ليست المرة الأولى.. لقد كنت في انفجار بيروت الذي وقع قبل 14 عاماً

عدد القراءات
1,226
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/09 الساعة 11:25 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/10 الساعة 08:52 بتوقيت غرينتش
صورة للصحفي طاهر حليسي أثناء تغطيته لحرب تموز في بيروت

الجحيم ليس "الآخرين" يا سارتر بل "نحن" يا مارسيل غانم

قبل 3 آلاف سنة صدّر اللبنانيون الأنوار والأبجدية للعالم عبر مرافئ صيدا وصور وجبيل، ثم كان يوم "الثلاثاء الأسود" فاستورد اللبنانيون الموت والدمار من أمونياك الموزمبيق عبر مرفأ بيروت، لبنان هو بلد المفارقات المهولة باقتدار. 

لم تفعل الأيادي الخارجية ذلك، بل تركت المهمة النبيلة لأيادي الفساد الداخلي، وعباقرة الشر، ليصنعوا خراباً في وجه بيروت المشرع نحو البحر، إذ إن مشاهد رعب الثلاثاء الهوليوودي تكاد تكون طبق الأصل لمشاهد فرونسيس فورد كوبولا في فيلمه الشهير "الأبوكاليبس ناو"، لا، بل إنها تتجاوز في بشاعتها كل ما عرفته عاصمة الحياة طيلة قصف وعنف ودمار عدوان تموز (يوليو) على مدار 33 يوماً.

أثناء تغطيتي الصحفية لحرب تموز في لبنان قبل 14 عاماً

أذكر أن الطريق المحفوفة بالموت التي سلكتها من دمشق باتجاه بيروت، في ذلك الصيف الساخن، تسلُّلاً عبر معبر العبودية في سيارة ظلت تتحرك كتابوت متنقل بين الحفر المحترقة والأحراش الداكنة، كانت الطريق الطويلة تشبه نفقاً مفتوحاً على الهواء الطلق، ففيما طائرات التجسس واسمها "أمكا" تمسح الأرض من الجو مصدرة أزيزها المزعج، كانت الألسن تلهج بأدعية متنوعة، ما بين الله ومحمد، ويسوع والعذراء، والحسين وعلي، إذ بدا أن تلك السيارة المرسيدس كانت تقل قوس قزح من العقائد والأطياف، باتت تدعو رباً واحداً للنجاة من محارق إسرائيل.

ذلك التنوع الخلّاق بدا فاقداً للبريق على طريق جبيل وعند مشارف بيروت، حيث كان نفر من الناس يتشمسون مستمتعين بالسباحة وبلون الشمس، ذات المشاهد تزاحمت على كورنيش الروشة، حيث كان العشاق والمتنزهون يمارسون طقوس الحياة غير مكترثين بالقنابل التي كانت تحصد أرواحاً ودوراً، ومساكن الضاحية الجنوبية، ولولا صافرات الإنذار وقت دك حي المشرفية، غير بعيد عن السفارة الكويتية، لخِلت أنك في شواطئ الساحل الأزرق و"موناكو"، وإنه لأمر مفارق حقاً، يعكس تركيبة اجتماعية غير متجانسة في الرؤى والأهداف، ظلت لربما البطن الرخو في خاصرة هذا البلد الصغير والمتحدي لنفسه وللآخرين، أما سياسياً فالتفسير كان "ضمانات سرية حصل عليها الحريري من جاك شيراك، بأن "لا استهداف، لا ضرب داخل المنطقة الخضراء من الداون تاون حتى جبيل وطرابلس شمالاً"، بدا كما لو أن الحرب كانت معاقبة للسيد العاق، وانتقائية ضد طائفة الشيعة دون باقي الطوائف المتزاحمة فوق تلك الرقعة الجغرافية الصغيرة التي تشبه علبة السردين.

