في الأفلام، تُكتب السيناريوهات بعناية، يرسم فيها الكاتب شخصية البطل كفارسٍ يعرف جيداً معاركه ومبادئه، وكشاعرٍ ماهرٍ يُنقِّح كلماته بعناية ويعكف على تزيين استعارته وصقلها ببلاغة ليمنحها ألقاً لا يُنسى في قلب المشاهدين. لكن في الواقع، حيث لا وجود للمؤثرات البصرية ولا فرص لإعادة المشهد، يظهر الأبطال الحقيقيون في صراع مع الزمن والموت.
في غزة، وسط مدينةٍ مُحيت معالمها، كأنما قامت فيها قيامة العالم، وقف الطبيب حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان، شامخاً وكأنه آخر الفرسان، لكن دون سيف أو جواد، أو شخصية من نسج الخيال، بل رجل عادي من لحم ودم، لم تصنعه عدسات هوليوود؛ يُدرك تماماً معنى الهشاشة والقوة في آنٍ معاً.
وبمعطفه فقط، حُرَّاً من شهوة الاسم والمنصب والسبق، وقف في مواجهة أعتى آلات الموت الحديثة، يرفض أن يتنحى عن واجبه الإنساني، كأبٍ وزوجٍ وطبيب، اختار أن يمضي إلى آخر الخط وسط الهلاك، متشبثاً بإيمانه، رافضاً التخلي عن مرضاه حتى لو أن فرص الموت تفوق فرص الحياة.
فمن هو حسام أبو صفية، ذلك الرجل الذي رفض أن يتخلى عن إنسانيته في أكثر اللحظات قسوة؟
الطبيب حسام أبو صفية.. ميلاد من النكبة
- ولد حسام إدريس أبو صفية في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، في مخيم جباليا للاجئين شمال قطاع غزة المحاصر. كان يحمل في دمه ذاكرة وطن مُهجَّر، إذ تعود أصول عائلته إلى بلدة حمامة، التي أُجبروا على مغادرتها عام 1948.
- كبر أبو صفية بين أزقة المخيم، متشبثاً بحلم النهوض من تحت رماد النكبة، وسلك طريق العلم، متسلحاً بإرادة قادرة على مواجهة أعتى التحديات.
- نال حسام درجة الماجستير وشهادة البورد الفلسطيني في طب الأطفال وحديثي الولادة، وشغل منصب مدير مستشفى كمال عدوان. وخلال حرب الإبادة الحالية، وجد نفسه يتجاوز تخصصه ليساعد في إجراء العمليات الجراحية للمصابين، نظراً للنقص الحاد في عدد الجراحين.
طبيب رفض الاستسلام
في أكتوبر/تشرين الأول 2024، فرض جيش الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانقاً على شمال قطاع غزة، محولاً المنطقة إلى جحيم مستمر. وسط هذا الخراب، كان مستشفى كمال عدوان يعمل بأدنى الإمكانيات، وتحول إلى ملاذ أخير للجرحى والمصابين.
لا يوجد أسوء من هذا العصر الذي نعيشه أي قانون يسمح بإعتقال مدير مستشفى وإعتقال الكواد الطبية
— عبود بطاح🇵🇸 (@abod_bt) December 28, 2024
هل علاج المرضى أصبح جريمة؟ pic.twitter.com/8FwfwZafTl
فرغم القصف العنيف الذي لم يهدأ والموت الذي يسكن كل زاوية، رفض حسام أبو صفية مغادرة المستشفى، متشبثاً بمكانه كطبيبٍ وإنسان. وتقول زوجته "ألبينا"، التي تعرفت عليه أثناء دراسته الطب في بلدها كازاخستان، إنه لم يكن يهمه أي شيء يحدث خارج أسوار المستشفى. كان كل جهده وتركيزه منذ بداية الحرب منصباً على مساعدة الجرحى والمرضى وإنقاذ حياتهم. وقالت بلسان عربي مبين عبر إذاعة BBC: "لم أفارقه منذ بداية الحرب، وهو لم يفارق مستشفى كمال عدوان، حيث تمسك بوجوده فيه حرصاً منه على صالح الجرحى والمرضى.. أبو صفية قدم كل ما في وسعه لإنقاذ حياة المصابين رغم انعدام الإمكانات الطبية اللازمة لذلك. رأيت بنفسي مصابين تقطعت بعض أطرافهم لأشلاء، ولعدم وجود عددٍ وافرٍ من أطباء الجراحة."
وكأنه كان يرى أن رحيله لن يكون مجرد خطوة للخلاص، بل حكماً بالإعدام على أولئك المصابين الذين لجأوا إليه كملاذهم الأخير. يومياً، كان يرتدي معطفه الأبيض، لا ليطمئن به مرضاه فقط، بل كرمزٍ للمقاومة الإنسانية، وكأنه يتحدى به دبابات الاحتلال وآلاته الجهنمية بلملمة جراح أبناء شعبه الذين بدا وكأن العالم قد تخلى عنهم.
فحصار الشمال، الذي خنق كل حياة، عرقل عمل المستشفيات في المناطق المحاصرة، ومنها مستشفى كمال عدوان. لكن رغم ذلك، ووسط نقصٍ حادٍ في الأدوية والمعدات، واصل حسام، ومعه طبيبٌ وحيد وعددٌ قليل من الممرضين، واجبهم الإنساني. ورفضوا كل أوامر قوات الاحتلال المتكررة بإخلاء المستشفى ومغادرة المدينة. استمروا في البقاء، رغم أن الدمار كان يحاصرهم من كل جهة، وكأن وجودهم الأخير هناك هو الشريان الوحيد الذي ينبض بالحياة وسط هذا الموت الجماعي.
