته، لكن حين عرف زملاؤه وأساتذته تفاصيل حياته، بدت لهم قصته مثيرة وغريبة، وأصبحت تلك الهوة بينه وبينهم مادة متكررة للنقاش والفضول. ولكن لم تكتفِ أستاذته في كلية القانون، إيمي تشوا، بالإعجاب بقصته، بل نصحته بكتابتها، وقدّمت له ناشر كتبها الذي تحمس للفكرة وطلب منه إنجازها سريعاً.

استجاب فانس للنصيحة دون تردد، وكتب دون خجل عن إدمان أجداده للكحول والمخدرات، وعن العنف المنزلي، والتقلبات العاطفية لأمه وعلاقاتها الفاشلة. قدّم تحليلاً ذاتياً لتجربته وتجربة عائلته، بوصفها مرآة لأزمة ثقافية تضرب عمق أميركا الريفية البيضاء. فبصراحة لافتة، ربط فانس حكايته الشخصية بما شهدته ولايات "حزام الصدأ" في الغرب الأوسط من تفكك اقتصادي واجتماعي، وشرح كيف أن معاناة الطبقة العاملة هناك كانت الأرضية التي مهّدت لصعود دونالد ترامب في انتخابات 2016.

وعلى الرغم من شعور فانس ابن الريف بأنه غريب وسط الأغنياء، سرعان ما وقع في حب امرأة تُدعى أوشا، وهي مهاجرة من أصول هندية، ساعدته على تجاوز السنوات القليلة التالية في الجامعة، فتعلم منها، ومن الجامعة، دروساً لم تكن في المنهج الدراسي: كيف يفكر الأغنياء، كيف تُبنى الشبكات، ولماذا لا تكفي الكفاءة وحدها للصعود.

في عام 2016، نشر ج. د. فانس مذكراته "مرثية ريفية: مذكرات عائلة وثقافة في أزمة"، فأحدث الكتاب دوياً، وبيع 1.6 مليون نسخة خلال عدة أسابيع، فتصدّر قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعاً، وسرعان ما تحوّل إلى ظاهرة ثقافية.

استطاع فانس في ذلك الكتاب تقديم تحليلٍ للقضايا الاجتماعية الأوسع داخل المجتمع الأميركي، لا سيما فيما يتعلق بالفقر والتعليم والانقسامات الثقافية، من خلال قصة ذاتية لتجربته وتجربة عائلته كمثال لتأثير الفقر على الأفراد والمجتمعات. حيث يتطرّق فانس إلى التحديات التي يواجهها العديد من الأميركيين من الطبقة العاملة، والأزمة الثقافية في قلب أميركا الريفية البيضاء، حيث أميركا المصانع المغلقة، والبلدات المنسية، والعائلات المفككة.  وفي عام 2020، نقلت منصة نتفليكس القصة إلى الشاشة، بفيلم حمل الاسم نفسه، ليصل صوت فانس إلى جمهور أوسع. 

يقول فانس في مذكراته: "أتعاطف مع الملايين من الأميركيين البيض من الطبقة العاملة من أصل أسكتلندي أيرلندي، والذين لا يحملون شهادات جامعية. بالنسبة لهؤلاء الناس، الفقر هو التقليد العائلي".

ويضيف فانس أن أسلاف هؤلاء الأميركيين "كانوا عمالاً باليومية في اقتصاد العبيد الجنوبي، ثم مزارعين، وعمال مناجم الفحم، وعمال الميكانيكا والمطاحن لاحقاً. يطلق عليهم (هيلبيلي Hillbilly)، أو (ريدنيك Redneck)، أو (وايت تراش White trash). أنا أسميهم الجيران، والأصدقاء، والعائلة".

لوحة إعلانية كبيرة في بلدة ريفية عام 2016، تدعوا الناخبين لدعم دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية – shutterstock

لاحقاً، أصبح الكتاب مرجعاً لفهم موجة الغضب التي أوصلت دونالد ترامب إلى الرئاسة، مدعوماً من فئة الناخبين البيض في الولايات الزرقاء سابقاً. بالنسبة للكثير من المحللين، كان فانس يُفسّر ما بدا غامضاً: لماذا ثار الريف الأبيض، ولماذا شعر بأنه مهمل.

تحوّل جي دي فانس.. من ناقد شرس لترامب إلى نائبه المفضّل

في عام 2016، لمع اسم ج. د. فانس كصوت مختلف داخل التيار المحافظ. كاتب خرج من رحم الطبقة البيضاء المهمشة، وكتب عنها بلا تزييف، لكنه لم يركب موجة الترامبية كما فعل كثيرون. على العكس، وجّه سهامه إلى ترامب ذاته، دون مواربة.

في أوج الحملة الانتخابية، كتب فانس في مجلة ذي أتلانتك أن ترامب أشبه بـ"مخدّر الأفيون الجماهيري" الذي يخدّر آلام الطبقة البيضاء الفقيرة دون أن يقدّم حلولاً حقيقية، موضحاً أن ترامب بمثابة "الهيروين الثقافي" الذي يمنح مؤيديه نشوةً عابرة، لكنه لا يستطيع معالجة عللهم العميقة.