بيروت أثناء حرب تموز

لكن تلك الصورة ليست نهائية، فقد رأيت جمعيات سنية ناشطة في جمع المؤن والدواء والمأوى للشيعة المهجرين من حارة حريك والكرنتينا، حيث كان حسن نصر الله يملك بيتاص غير بعيد عن المسكن القديم للعماد ميشال عون، وسينشأ بين الرجلين جوار سياسي في مذكرة تفاهم بين الحزب الشيعي والتيار "المسيحي" الحر، ناهيك عن ائتلافات أخرى تحت بند المقاومة بين التيارات القومية واليسارية وأبرزها حركة الشعب، إذ لولا تلك التفاهمات التي خففت العبء عن الضاحية الجنوبية المنكوبة والمنهكة لكان مآل الحزب في حربه تلك مجهولاً وبلا سند، جبهة داخلية ظلت ولا تزال مفككة بفعل وباء مقيت اسمه "الطائفية"، وهو وباء مزمن من الصعب الشفاء منه، لأنه مرض بنيوي مؤسس لبلد كان ولا يزال يدفع الثمن الباهظ لأحلامه القاتلة حين لا تجري بما تشتهيه رياح الولاءات المتفرقة بين القوى الإقليمية والحروب بالوكالة.

 رغم بثور الحرب وخرابها اللعين البارز للعيان كلما توغلت في أحياء الضاحية الجنوبية بعيداً عن "رأس بيروت"، موطن العائلات السنية والمسيحية المتوسطة والثرية، يخالجك الإحساس بوجود جبهة تضامن وطني إزاء عدو خارجي متغطرس جواً، فبين ركام حارة حريك المسواة بالأرض تماماً، تشاهد مئات العمارات وقد حولتها القنابل الفراغية لما يشبه علب الكرتون المتناثرة، ولتقطع ما بين شارع وآخر، بالأحرى ما كان شارعاً سابقاً وآخر سابقاً، عليك أن تصعد فوق أكوام من التراب والحجر والأسياخ المفرومة، بعضها هياكل سيارات "مكلسنة" ومتفحمة، لتطل على هوّات تشبه فوهات براكين عظيمة هي الأثر المباشر للقنابل الطِّنِّية التي تهاطلت من السماء، فيقول لك أحدهم ساخراً "حذارِ أن تسقط فأنت تضع قدميك فوق الطابق العاشر"، وفعلاً فإن تلك الطوابق صارت في الواقع مثل "مرطبة ميلفاي" ذات الأوراق المتلاصقة، والسبب أن تلك القنابل الفراغية ذات أثر ساحق ومدمر، فهي تشفط الأكسجين حال اختراقها الكتل الصلبة للعمارات، فتتهاوى البنايات الشاهقة مثل العهن المنفوش، ومن لا يدفع حياته بين ثنايا "مدينة الأنقاض" يعثر عليه أزرق الجثة لامتصاص الأوكسجين. رغم تلك الصور المروّعة التي تذكّرك رغماً عنك بحادثة مرفأ لبنان أو "بيروشيما"، فأنت لن تعدم العثور على شيخ طاعن في السن، مطلاً بين الحفر برأسه المغبر والأشعث، حاملاً قطعة خبز فيجيبك متحدياً "لن أغادر قبوي المهدم وإن صار قبراً، سأقاوم القصف بالموت".

