جميل حسن.. مهندس الموت في سوريا

عربي بوست
تم النشر: 2025/01/04 الساعة 14:50 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/01/04 الساعة 15:04 بتوقيت غرينتش
صورة تعبيرية - عربي بوست

في أعوام الحرب السورية القاسية، برز اسم اللواء جميل حسن كرمز للقمع والتسلط الذي تجاوز كل الحدود. شغل منصب مدير إدارة المخابرات الجوية، الجهاز الأمني الذي تحول إلى أداة قمعية لا تعرف الرحمة، أمعن في سحق الأرواح وإخماد أصوات المعارضين. كان جميل حسن العقل المدبر لآلة الرعب، يديرها ببرود، تاركاً خلفه آثاراً غائرة في ذاكرة شعبه وألماً لا يزول.

صار اسمه يقطر دماً في كل زاوية من سوريا، فبالكاد ترى إنساناً سورياً لا يعرف هذا الاسم، نتيجة سمعته التي تفاقمت بسبب جرائمه الوحشية بحق المعتقلين. أولئك الذين كان ذنبهم الوحيد هو مطالبتهم بالحرية والعيش بكرامة.

بعد سقوط النظام، لم يعد اللواء جميل حسن، الذي كان لعقود رمزاً للقمع والاستبداد، سوى مجرم فارٍّ مطلوب للعدالة الدولية. صدرت بحقه مذكرة توقيف من الإنتربول، إلى جانب إدانات شملت حكماً غيابياً بالسجن المؤبد أصدرته محكمة فرنسية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، شملت التعذيب الممنهج وقتل الآلاف. ورغم هذه الملاحقات الدولية، يبقى مكان جميل حسن مجهولاً.

فمن هو جميل حسن، الذي سطر بيده في ظل نظام الأسد أحد أحلك الفصول في تاريخ سوريا الحديث؟

الولادة والصعود في نظام الأسد

ولد جميل حسن عام 1952 في بلدة القرنية بريف حمص، لأسرة تنتمي إلى الطائفة العلوية. جاء انخراطه المبكر في الجيش متزامنًا مع وصول الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة عبر انقلاب عسكري عام 1971، وهو الحدث الذي أعاد تشكيل بنية الجيش وفق اعتبارات طائفية ولاءات شخصية. التحق جميل حسن بـالكلية الحربية عام 1972، حيث اختص في الدفاع الجوي. ومنذ ذلك الحين، بدأ يرتقي في الرتب العسكرية حتى وصل إلى رتبة لواء عام 2009.

في يوليو/تموز من العام نفسه، عُيّن مديرًا لإدارة المخابرات الجوية، خلفًا للواء عبد الفتاح قدسية. لم يكن هذا التعيين مجرد ترقية؛ فقد جاء ليضع بين يدي حسن أحد أخطر الأجهزة الأمنية وأكثرها قمعًا، وهو الجهاز الذي استخدمه لاحقًا لإحكام السيطرة على البلاد وإخماد أصوات المعارضة. قبل هذا المنصب، شغل حسن مناصب حساسة أخرى، من بينها معاون مدير إدارة المخابرات الجوية ورئيس فرع المخابرات الجوية في المنطقة الشرقية بدير الزور.

عقلية القمع وأفكار الدم

لم يكن جميل حسن مجرد مسؤول أمني بارز، بل كان أحد أقرب المستشارين إلى بشار الأسد، وشخصية جسّدت النهج القمعي للنظام السوري بكل تفاصيله. تميزت تصريحاته بالسفور الصادم، عكست فلسفة دموية ترى في العنف الحل الوحيد لإخماد أي معارضة.

جميل حسن.. مهندس الموت  في سوريا
القادة السابقون في نظام الأسد المخلوع: سهيل الحسن، وماهر الأسد، وبشار الأسد، وجميل الحسن، وعلي مملوك – عربي بوست

في مقال نشرته صحيفة لوموند الفرنسية، وصف الكاتب بينجامين بارت جميل حسن بأنه لعب "دوراً وحشياً بارزاً" في الممارسات القمعية الدامية أثناء الثورة السورية. وخلال الأشهر الأولى من الاحتجاجات، أظهر عملاء المخابرات الجوية، الجهاز الذي ترأسه حسن، "تعطشاً كبيراً لإراقة الدماء، وإقبالاً على إطلاق النار على المتظاهرين السلميين، وملاحقة رموز الثورة"، وفقاً لبارت.

عرف جميل حسن بتصريحاته التي لا تقيم وزناً لحياة البشر، بل تتفاخر بوحشية النظام الذي يخدمه. في مقابلة مع وكالة سبوتنيك الروسية عام 2016، اعتبر أن رد النظام على احتجاجات عام 2011 لم يكن كافياً، داعياً إلى استخدام أساليب مشابهة لتلك التي استُخدمت في مجزرة حماة عام 1982، حين قتل النظام عشرات الآلاف من المدنيين خلال أيام.

وقال في حديثه: "لو لم تحسم الدولة الصينية فوضى الطلاب في تيانانمن لضاعت الصين وضيعها الغرب"، في إشارة إلى قمع الطلاب الصينيين عام 1989.