لم يكتفِ بذلك، بل شبّه وصول ترامب إلى السلطة بكارثة تاريخية، واصفاً إياه بأنه "أحمق"، و"هتلر أميركا"، و"مروّج للكراهية يقود الطبقة العاملة البيضاء إلى مكان مظلم جداً". واعتبر خطابه خطراً على المهاجرين والمسلمين والأقليات، قائلاً إنه "يبث الخوف في نفوسهم"، واصفاً إياه بأنه شخص "بغيض" ويتناقض مع قيم الإيمان. مثل هذه التصريحات العلنية جسّدت صورة فانس في ذلك الوقت كمحافظ تقليدي نقدي يرفض الانجرار وراء موجة الشعبوية الترامبية.

الوريث الأخطر.. هل يكون جي دي فانس مشروع اليمين الأميركي لما بعد ترامب؟
جي دي فانس – shutterstock

لكن مواقف فانس لم تظلّ على حالها طويلاً، فسرعان ما تبدّلت بشكل جذري في السنوات التالية. فبعد فوز ترامب بالرئاسة، أدرك فانس أن المزاج العام في قاعدة الحزب الجمهوري بات موالياً بشدة للرئيس الشعبوي الجديد. 

وعند تحضيره لخوض انتخابات مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو في عام 2022، بدأ فانس عملية تكيّف سياسي لافتة. تراجع علناً عن مواقفه السابقة، وانتقل من ناقد لاذع إلى أحد أشد المدافعين عن ترامب. واعترف بنفسه بأنه غيّر رأيه، قائلاً للناخبين: "أطلب ألا تحاكموني على ما قلتُه في 2016، فقد كنتُ مخطئاً بشأن الرجل وأندم على ذلك". وادعى أنه مع "تغير الوقائع"، فإنه بدوره غيّر قناعاته، معتبراً أن ترامب أثبت أنه "كان رئيساً جيداً".

وهكذا، حصل فانس على دعم ترامب الشخصي في الانتخابات التمهيدية، ونجح بفضله في انتزاع ترشيح الحزب الجمهوري لمجلس الشيوخ، ثم الفوز بالمقعد. ومنذ ذلك الحين، كرّس فانس نفسه كحليف وفيّ لترامب، يردد رسائله بحماس منقطع النظير. فقد تبنّى علناً مزاعم ترامب بأن انتخابات 2020 "سُرقت" زوراً، ووصف محاكمة دفع الأموال السرية لترامب بأنها "مهزلة". بل دافع عن مثيري شغب الكابيتول في 6 يناير 2021 بوصفهم "معتقلين سياسيين" ينبغي إطلاق سراحهم، وصرّح أنه لو كان نائباً للرئيس آنذاك، لما صادق على نتائج الانتخابات الرئاسية ضد إرادة ترامب.

هذا التحوّل الدراماتيكي من "عدو لترامب" إلى "سيف من سيوفه" أثار انتقادات واسعة، حيث اعتبره البعض انتهازياً سياسياً بارعاً، وبأنه باع مبادئه على مذبح الطموح. لكن فانس دافع عن نفسه بأنه استجاب لتغيّر آراء القاعدة الشعبية، ولإنجازات ترامب الفعلية.

ما يميز جي دي فانس عن رئيسه دونالد ترامب هو أنه أكثر دهاءً وصقلاً على المستوى الفكري والمؤسسي، ما يجعله قادراً على بلورة خطاب يميني منظم وأكثر فاعلية. فعلى عكس ترامب، الذي اتّسم أسلوبه بالعفوية والفوضوية في كثير من الأحيان، يمتلك فانس تعليماً نخبوياً (يحمل شهادة من "ييل")، وخبرة في دوائر صناعة الفكر المحافظ.

هذا المكسب المعرفي مكّنه من إضفاء مسحة من الاحترام الأكاديمي على الأفكار الشعبوية المتشددة. وقد وصفته تحليلات بأنه نسخة "أكثر وسامةً وفصاحةً" من ترامب، قادرة على ترجمة نزعات الغضب الشعبي إلى برنامج سياسي واضح المعالم. ففانس متحدث بارع، يجيد خطاب المنصات الإعلامية الكبرى، كما يتقن مخاطبة جمهور القاعدة بلغته الدارجة المباشرة. يجمع في شخصيته بين فهم عميق لبيروقراطية الحكم وكيفية تمرير السياسات من جهة، وبين قدرة على تأجيج مشاعر الناس بخطاب عاطفي حاد من جهة أخرى — وهذه تركيبة نادرة وخطيرة في آن.

بعد دخوله مجلس الشيوخ عام 2023، استطاع بناء علاقات متينة مع رموز التيار اليميني من مثقفين واستراتيجيين، كما ارتبط بشبكات الحركة المحافظة الجديدة الصاعدة التي تضم مفكرين يُعرفون بـ"ما بعد الليبراليين" (أحياناً كاثوليك تقليديين) ممن ينادون بإعادة صياغة النظام الأميركي جذرياً.