في شارع الحمرا وجسر الكولا تستمر حياة شعب مفعم بالحياة على ضفاف المقبرة، لذا ستغدو النكات الشعبية سلاحاً لمقاومة صواريخ الطائرات القادمة من الجو والبوارج الإسرائيلية من البحر، وما يزعج ليس القصف في حد ذاته، بل العجز عن ردّه، لذا يبدو موقف شيخ الحفرة صحيحاً "مواجهة القصف بالموت ليس إلا"، جرى الحديث عن تحذيرات إسرائيلية نقلها الكي دورسي الفرنسي للسراي الحكومي اللبناني، بالأحرى نقلها الضامن الأبدي جاك شيراك لفؤاد السنيورة "إذا تحصل حزب الله على سلاح مضاد للطائرات من سوريا فإن إسرائيل ستقصف وسط بيروت، وتحديداً "حديقة الصنائع" التي تحولت لمخيم للاجئين من الضاحية نحو وسط بيروت". لم تصبح الحرب شاملة جرّاء تلك التداعيات الخطيرة، أما الشعب فأطلق جبهة نكات ساخرة كشكل من أشكال المقاومة في حرب غير متكافئة شبيهة بمعركة الصغير "داوود" ضد الخرتيت "جالوت"، وتلك النكات من قبيل "صارت شقق الضاحية أغلى من حي الأشرفية المسيحي، لأنها بواجهة مطلة على البحر"، ما يعني أن أحياء فاصلة مُسحت مسحاً من الأرض، كانت تلطِّف أجواء قهر الحروب، أما أخرى على غرار "حسن نصر الله مهدداً دان حالوتس: إذا خطفتم هيفا -هيفاء وهبي- سنقصف حيفا" فكانت تثير القهقهة لدى جلّاس وسمراوات مقاهي الشيشة قرب الروشة.

الدمار الذي خلفته الحرب آنذاك بعدستي

لمرفأ بيروت، الذي وَقَتْهُ حرب تموز (يوليو) شرورها، مكانة خاصة في لبنان، ففيه تُكدّس السلع القادمة بحراً، سواء لإعاشة الناس أو للتجارة، فالبلد هو أحد أهم بلدان اقتصاد الترانزايت بالشرق الأوسط وأسواق البنوك، وكان وقتها مخزناً، وقفت فيه غير بعيد عن "البيال" لاستقبال 64 طناً من المساعدات الجزائرية التي جاء بها وزير التضامن الوطني جمال ولد عباس على عجل، تآزراً مع الوطن الجريح، وفي الواقع اشترطت إسرائيل شرطاً لتسيير الشحنات من سوريا إلى بيروت في شاحنات منزوعة الأغطية، لتتم مراقبتها جواً بطائرات أمريكا وأقمار صناعية، والتأكد "الحراري" من خلوها من السلاح، وجرى الأمر كذلك على الأرض، إذ لمحت على يسار البحر طائرة عمودية إسرائيلية ظلت تراقب الأوضاع عن بعد، فيما كان الجيش اللبناني مكلفاً بتأمين تلك المساعدات حتى لا تتحول لسلعة في يد "مافيات الميناء"، رئة الاقتصاد الملوثة، في بلد لَطالما وصفه مناهضو الطائفية من الشبان، ومعارضو هذا النهج المقيت بأنه "مزرعة" لأمراء الحرب والعائلات الإقطاعية والقبائل السياسية، وديناصورات تأبى الشيخوخة، لقد ظلت أسماء "جنبلاط" و"بري" و"الحريري" قائمة في قلب المشهد السياسي اللبناني منذ أواسط القرن الماضي ولا تزال، في تعارُض مطلق مع الوجه الضاوي لأكثر بلدان المنطقة ديمقراطية، لكنها ديمقراطية ملوثة بطقوس جاهلية بدائية لا تعكس بالمطلق حيوية بلد أنتج الطباعة ودور الكتب ورموز الفن وأيقونات الإعلام، وحتما ستُدرك أن معضلة لبنان ليست في شعبه، بل نكبته في نظامه السياسي الطائفي، الذي فرَّخ آليات طبيعية مع الفساد، إذ إن بعضاً من مساعدات قدّمتها دول "مجاناً" بيعت بعد ذلك بأيام في الدكاكين والمتاجر، والسبب أن متنفذين منتفعين متاجرين في الأزمات يحولونها لشبكات الولاء، تقوية لشوكة الزبائن والأتباع؛ لذا لَطالما قيل لي هناك "من يتحكم في مرفأ بيروت يتحكم في منشأ المال ومصير البلد".