مع اشتداد الإبادة الإسرائيلية، دفع أبو صفية ثمناً شخصياً باهظاً. ففي يوم 26 أكتوبر/تشرين الأول 2024، بينما كان حسام يتنقل بين المصابين في المستشفى، وصلته أخبار استشهاد ابنه، إبراهيم، في غارة جوية. ورغم الحزن الذي اعتصر قلبه، أصرّ على أداء صلاة الجنازة على ابنه وسط زملائه في المستشفى، محاولاً أن يخفف من وجعه ليبقى على جسده واقفاً ليسعفه في مهمته، بينما استمرت أصوات القصف والانفجارات تمزق حتى صمت حزنه.
ولم تكن زوجته أقل قوةً منه، فبرغم أنها وأبناءها يحملون جنسية أجنبية، رفضت مغادرة غزة أو ترك زوجها وشعبه وحيداً في مواجهة المصير المجهول. إذ قالت: "لم أفارقه منذ بداية الحرب، وهو لم يفارق مستشفى كمال عدوان، حيث أصرّ على البقاء حرصاً منه على إنقاذ الجرحى ورعاية المرضى، فظللنا بداخل المستشفى معاً."
وبعد استشهاد ابنه بشهر، في 24 نوفمبر/تشرين الثاني، تعرض حسام لإصابة بالغة نتيجة قصف استهدف المستشفى، لكنه رفض مغادرة مكانه. ورغم حاجته للعلاج والرعاية الطبية، أصرّ على التنقل بين المصابين، مطمئناً على أوضاعهم، ومستمرّاً في أداء واجبه.
غزة كلها بدها إياه
لم يتوقف أبو صفية، مدير المستشفى، عن إطلاق نداءاته للعالم لإنقاذ مستشفى كمال عدوان من المصير المروع الذي يترصده كل يوم بالصواريخ والرصاص. وسط كل هذا الدمار، توحش الاحتلال أكثر، وقتل العديد من الضحايا، أطباء ومرضى وأطفالاً، داخل المستشفى وعلى أبوابها. كان المشهد أقرب إلى كابوس؛ رماد وركام، وأرواح تتلاشى في صمت.
ففي 23 ديسمبر/كانون الأول 2024، نشر أبو صفية عبر حسابه على "فيسبوك" مقطع فيديو وثّق فيه لحظة مخيفة. ظهرت آلية إسرائيلية تضع صندوقاً خشبياً مكتوباً عليه "خطر" بالإنجليزية، مع رسم علامة تحذيرية على أحد جوانبه، أمام بوابة المستشفى. كان الصندوق يحتوي على متفجرات، بحسب ما أظهر الفيديو. وأرفق أبو صفية الفيديو بمنشور قال فيه: "آليات الاحتلال تضع صناديق متفجرات على بوابات مستشفى كمال عدوان."
وفي 27 ديسمبر/كانون الأول 2024، شنت قوات الاحتلال هجوماً أخيراً على المستشفى المحاصر. اقتحمت المكان، وألقت القبض على أبو صفية الذي بقي شامخاً حتى اللحظة الأخيرة.
اتهمت وزارة الصحة الفلسطينية الاحتلال بخداع الطاقم الطبي في مستشفى كمال عدوان، حيث أُجبر أفراد الطاقم على المغادرة بحجة نقلهم إلى المستشفى الإندونيسي، ليتم اعتقالهم لاحقاً. ومن بينهم الدكتور حسام أبو صفية، الذي تعرض للتعذيب واتُّخذ درعاً بشرياً، وفق إفادات المفرج عنهم.
ووجه إدريس، نجل الطبيب حسام أبو صفية، نداء استغاثة يطالب فيه بالإفراج عن والده المعتقل لدى قوات الاحتلال الإسرائيلي. فخلال كلمة مصورة، تحدث إدريس عن خوفه على مصير والده، وكيف واجه مصاعب كبيرة خلال العدوان، منها فقدان ابنه إبراهيم، وإصابته إصابة بالغة لا تزال آثارها مستمرة، ورغم ذلك استمر في عمله الإنساني بكل تفانٍ.
وفي حديثها لـBBC، أكدت زوجته أن الاحتلال أوهم النساء بأن الرجال سيلحقون بهن، لكنهم اقتيدوا للتحقيق. وظل أبو صفية وعشرة آخرون رهن الاحتجاز منذ ذلك الحين، دون أي معلومات عن مصيرهم. وعندما سُئلت عن رسالة لزوجها، تأثرت ألبينا، وقالت بصوت يملؤه الشوق والألم: "غزة كلها بدها ياه.. غزة كلها بدها ياه، الطاقم الطبي كله في انتظاره."
د. حسام أبو صفية .. كم كنت وحدك.. pic.twitter.com/ymFErdJyjV
— Mahmoud Abbas (@Mahmoud3bbas) December 28, 2024
وكانت آخر صورة ظهر فيها أشبه بمشهد نُزع من فيلمٍ، لكن قسوة الواقع في غزة تجاوزت خيال الأفلام بكثير. فظهر حسام أبو صفية يسير وحيداً بين أنقاض مدينته التي تنهار أمامه، تحت وطأة القصف والتدمير. فبعد أن تأكد من إخلاء مرضاه، مشى بخطى ثابتة نحو فوهة الدبابة لا يملك سوى معطفه الطبي الذي التف حوله الغبار.