هذه الخلفية الفكرية أتاحت لفانس صياغة رسائل شعبوية بعبارات رنانة لكن منضبطة. فعندما يتحدث مثلاً عن تفشي ما يسميه اليسار المتطرف في الجامعات، تجده لا يكتفي بالصراخ كما يفعل ترامب، بل يقترح سياسات محددة، كقطع التمويل عن المؤسسات الأكاديمية المنخرطة فيما يصفه بـ"تلقين التطرف للطلاب". وعندما يهاجم البيروقراطية الفيدرالية، يفعل ذلك بخطة مدروسة، تدعو إلى تطهير الوكالات الحكومية من الموظفين غير الموالين لأجندة المحافظين، واستبدالهم بأشخاص من أتباع شعار "لنجعل أميركا عظيمة مجدداً".

وخلال مقابلة، قال فانس في "ذا فيدراليست راديو أور" إن المحافظين الأميركيين "قد خسروا كل مؤسسة قوية رئيسية في البلاد، باستثناء ربما الكنائس والمؤسسات الدينية، التي، بالطبع، أضعف الآن مما كانت عليه من قبل. لقد خسرنا الشركات الكبيرة. لقد خسرنا التمويل. لقد خسرنا الثقافة". وأضاف: "لا يمكن التوصل إلى تسوية مع الليبراليين الذين يسيطرون. ما لم نُطِح بهم بطريقة ما، سنستمر في الخسارة".

هذه المقاربات الممنهجة تعطي انطباعاً بوجود مشروع أيديولوجي متكامل في عقل فانس، وليس مجرد عواطف شعبوية لحظية. وبالفعل، يراه البعض المهندس المحتمل لتحويل الترامبية من حركة فوضوية مرتبطة بشخص ترامب إلى حركة مؤسساتية قابلة للاستمرار ضمن هيكل النظام الأميركي.

ما ميّز فانس هو قدرته على تلميع صورته حسب الحاجة: فتارةً يقدّم نفسه كمفكر ومؤلف مرموق وضيف في بعض الندوات، وتارةً أخرى كنصير للعاملين يصعد المنصة مرتدياً الجينز في تجمع عمالي. هذه الازدواجية أكسبته قبولاً في دوائر متباينة.

الوريث الأخطر.. هل يكون جي دي فانس مشروع اليمين الأميركي لما بعد ترامب؟
دونالد ترامب، أثناء تجمع انتخابي لـ جيه دي فانس، أتلانتا، جورجيا – shutterstock

فبينما ظلّ ترامب منبوذاً من الأكاديميين ووسائل الإعلام الرصينة، تمكّن فانس من نيل قدر من الاحترام — أو على الأقل الفضول — حتى من بعض خصومه السابقين الذين قرأوا كتابه. لكنه استخدم ذلك الاختراق الأولي لاختطاف السردية وتوجيهها نحو أقصى اليمين. وربما كان هذا أحد أسباب ترامب في تعيينه نائباً له رغم أنه شتمه. فتقول خبيرة السياسات الانتخابية الأميركية، إيلين كامارك، في تحليل بمؤسسة بروكينغز، إن اختيار ترامب لفانس نائباً له كان موفقاً لأنه اختار "معاوناً يعزّز رسالته المتطرفة ومخلصاً لقاعدته"، ولأنه "أكثر بلاغةً وتنظيماً" في التعبير عن الأفكار نفسها.

فانس.. نصير العمال أم مرشّح وادي السيليكون

ما يبرع فيه فانس، إلى جانب قدرته على الحكي، هو توظيف خطاب المظلومية الطبقية والعرقية، الذي يستحضر صورة "الرجل الأبيض الريفي المضطهد" كضحية: سُحق بين سندان النخب الليبرالية في المدن الكبرى ومطرقة الأقليات المدعومة من سياسات الدولة. وفي روايته السياسية، يقدّم أبناء بلداته في أوهايو، ومن يشبههم في ولايات الجنوب، وجبال الأبلاش، وحزام الصدأ — الممتد من نيويورك غرباً إلى ميشيغان، وأوهايو، وويست فرجينيا، وإنديانا — كضحايا لاقتصاد نُزعت روحه، وسياسةٍ نسيتهم، وإعلامٍ ليبرالي يسخر منهم.

فكان يظهر فانس بلا هوادة على شاشة التلفزيون، غالباً في سياقات عدائية، حيث كان يأمل في جذب انتباه ترامب من خلال التفوق على الخبراء الليبراليين. فخلال تمهيد فانس الطريق لترشّحه، ظهر في برامج بودكاست وبرامج تلفزيونية محافظة، مقدّماً في كثير من الأحيان روايات متطرفة عن الصراع الثقافي. وفي ربيع عام 2021، صرّح فانس لأحد مستخدمي يوتيوب: "التاريخ الأميركي عبارة عن حرب مستمرة بين سكان شمال اليانكيز وسكان جنوب بوربون، حيث ينتصر أي جانب ينتمي إليه سكان الريف".

