خسارة 15 ألف كيلومتر من المنطقة الاقتصادية.. هل يكرر النظام المصري كارثة تيران وصنافير؟

عدد القراءات
15,162
عربي بوست
تم النشر: 2020/06/23 الساعة 16:05 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/07 الساعة 11:47 بتوقيت غرينتش
ماذا يعني ترسيم مصر لحدودها البحرية مع اليونان؟

ماذا لو رسمت مصر حدودها البحرية مع اليونان بالطريقة التي طرحها الجانب اليوناني؟

ذلك السؤال لا يأتي من فراغ، ولم يولد بسبب الأحداث والأوضاع المتفاقمة في ليبيا أو بسبب التوتر السياسي القائم بين مصر وتركيا. فبتوقيع اليونان وإيطاليا اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بينهما بداية شهر يونيو/حزيران الجاري، ومع وصول وزير الخارجية اليوناني إلى القاهرة يوم الـ18 من شهر يونيو الماضي، وعقد لقاءات مع عبدالفتاح السيسي ووزير الخارجية المصري سامح شكري تدور بالأساس حول ترسيم الحدود البحرية وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة بين الجانبين، واصطحاب الوزير اليوناني فريقاً تقنياً معنياً بترسيم الحدود البحرية ودخول المناقشات والمفاوضات بين الجانبين إطار الجدية والاقتراب من توقيع اتفاقية، يصبح السؤال الذي طرحناه سؤال الوقت الذي يجب أن نجيب عنه إجابة تراعي وتحفظ المصالح المصرية.
سأعتمد في الإجابة عن السؤال المطروح على الخريطة المرفقة أدناه.

ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط

ترسيم الحدود البحرية أو تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة (EEZ) يتم من خلال معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 (LOS Convention).  ويسمح القانون للدول صاحبة المناطق الاقتصادية الخالصة بالتنقيب والأنشطة الاستكشافية على النفط والغاز على امتداد 200 ميل طولي من سواحلها، ويفرض عليها في نفس الوقت توفير سلامة الملاحة البحرية.

ربما يعتبر تطبيق مثل هذا القانون أمراً سهلاً، ولكن في حالة إقليم يعتبر حوضاً مائياً ضيقاً وتملؤه الاضطرابات والتوترات مثل شرق المتوسط، يصبح تنفيذ القانون أمراً صعباً ومعقداً دون التوافق بين الأطراف المشتركة في الحدود البحرية.

لم تنضم عدة دول إلى قانون البحار ومنها الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، والسبب الرئيسي وراء عدم انضمام تركيا للاتفاقية يرجع إلى إقرار قانون البحار بأحقية الجزر في امتلاك مناطق اقتصادية خالصة (بغض النظر عن وضعها الجغرافي أو مساحتها) وهذا يعني بالنسبة لتركيا أن العديد من الجزر الملاصقة للسواحل التركية، ولكن واقعة تحت السيادة اليونانية (انتقلت السيادة من تركيا إلى اليونان بعد نهاية الحرب العالمية الأولى) سوف تؤدي إلى إهدار مساحات كبيرة من المناطق الاقتصادية الخالصة أمام السواحل التركية وفي صالح اليونان.

ومنذ دخول قانون البحار حيز التنفيذ في التسعينيات وعلى مدار ثلاثة عقود لم يتم ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط إلا عبر ثلاث اتفاقيات فقط (مصر وقبرص عام 2003 – لبنان وقبرص عام 2007 – إسرائيل وقبرص 2010).

ما الذي تسعى إليه اليونان؟

بعد توقيع تركيا وليبيا على اتفاقية ترسيم الحدود البحرية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، تسعى اليونان بجدية إلى ترسيم حدودها البحرية مع مصر وإيطاليا من أجل محاصرة الاتفاق التركي الليبي قانونياً، مما يعني امتلاك اليونان لأدوات دبلوماسية تستند إلى قانون الأمم المتحدة في مواجهتها مع تركيا. وبالرغم من الخلاف الطويل بين اليونان وإيطاليا حول ترسيم الحدود البحرية إلا أن اليونان أبرمت اتفاقها مع إيطاليا في بداية شهر يونيو/حزيران وأعقبت ذلك بزيارة إلى مصر للوصول لاتفاق حول الحدود البحرية بين الجانبين.