لكن أكثر تصريحاته إثارة للرعب كان خلال مكالمة مسرّبة مع بشار الأسد في عام 2012، كشف فيها عن استعداده للمضي إلى أبعد مدى من أجل إخماد الثورة. قال حسن للأسد: "اسمح لي بقتل مليون محتج حتى نضع حداً لهذه الثورة، وسأذهب إلى محكمة لاهاي نيابة عنك". هذه الكلمات لم تكن مجرد تهديد؛ بل كانت إعلاناً صريحاً عن فلسفة نظام مستعد لإبادة شعبه في سبيل البقاء في السلطة.

البراميل المتفجرة: فكرة الموت الجماعي

وتُنسب إلى جميل حسن فكرة استخدام البراميل المتفجرة كأسلوب قمع عشوائي. فوفقاً لتقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أصدر تعليمات بإنشاء معامل للبراميل المحملة بغاز الكلور ضمن المطارات العسكرية، واستخدام تلك المطارات لشنِّ هجمات بالأسلحة الكيميائية.

وأشار محلل لبناني موالٍ للنظام، ميخائيل عوض، في مقابلة تلفزيونية، إلى أن البراميل المتفجرة كانت "أكثر فعالية من الصواريخ المجنحة وأقل كلفة"، مؤكداً أن جميل حسن كان العقل المدبر وراء هذا السلاح العشوائي.

فعلى مدار سنوات الحرب السورية، أصبحت البراميل المتفجرة رمزاً للموت العشوائي الذي طغى على المشهد، متجسدة في أصوات انفجاراتها وأشلاء ضحاياها. هذه الأسلحة البدائية القاتلة، المحشوة بمواد متفجرة بدائية مخلوطة بقطع حديدية ومسامير، كانت تتميز ببساطة تصنيعها وانخفاض تكلفتها. ومع ذلك، لم تكن فعاليتها التدميرية أقل شراسة، إذ تعادل قدرة البرميل الواحد قرابة سبع قذائف هاون، ما يجعله أداة رعب فعالة عند إسقاطه على الأحياء السكنية المكتظة.

وفقاً لتقديرات خبراء عسكريين، يتراوح وزن البرميل الواحد بين 150 و600 كيلوغرام، ليحوّل المنطقة المستهدفة إلى مساحات من الدمار والخراب، دون أي تمييز بين المدنيين والعسكريين. هذه البراميل، التي تُلقى بشكل عشوائي من الطائرات المروحية، صُممت خصيصاً لإحداث أكبر قدر من الإصابات والخسائر البشرية.

وفقاً لتقرير صادر عن الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أسقط النظام السوري أكثر من 82 ألف برميل متفجر خلال تسع سنوات، منذ أول استخدام لها في يوليو/تموز 2012 وحتى أبريل/نيسان 2021.

إدارة الموت داخل المعتقلات


لم يقتصر إرث جميل حسن على البراميل المتفجرة؛ بل امتد إلى إدارة منظومة من التعذيب الممنهج داخل معتقلات المخابرات الجوية. وفقاً لشهادات موثقة، كان المعتقلون يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب، بما في ذلك الاغتصاب، التجويع، والضرب حتى الموت. وقد أكدت صور "قيصر"، المصور العسكري الذي فر من سوريا في 2013، حجم هذه الفظائع، حيث وثّق 55 ألف صورة لجثث معتقلين تعرضوا للتعذيب الوحشي.

ومع ظهور الأدلة القانونية، باتت تلاحقه القضايا على المستوى الدولي، فأصدرت محاكم في فرنسا وألمانيا مذكرات توقيف وأحكاماً بالسجن مدى الحياة بحق جميل حسن بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مستندة إلى تحقيقات تضمنت شهادات الناجين وأدلة "قيصر"، ما جعل حسن رمزاً دولياً للإجرام في سوريا.

رغم ولاء اللواء جميل حسن المطلق للنظام السوري ودوره المحوري في محاولة قمع الثورة السورية، لم تنجح خدماته في الحفاظ على موقعه داخل دائرة السلطة. في عام 2019، أصدر الرئيس بشار الأسد قراراً بعزله من منصب مدير إدارة المخابرات الجوية، وتعيين اللواء غسان إسماعيل خلفاً له. خطوة أثارت تساؤلات واسعة حول كواليس هذه الإقالة، خاصة مع ورود تقارير حينها أشارت إلى ضغوط دولية وتنافس داخلي بين حلفاء النظام.

جميل حسن
جميل حسن – وسائل التواصل الاجتماعي

لم يكن جميل حسن مجرد منفذ للأوامر، بل كان عقلية هندست مساراً وحشياً من القمع. أفكاره وتصريحاته كانت مرآة لنظام لا يرى في معارضيه سوى أهداف قابلة للإبادة، مهما كانت التكلفة. وبين تصريحاته المثيرة للرعب وأفعاله الدموية، يظل اسمه مرادفاً للقمع الذي دفع سوريا إلى واحد من أحلك فصولها.وبعد سقوط النظام، أفادت ثلاثة مصادر قضائية لبنانية بأن بيروت تلقت برقية رسمية من الإنتربول، تدعو السلطات اللبنانية إلى القبض على جميل حسن في حال وجوده على الأراضي اللبنانية أو دخوله إليها، وتسليمه إلى الولايات المتحدة. ورغم هذه البرقية الدولية، لا يزال مكان جميل حسن مجهولاً، مما يترك تساؤلات حول مصيره وما إذا كان سيتم تقديمه للعدالة يوماً ما.

تحميل المزيد