هذا الخطاب، الذي يستعير مفردات الغضب الطبقي، يلقى صدى عميقاً لدى شرائح واسعة من البيض الكادحين، ممن شعروا أنهم خسروا امتيازاتهم النسبية وسقطوا من فوق حصان الحلم الأميركي. ويرى محللون أن فانس، ومعه رموز اليمين الشعبوي، يعمدون إلى تسويق هذا السرد من باب "القلق الثقافي"، لكنه في جوهره تعبئة سياسية عبر استثارة الهواجس العرقية. تقرير في مجلة تايم أوضح أن انتقادات فانس المتكررة لبرامج الرعاية الاجتماعية — بدعوى أنها تضعف الأسرة البيضاء — ما هي إلا تكرار لصدى قديم: نفس الاتهامات التي كانت توجّه للأقليات، خصوصاً السود، لكن هذه المرة تحت قناع "قيم الأسرة".

إن الرمزية الطبقية حاضرة بقوة في خطاب فانس: فهو دائم التذكير بأنه ابن عائلة عاملة شق طريقه بصعوبة نحو القمة، ويستخدم حكايته الشخصية كبرهان حي على نفاق النخبة الليبرالية التي تدّعي تمثيل الفقراء. يُصوّر نفسه كمن "حقّق الحلم الأميركي رغماً عن أنف المؤسسة"، ليستميل بذلك مشاعر فخرٍ وكبرياء جمهوره الريفي. وبالتوازي، يتبنى لغة المظلومية العرقية المقنّعة، حيث يؤكد أن البيض الفقراء أيضاً عانوا التمييز والتهميش، مثلهم مثل الأقليات — خطاب لاقى رواجاً ضمن موجة سياسة الهوية البيضاء.

الرمزية الطبقية ليست تفصيلاً عابراً في خطاب جي دي فانس، بل حجر أساس في مشروعه السياسي. لا يكفّ عن التذكير بأنه ابن الطبقة العاملة، القادم من بيوتٍ مهملة في جبال الأبلاش، الذي شق طريقه نحو القمة "رغماً عن أنف المؤسسة"، لا بفضلها. هذه السردية لا تُروى بهدف التفاخر فحسب، بل تُستخدم كدليل ضد النخبة الليبرالية: أولئك الذين يتحدثون باسم الفقراء، لكنهم — حسب فانس — لا يشبهونهم، ولا يفهمونهم، ولا عاشوا ما عاشوه.

بهذا الإطار، يبني فانس جسراً شعورياً مع جمهوره الريفي: قصة نجاح فردي تُقدَّم كصفعة للمؤسسة، وحجّة على "نفاق المدن الكبرى". وهنا تتقاطع الرمزية الطبقية مع ما هو أعمق: خطاب المظلومية العرقية البيضاء، مغلّفاً بلغة الهوية والإنصاف.

فانس لا يقول صراحة إن البيض ضحايا العنصرية، لكنه يلمّح بانتظام إلى أن الفقراء البيض — تحديداً — تعرّضوا لتهميش وإهمال لا يقلّ عمّا تعرّضت له الأقليات. ضمنياً، يُعاد تدوير خطاب "نحن أيضاً مظلومون"، ويُستخدم اليوم كرافعة سياسية لتعبئة القاعدة البيضاء الساخطة. في أحد التجمعات الانتخابية، وعد فانس ناخبيه بأنه سيقاتل من أجل "كل عامل في هذا البلد"، مصوّراً نفسه كقائدٍ لمعسكر الكادحين.


ولكن هذا الخطاب، كما يراه كثير من خصومه، لا يعدو كونه قناعاً. فبينما كان فانس يشارك العمال إضراباتهم ميدانياً، فإن سجله التشريعي يُظهر معارضة حقيقية لمصالحهم، إذ كان يصوّت في مجلس الشيوخ ضد قوانين دعم التصنيع المحلي، وضد تسهيل التنظيم النقابي، ويصطف مع سياسات تريح أصحاب العمل وتخنق أدوات الضغط العمالي. فقبل فوز ترامب بفترته الثانية، قالت رئيسة اتحاد العمال AFL-CIO، ليز شور: "إدارة ترامب–فانس ستكون حلماً لأرباب العمل، وكابوساً للعمال"، ووصفت فانس بأنه "يتظاهر بدعم النقابات، لكنه عملياً في صف من يهددها".

جي دي فانس – shutterstock

وهذا صحيح، وربما أيضاً ليس غريباً؛ فصعود فانس السياسي، جزء منه، جاء مدفوعاً من أباطرة وادي السيليكون: نخبة التكنولوجيا التي تكره النقابات وتدعم السياسات النيوليبرالية. فمن دفع ترامب لاختيار فانس لم يكن العمال، بل المليارديرات: ديفيد ساكس، وبيتر ثيل، وإيلون ماسك — أكثر الأصوات عداءً للنقابات في وادي السيليكون.

إذ دخل فانس هذا العالم عام 2016، حين التحق بشركة استثمارية أسسها بيتر ثيل. ورغم أن فانس لم يترك أثراً يُذكر في مجال التقنية، فإنه أتقن شيئاً آخر: بناء شبكة علاقات مع أثرياء وادي السيليكون. هذه الشبكة، مع الوقت، تحوّلت إلى دعم سياسي ومالي ضخم.