هل الاتفاقية التركية الليبية تتوافق مع المصالح المصرية؟

وضعت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا خريطة جديدة لشرق المتوسط، والتي كان لها تأثير وانعكاس مباشر يتوافق مع المصالح المصرية من زاويتين:

1- هناك نية جادة لإسرائيل وقبرص واليونان واهتمام من الاتحاد الأوروبي بإنشاء خط غاز East Med في المياه العميقة للبحر المتوسط (الخط الأخضر في الخريطة المرفقة أعلاه) والذي سينقل الغاز من إسرائيل وقبرص إلى اليونان ومنها إلى أوروبا، ليصبح أحد البدائل التي تسعى إليها أوروبا في محاولة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي الذي يسيطر على أكثر من ثلث واردات الغاز لأوروبا. وخلاصة الحديث عن خط East Med أنه إذا دخل حيز التنفيذ سيعني خسارة مصر لدورها المستقبلي كمنصة إقليمية لتصدير الغاز الطبيعي في شرق المتوسط.. ومن هنا نستطيع أن نفهم بسهولة أنه ليس من مصلحة مصر بأي حال من الأحوال إنشاء وإنجاز خط East Med. ويترتب على ذلك أن أي ترسيم حدود بحرية يقطع الطريق على الخط ويعيق إنشاء هذا المشروع يتماشى بشكل مباشر مع المصلحة المصرية ويعضد من آمال مصر في تحقيق حلمها بأن تصبح المنصة الرئيسية في شرق المتوسط لنقل وتصدير الغاز المسال إلى أوروبا.

2- نتيجة الوضع المعقد في شرق المتوسط لم ترسم مصر حدودها البحرية إلا مع قبرص في عام 2003، ولم ترسم مصر حدودها البحرية مع إسرائيل ولم ترسم حدودها كذلك مع اليونان، بالرغم من طلب الأخيرة ترسيم الحدود أكثر من مرة، ولكن رفضت جميع الطلبات في عهد مبارك وسبب الرفض المصري يعود إلى فهم مصر لطبيعة الأزمة بين تركيا واليونان وإدراك مصر أن ترسيم حدودها مع أي من الطرفين يجب أن يكون بعد وصول الطرفين التركي واليوناني لتفاهم حول حدودهما البحرية. ويعود الرفض في نفس الوقت لإهدار الحسابات اليونانية جزءاً كبيراً من المناطق الاقتصادية الخالصة المصرية، وهو ما يعني خسائر لاحتياطات غاز محتملة في تلك المياه يمكن أن تمنح مصر مكاسب اقتصادية هائلة، بالإضافة إلى زيادة الأهمية الجيوسياسية والنفوذ المصري في شرق المتوسط.

ما الذي تخبرنا به خرائط ترسيم الحدود؟ 

نعود مرة أخرى للسؤال الذي طرحناه.. ماذا يعني ترسيم مصر حدودها البحرية مع اليونان بالطريقة التي طرحها الجانب اليوناني؟

سيمثل ترسيم الحدود بين مصر واليونان مزيداً من الحصار القانوني للاتفاقية التركية الليبية، لكن سينعكس ذلك على مصر من ناحية استمرار تهديد خط East Med لتموضع مصر كمنصة إقليمية مع خسارة مساحات ليست بالقليلة من المناطق الاقتصادية الخالصة. إلا أن زاوية أخرى للمشهد يمكن أن توضح لنا حجم الخسارة التي يمكن أن تلحق بمصر إذا قامت بترسيم الحدود مع اليونان وفق رؤية الأخيرة بالنظر إلى الخريطة المرفقة:

• الخطوط الصفراء تمثل حدود EEZ الافتراضية وهي ليست الحدود النهائية لأن أغلب دول شرق المتوسط لم ترسم حدودها البحرية بعد.

• المنطقة المظللة باللون البني الداكن والفاتح تمثل الحدود البحرية بين تركيا وليبيا وفقاً للاتفاقية التي وقعها الطرفان.

• الخط الأحمر يمثل الحدود البحرية المشتركة بين مصر واليونان وفق الرؤية اليونانية.

• الخط الأزرق يمثل الحدود البحرية المشتركة بين مصر وتركيا وفق الرؤية التركية.

• الخط المتداخل باللون الأزرق والأحمر هو خط تشترك فيه الرؤية التركية واليونانية للحدود البحرية مع مصر.

هنا نصل إلى المنطقة المظللة باللون البرتقالي والتي وفقاً لليونان، ليست من حق مصر وتعد ضمن المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان ووفقاً لتركيا هي منطقة تابعة للمياه المصرية.