شرّد ذلك النظام الطائفي ملايين اللبنانيين، "فينيقيو العصر الحديث"، عبر الدول والأقطار، فعدد سكان المهجر يفوق خمسة أضعاف عدد المقيمين، ففي وقت من الأوقات كان عددهم 12 مليون مغترب مقابل 3 ملايين مقيم، لكن عائداتهم المالية الوفيرة بالمنافي تعود للبلد وفاء للأرض، غير أن هناك هجرة أخرى تعكس فداحة الطائفية على صعيد العواطف الإنسانية والاجتماعية، إذ لا زواج مدنياً، بل دينياً بحتاً، تتحكم فيه الكنيسة والقضاة الشرعيون للطوائف السنية والشيعية، بهدف واضح، هو محافظة كل فريق على عدده الفارق في الانتخابات. أردفت المناضلة السياسية أزهار إسماعيل، من حركة الشعب، للشيخ نجاح وكيم: "ينظرون إلينا كأصوات انتخابية لا بشر ومواطنين، للبنان وجهان مختلفان تماماً، ربما وجهه المشرق هو بلاتوهات القنوات وحياة الليل بشارع مونو وأغاني فيروز والرحباني، لكنَّ وجهاً آخر لا يبرز، هو أن الأمور بُنيت منذ الأزل على ألّا تذوب طائفة في أخرى، لذا يُمنع الزواج المدني، ويمنع على المرأة منح جنسيتها للأبناء، تناضل الحركات النسوية من أجل تحطيم أوثان بدائية في الأحوال الشخصية، في انتظار ذلك يفضل الأزواج من طوائف مختلفة إبرام العقد المدني في جزيرة قبرص، وقضاء بعض ليالي العسل هناك قبل العودة لمعارك مذهبية شرسة، لأن قوانين البلد تحظره، تخيل حتى الحب يدفع الثمن".   

في خضم تلك الحرب دار بيني وبين ميكانيكي متحمس لحزب الله، حديث مثير، بحي عين السلطان المتواضع، الواقع على التَّماسّ مع حي الرملة البيضاء الأرستقراطي، حيث كان مقر إقامتي بفندق البوريفاج، غير بعيد عن السفارة الجزائرية. قال لي حينما علم بمهمتي الإعلامية "لم تقدر إسرائيل على احتلال أشبار وأمتار في أسابيع، وفقدت خلال الهجوم البري الكثير من مركبات الميركافا، إن هي إلا أيام معدودات وتنتهي المبارزة، لكن أترجاك أن تحضر الحرب السابعة لتشهد فناء إسرائيل بأم عينيك".

بعد أربع عشرة سنة من ذكرى حرب تموز (يوليو) لم تقع الحرب السابعة، ولم أشاهد فناء إسرائيل بأم عيني، رأيت ذلك المرفأ يتطاير في الهواء محملاً بجثث رجال الإطفاء، عاينت فناء نصف بيروت في وضح النهار، ورمزية خراب معنوي كبير فاقت خسائره ثلاثة وثلاثين يوماً من الحرب، والسبب أن عبثية النظام الطائفي المحاصص التهمت دولة باتت متهمة بتنفيذ أكبر عملية انتحارية في حق "رعاياها"، فمن هي العصابة التي تقبل بتخزين ترسانة كيميائية في رئة اقتصادها؟!

ليس شرطاً أن يكون الجحيم هو الآخر، كما يقول سارتر، بل "نحن" كما أطلق الصحفي اللبناني مارسيل غانم صرخته الغاضبة في وجه ورثة نيرون في قلب بيروت.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

طاهر حليسي
كاتب صحفي جزائري
طاهر حليسي، كاتب صحفي، يعمل حالياً مديراً لمكتب "الشروق" الجزائرية في مدينة باتنة،التحق بالصحيفة عام 2000، بعد تجربة إعلامية كمحرر مزدوج اللغة (عربي فرنسي) بجريدة الجمهور الأوراسي، ثم صحفي كاتب مقالات رأي وتحاليل ومترجم بأسبوعية "الأطلس". عمل رئيس تحرير بعدة صحف أسبوعية منها "الراية" و"الوئام".
تحميل المزيد