فخلال انتخابات 2022، ضخّ ثيل 15 مليون دولار في حملة فانس، فيما قدّم ساكس مليوناً إضافياً عبر لجنة سياسية، ودخل ماسك على الخط مشجعاً ترامب على اختيار فانس، واصفاً الخطوة بـ"القرار الممتاز". فخلال نشاط فانس لجمع تبرعات لحملة ترامب، وفي حفل عشاء فاخر في قصر ساكس في سان فرانسيسكو، بحضور كبار المستثمرين في التكنولوجيا والعملات الرقمية، سأل ترامب الحضور عن رأيهم في نائبه المستقبلي، فجاءت الإجابة: اختر فانس.

رحلة فانس من الشك إلى الإيمان

لكن قصة جي دي فانس لا تُروى فقط من زاوية الطموح والانتهازية والذكاء السياسي، فثمة بُعد ديني شكّل تحوّلاته. في مقال شخصي نُشر عام 2020 في مجلة The Lamp الكاثوليكية بعنوان "كيف انضممت إلى المقاومة"، روى فانس رحلته في التحول نحو الكاثوليكية، واصفاً إيمانه الجديد بأنه فعل "مقاومة" من نوع خاص.

نشأ فانس في أسرة بروتستانتية بسيطة؛ جدته "ماماو"، التي كانت عماد البيت، آمنت بالله لكن رفضت الكنائس المنظمة وازدرت القساوسة المتلفزين. ومع وفاة جدته ودخوله الجامعة، بدأ فانس يعيد النظر في إيمانه القديم، وانزلق نحو الإلحاد، لا بدافع فلسفي خالص، بل لأن الانتماء إلى النخبة الجامعية كان يستلزم، ضمنياً، التخلّي عن المعتقدات. إذ يوضح في مقاله: "في الجامعة، كان عدد قليل جداً من أصدقائي، وحتى عدد أقل من أساتذتي، يعتنقون أي نوع من المعتقدات الدينية. ربما لم تكن العلمانية شرطاً أساسياً للانضمام إلى النخبة، لكنها بالتأكيد سهّلت الأمور."

لكن يروي أن بذور هذا التحول نمت مع قراءاته لأوغسطين ورينيه جيرار وبعض الإشارات الإلهية، حتى اكتملت الرحلة عام 2019 حين انضم رسمياً إلى الكنيسة الكاثوليكية. وبحسب سرد فانس لرحلته الإيمانية الجديدة، لم يكن القرار قفزة عاطفية، بل خلاصة مسار طويل من الأسئلة والمراجعة والتأمل.

كيف حاك فانس إيمانه على مقاس السياسة؟

تزامن التحوّل الديني لدى جي دي فانس مع انعطافة فكرية وسياسية حادّة نحو ما يُعرف اليوم بـ"ما بعد الليبرالية". فانس بات يرى أن الليبرالية الغربية السائدة — بمنظومتها التي تقدّس الفردانية المفرطة والتفكك الثقافي — قادت إلى تآكل القيم والتفكك الاجتماعي.

وفي خضم بحثه عن بديل فكري، انسجم فانس مع تيار من المنظّرين الكاثوليك المحافظين، الذين ينتقدون أسس الليبرالية الحديثة ويدعون لإحياء القيم التقليدية، واستخدام الدولة لترسيخ الخير العام وفق رؤية أخلاقية دينية. وقد أبدى فانس إعجابه الصريح بأعمال مفكرين من هذا التيار؛ فعلى سبيل المثال، شارك في مؤتمر بأوهايو عام 2022 ضمّ وجوهاً بارزة فيما يُعرف بـ"الكاثوليكية ما بعد الليبرالية"، مصرحاً بأنه كان معجباً بهم من بعيد، ويعتبرهم من "أكثر الناس إثارة للاهتمام في تشخيص حالة البلاد".

كما أشاد في ندوة عام 2023 بكتاب للأكاديمي باتريك دينين — أحد أشهر ناقدي الليبرالية من الكاثوليك — وناقشه جنباً إلى جنب. سياسياً، ترجم فانس هذه الأفكار إلى مواقف وخطابات تهدف إلى قلب توازن القوى الثقافي كما يعتقد؛ إذ يؤمن بأن المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والتكنولوجية واقعة تحت هيمنة اليسار التقدمي، وأن استعادة السيطرة عليها أمر وجودي لحماية المُثل التقليدية.

ولم يتورّع فانس عن مهاجمة شرائح مجتمعية بأكملها ضمن هذا السياق الثقافي؛ فقد سخر علناً مما أسماه "نساء قطط بلا أطفال"، في إشارة ساخرة إلى المرشحة الديمقراطية حينها، كامالا هاريس، والنساء المؤيدات لها، وإلى عدم إنجاب هاريس للأطفال، معتبراً أن أمثالهن بلا مصلحة حقيقية في مستقبل أميركا. واقترح فانس أن يتمتع الآباء "بسلطة سياسية أكبر" ممن لا أطفال لهم.

لدى فانس قناعة بأن المجتمعات لا يمكن أن تبقى متماسكة دون بنية قيم صلبة. وقد لخّصت مجلة ذا نيشن الأميركية شخصيته بوصفه مزيجاً نادراً من "الانتهازية والتعصب الفكري": مستعدّ لتبديل مواقفه التكتيكية، لكن دون أن يتخلى عن رؤيته الدينية. تجلّى ذلك بوضوح في انقلابه على انتقاداته السابقة لترامب، وتحوّله إلى واحد من أبرز مروّجي خطابه الشعبوي.