تمثل المنطقة البرتقالية تقريباً 15 ألف كيلومتر مربع أي أنها تعادل مساحة محافظة الجيزة تقريباً، وتمثل 130 ضعف مساحة جزيرتي تيران وصنافير، ويمكن أن تخسرها مصر إذا ما رسمت مصر حدودها البحرية مع اليونان وفق هوى الأخيرة.

ويمكن لنا بسهولة أن نصل إلى خلاصة: تخسر مصر مساحات مائية هائلة في منطقة واعدة بالثروات يتنازع جميع أطرافها للحصول على أي مساحة مائية مهما كانت صغيرة تمكنهم من التنقيب عن النفط والغاز.

إذا كنا نريد أن نتصور حجم الاستثمارات التي يمكن أن تخسرها مصر فإننا بحاجة إلى النظر للاتفاقات المبدئية التي توصلت إليها مصر مع كبرى شركات النفط والغاز العالمية (Exxon Mobile – Chevron – Shell – BP – Total) في فبراير/شباط الماضي. والمفترض أن تقوم تلك الشركات بالتنقيب والحفر في المياه العميقة أمام السواحل الغربية لمصر والملاصقة للمنطقة البرتقالية، وهي مناطق جديدة لم يسبق لمصر التنقيب فيها عن الغاز أو النفط وهذا يعني أن الاستثمارات التي ستنفقها تلك الشركات للتنقيب والتي يمكن أن ينتج عنها اكتشافات تمتد إلى المنطقة البرتقالية أو ربما يقع أغلبها في المنطقة البرتقالية لن تستطيع مصر أو الشركات العالمية الاستثمار والاستفادة منها؛ لأنها ستكون منطقة يونانية وليست مصرية.

هل يعد عدم ترسيم مصر لحدودها مع اليونان انتهاكاً لقانون البحار؟

يجادل البعض أن عدم ترسيم مصر لحدودها مع اليونان وقبولها للاتفاقية التركية الليبية يعد خرقاً لقانون البحار، وهنا تجب الإشارة إلى نقطتين مهمتين:

خريطة الحدود البحرية المصرية-اليونانية بناء على مصدر دبلوماسي – ekathimerini

1- ترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط لا يستند فقط على قانون البحار، ولكن بالأساس على التفاهمات بين الدول المعنية. وبالتالي فإن ترسيم الحدود البحرية بين تركيا واليونان أمر معقد وله أبعاده السياسية والتاريخية ويحتاج إلى مسار طويل من التفاهمات والمفاوضات بين الجانبين للوصول لتصور مرضٍ للطرفين. وليس مطلوباً من مصر أثناء الخلاف التركي اليوناني أن تتنازل عن مساحات كبيرة (15 ألف كيلومتر مربع) من المناطق الاقتصادية الخالصة لصالح اليونان لمجرد تطبيق قانون البحار الذي هو مسار خلاف في مناطق معقدة كثيرة في العالم (على سبيل المثال بحر الصين الجنوبي).

2- إذا كانت السلطة في مصر حريصة على حقوق اليونان وتطبيق القانون الدولي، فأحرى بها أن تكون حريصة على حقوق مصر وحقوق فلسطين وتطبيق القانون الدولي بإلزام إسرائيل بالانضمام إلى معاهدة قانون البحار وترسيم الحدود البحرية مع مصر ومع السلطة الفلسطينية.

خلل في الأولويات وأزمة متكررة

يبدو أننا، في حال اتمام الاتفاق بصورته الحالية، أمام تيران وصنافير جديدتين وتكرار لخسارة المصالح المصرية في سبيل إرضاء حلفاء النظام المصري. ستخسر مصر هذه المرة مساحات هائلة من المياه ومن دور جيوسياسي تحتاجه في شرق المتوسط؛ والسبب ببساطة أن السلطة لم تستند في يوم من الأيام إلى إرادة شعبية ولكنها تستند وترتكز على تحالفات إقليمية ودولية منحتها الشرعية اللازمة للبقاء على قيد الحياة. وهنا يمكن أن نفهم الخلل الواضح في أولويات النظام المصري والذي يؤدي في كثير من الأحيان للارتباك داخل مؤسسات وأجهزة الدولة في الاختيار بين تحقيق مصالح مباشرة لمصر أو الانحياز إلى مصالح حلفاء النظام المصري. رأينا ذلك الارتباك في حالة جزيرتي تيران وصنافير، وسنراه في شرق المتوسط وسنظل نراه طالما ظلت الأولويات مختلة وظلت السلطة محتلة.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

خالد فؤاد
باحث سياسي
باحث متخصص في شؤون الطاقة والعلاقات الدولية
تحميل المزيد