باعتناقه الكاثوليكية، وبغضه لليسار وما يسميه "الحرب الثقافية"، وجد فانس نفسه متناغماً مع صعود تيار اليمين الجديد في الولايات المتحدة في عصر ترامب. هذا التيار يجمع بين قومية شعبوية ومعاداة صريحة لليسار الثقافي، ويتحالف فيه الكاثوليكي التقليدي مع الإنجيليين المتطرفين تحت مظلة سياسية واحدة، هي مظلة MAGA (اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً).

وعلى الرغم من الاختلافات العقائدية بين الكاثوليكية والتيارات الإنجيلية المتطرفة، يلتقي فانس مع حركة "الإصلاح الرسولي الجديد" (New Apostolic Reformation)، فقد حرص فانس على مدّ جسور التحالف مع رموز المسيحية القومية ضمن قاعدة ترامب. في أواخر سبتمبر 2024، ظهر فانس متحدثاً رئيسياً في تجمع ديني انتخابي يقوده القس الإنجيلي المتطرف لانس والناو (أحد أبرز وجوه حركة NAR). في ذلك اللقاء، تبنّى فانس لغة أهل الحركة بسلاسة تامة.

تحدث عن معركة روحية تخوضها أميركا، ووافق على فكرة أن البلاد تشهد صحوة دينية تحتاج إلى قيادة سياسية مؤمنة. بل إنه روّج لدعوات ترامب العنصرية تجاه الهجرة على أنها نابعة من إيمان مسيحي حقيقي، حيث استشهد بـ"فكرة مسيحية مفادها أن الواجب الأكبر يقع على عاتقك تجاه عائلتك"، وقال فانس: "إن على القادة المسيحيين أيضاً أن يهتموا أولاً بحماية بلدهم، لا مواطني الدول الأخرى"، لتبرير سياسات الهجرة الصارمة لحملة ترامب، زاعماً أنها في الواقع أكثر "رأفة" بالمقارنة مع سياسات هاريس وبايدن الليبرالية التي يعتبرها "مشجعة للفوضى وخطيرة". بهذا الأسلوب، يُلبس فانس الخطاب اليميني ثوباً دينياً يضفي عليه شرعية أخلاقية، حيث يظهر وكأن تشديد الحدود وترحيل المهاجرين واجب وطني ومسيحي في آنٍ واحد.

جي دي فانس و ترامب – shutterstock

هذا التماهي الخطابي مع عقيدة الإصلاحيين الرسوليين يعني أن فانس لا يرى غضاضة في تسييس الدين لأقصى حد. إنه يدرك أن هناك قاعدة واسعة من الإنجيليين البيض — سواء البروتستانت الخمسينيين أو الكاثوليك التقليديين — تتوق لسماع سياسي يتحدث بلغتهم الروحانية ويعدهم بنصرة قيمهم في المجال العام.

وفانس يلعب هذا الدور بإتقان، فيظهر أحياناً وكأنه واعظ كنسي بقدر ما هو سياسي. وقد أبدى استعداداً لتبني حتى أكثر الأطروحات الدينية تطرفاً إذا كانت تخدم مشروعه.فعلى سبيل المثال، يتقاطع خطابه مع عقيدة "جبال الهيمنة السبع" لدى حركة NAR، التي ترى وجوب سيطرة المسيحيين المولودين ثانيةً على سبعة ميادين أساسية في المجتمع (منها الحكومة، والإعلام، والتعليم). يلمّح فانس إلى هذه الرؤية عندما يتحدث عن "تطهير" وزارة التعليم من الفكر الليبرالي أو "تحرير" الإعلام من الأكاذيب — فهو عملياً يوظف مفردات دينية (تطهير، تحرير من الشيطان) للإشارة إلى أجندة سياسية.

لقد أثار تحالف فانس مع تلك الأوساط المسيحية المتطرفة قلق المراقبين المعتدلين. فصحيفة ناشيونال كاثوليك ريبورتر نقلت عن باحثين تحذيرهم من أن بعض رفاق فانس الجدد من "ما بعد الليبراليين" لا يخفون إعجابهم بنماذج حكم سلطوية دينية في التاريخ الأوروبي، كحقبة الجنرال فرانكو في إسبانيا.ويرى أكاديمي مثل جيمس باترسون أن هؤلاء "يفضّلون الأنظمة السلطوية اليمينية". في إشارة إلى أن مشروع ما بعد الليبرالية الذي يستهوي فانس قد ينزلق نحو نبذ الديمقراطية الليبرالية كلياً لصالح حكم ديني قومي.

ورغم محاولة فانس طمأنة منتقديه مؤخراً بالقول إن تأثير كاثوليكيته على سياساته له حدود، وإنه يدرك أن الشعب الأميركي متنوع دينياً، فإن خطواته وتحالفاته العملية — من خطاباته المتشددة ضد الإجهاض والهجرة إلى مشاركته في منصات قومية-مسيحية — تدل على تنامي خطاب يميني ديني شمولي لديه. هذا الخطاب يتمازج فيه فكر الكاثوليكية التقليدية مع حماس الإنجيليين المتجددين، تحت راية سياسية واحدة هدفها "استعادة أميركا" من قبضة ما يعتبرونه اليسار الإلحادي أو "الماركسية الثقافية".

كيف يُشيطن فانس خصومه؟

تتجلّى عدائية فانس لليسار بأوضح صورها في تبنّيه لنظريات المؤامرة اليمينية حول "الماركسيين الثقافيين". هذه العبارة — التي راجت في أوساط اليمين المتطرف الأميركي — تُستخدم لوصم طيف واسع من النشطاء الاجتماعيين، بما فيهم الداعمين لفلسطين، بأنهم ورثة مؤامرة ماركسية لتقويض القيم الغربية.

وقد بلغ فانس حداً صادماً في تبنّيه لهذا الخطاب حين أضفى شرعية على كتاب يميني متطرف يروّج لفكرة أن اليساريين أشباه شياطين. ففي منتصف عام 2024، أصدر الناشط اليميني جاك بوسوبيك كتاباً بعنوان "غير البشر: التاريخ السري للثورات الشيوعية (وكيفية سحقها)"، وهو كتاب وصفه الصحفيون بأنه "بيان فاشي صريح"، إذ يدعو إلى التعامل مع اليساريين بوصفهم كائنات دون البشر.

الكتاب يزعم أن كل من يتبنى أجندة تقدمية — من ناشطي المجتمع إلى أساتذة الجامعات والمدافعين عن العدالة العرقية — هم شيوعيون ينبغي اعتبارهم "غير بشريين"، خارج نطاق التعاطف الإنساني. الأخطر أن مؤلف الكتاب يروّج للإعجاب بشخصيات تاريخية استبدادية باعتبارها نماذج لـ"أبطال" قاوموا اليسار، فيعدّد الجنرال فرانكو في إسبانيا، والسيناتور جو مكارثي في أميركا، وحتى أوغستو بينوشيه في تشيلي ضمن قائمة من يفخر بهم. لكن ما علاقة فانس بكل هذا؟


الحقيقة أنه لم يكتفِ بإطراء الكتاب، بل ظهر اسمه على غلافه ضمن المروّجين. قدّم فانس تزكية حماسية للكتاب، وكتب مادحاً: "في الماضي كان الشيوعيون يسيرون في الشوارع رافعين الأعلام الحمراء. أما اليوم، فهم يسيرون عبر إدارات الموارد البشرية، وفي الجامعات، والمحاكم، لشنّ حروب قانونية ضد الناس الشرفاء. يكشف لنا كتاب غير البشر مخططاتهم، ويبيّن لنا ما ينبغي فعله لمواجهتهم".

فانس واليمين المتطرف العابر للأطلسي

لا يقتصر طموح فانس على إعادة تشكيل السياسات داخل الولايات المتحدة فحسب، بل يمتدّ نظره عبر الأطلسي باحثاً عن حلفاء في معسكر اليمين الشعبوي العالمي. ولذا نجد خطابه ورؤيته متقاطعين بشكل لافت مع رموز اليمين القومي المتشدّد في أوروبا، من أمثال فيكتور أوربان في هنغاريا، وجورجيا ميلوني في إيطاليا. أبدى فانس إعجاباً صريحاً بتجربة أوربان، بل واقتبس منها أفكاراً لتطبيقها محلياً. فعلى سبيل المثال، أشاد بسياسة أوربان لدعم الأسرة المجرية عبر قروض تُعفى إذا أنجب الزوجان الأطفال، وتساءل: "لمَ لا نطبّق ذلك هنا؟"

ويتفقان ضمنياً في رؤيتهما للمهاجرين، وصار فانس وأوربان يتبادلان الدعم العلني. قبيل انتخابات محلية مهمة في ألمانيا عام 2024، انضم فانس إلى أوربان وإيلون ماسك في إعلان التأييد لحزب البديل لألمانيا (AfD) اليميني المتطرف، في خطوة غير مسبوقة تعكس نشوء تحالف عابر للقومية بين أقطاب اليمين الجديد. ورغم أن AfD لم يفز في تلك الانتخابات، فإن هذا الدعم العلني من شخصيات أميركية بارزة كفانس أعطى دفعة معنوية كبيرة لليمين الأوروبي، وأشار إلى تشكّل جبهة أيديولوجية موحدة عبر الأطلسي.

أما في إيطاليا، فرغم أن رئيسة الوزراء اليمينية جورجيا ميلوني حليف تقليدي لترامب، لم تسلم من نقد فانس إذا حاد أداؤها عن خطوط اليمين الصارمة. فعندما تباطأت ميلوني في تنفيذ وعودها بتقليص الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط، وصفها فانس بأنها "مخيّبة للآمال تماماً"، وفشلت في تحقيق ما انتخبها الشعب لأجله. وكأن فانس ينصّب نفسه حارساً لعقيدة اليمين المتطرف، لا يتهاون مع أي انحراف نحو الوسط.

وبالفعل، حين أُتيحت الفرصة للقاءات مباشرة، لم يتردّد في دفع الخطاب الأوروبي يميناً. في مؤتمر ميونيخ للأمن مطلع 2025 – وهو محفل دولي تقليدي للنقاشات الجيوسياسية – خرج فانس، بصفته نائب الرئيس الأميركي، عن المألوف، وفي قلب أوروبا ألقى خطاباً استفزازياً شبّه فيه القادة الأوروبيين بالحكام المستبدين الذين قادوا الأنظمة القمعية خلال الحرب الباردة. وشجب أمام الحلفاء الأوروبيين ما أسماه "ضعف أوروبا الداخلي"، معتبراً أن التهديد الحقيقي على القارة ليس روسيا أو الصين، بل فشل النخب الأوروبية في الاستجابة لمخاوف شعوبها. وبعد أسبوع فقط، صعّد فانس تهديداته، ملمّحاً إلى إمكانية سحب القوات الأميركية من ألمانيا.

هذا الموقف لم يكن جديداً تماماً. فعندما كان فانس لا يزال عضواً في مجلس الشيوخ، عبّر بصراحة عن رفضه لاستمرار الدعم الأميركي لأوكرانيا، وصرّح أكثر من مرة بأنه "غير معنيّ بما يحدث هناك"، منتقداً ما يراه تورطاً لأميركا في حرب لا تعنيها. كما شنّ هجوماً متكرراً على الإدارات الأوروبية الليبرالية، متهماً إياها بسوء إدارة الحرب، والعجز عن تحمّل مسؤولياتها الدفاعية. وصفه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تصريح لمجلة نيويوركر بأنه "راديكالي للغاية".

وبعدما أصبح نائباً للرئيس، وخلال اجتماع رسمي في المكتب البيضاوي لمناقشة مصير أوكرانيا، أكّد حدّته مجدداً بمبدأ "أميركا أولاً". وبينما كان زيلينسكي جالساً على الأريكة المقابلة، وبّخه علناً قائلاً، أمام عدسات الكاميرات: "كان من المفترض أن تأتي إلى البيت الأبيض لتشكر ترامب". بدا فانس في تلك اللحظة وكأنه يطالب بولاء سياسي لا عرف دبلوماسي، ويستخدم لغة فوقية تضع المساعدات الأميركية في خانة المنّة، لا الشراكة.

يُدرك فانس كذلك أهمية الحرب الثقافية في توحيد صفوف اليمين عبر البلدان. لذا نراه يستحضر قضايا مثل الهوية الدينية والحفاظ على التراث في حديثه عن أوروبا. فعندما انتقد الاتحاد الأوروبي لعقابه بولندا والمجر بسبب قضايا سيادة القانون وحقوق الأقليات، قال إن بروكسل تمارس "إمبريالية ليبرالية" على الدول المحافظة. هذا صدى واضح لخطاب أوربان نفسه الذي دأب على وصف تدخلات الاتحاد الأوروبي بأنها استعمار حديث. كما لم يتورّع فانس عن الإدلاء بتصريحات مستفزّة، مثل تلميحه نصف الجاد بأن بريطانيا "ربما تصبح أول دولة إسلامية تملك سلاحاً نووياً بسبب هجرة المسلمين إليها"، في تعليقه على فوز حزب العمال هناك – وهو تصريح يحمل أصداء نظرية "أسلمة أوروبا" المنتشرة في أوساط اليمين المتطرف الأوروبي.

كل ذلك جعل من فانس شخصية محورية في أعين حركات اليمين الأوروبية، ينظرون إليه كنموذج للسياسي الأميركي الذي يتفهم مخاوفهم. وبات واضحاً أن وصول فانس إلى منصب نائب الرئيس (أو أبعد من ذلك في المستقبل) يشكّل امتداداً لنفوذ التيار الشعبوي الأوروبي في واشنطن. لقد نشأ فعلياً تحالف غير معلن، حيث يتبادل اليمينيون المتشددون على ضفّتي الأطلسي الدعم الفكري والسياسي، وحتى اللوجستي.

يرى العديد من المحللين أن جي دي فانس لا يمثل مجرد سياسي آخر يدور في فلك ترامب، بل هو مهندس سردية جديدة لليمين الأميركي قد تتجاوز في أثرها وإطارها حقبة الترامبية ذاتها. فكل هذه المكونات – الدين، وبيض من الطبقة العاملة، الهوية القومية، الإعلام الحديث – يجري حبكها في مشروع فانس بعناية. والنتيجة هي بناء أيديولوجيا يمينية شمولية نسبياً، يمكن أن نسميها – إن صح التعبير – "الفانسية"، تمييزاً لها عن الترامبية الكلاسيكية.

فبينما اعتمدت الترامبية الأصلية على شخصية ترامب الكاريزمية، وعلى شعارات فضفاضة غير متماسكة، تحاول "الفانسية" صياغة عقيدة متينة لها نظرياتها وأدبياتها ورموزها المرجعية.

لا يغيب عن هذه السردية الجديدة البعد العابر للحدود: فكما رأينا، يعتبر فانس نفسه جزءاً من موجة عالمية، ويستشهد بتجارب دولية لتعزيز حججه. هذا يضفي على خطابه بعداً حضارياً أشمل، حيث يُطرح الصراع السياسي كجزء من صدام عالمي بين رؤيتين: رؤية ليبرالية كوزموبوليتية، ورؤية محافظة قومية مسيحية.

تحميل المزيد