بعض القصص كاشفة لما هو أبعد من حدود أحداثها، ومن تلك القصص قصة وفاة الصحفي محمد منير متأثراً بمرض كورونا، بعد عشرة أيام فقط من الإفراج عنه. وفاة الرجل تشير بوضوح إلى مدى تفشِّي أزمة كورونا في السجون المصرية، وهو الملف الذي حرصت وزارة الداخلية المصرية على التعتيم عليه.
في 15 من يونيو/حزيران، اعتقل الصحفي المصري محمد منير، على خلفية ظهوره في قناة الجزيرة والحديث عن أزمة الكنيسة وتفشّي فيروس كورونا، قبلها بيومين كان الرجل قد أذاع مقطعاً مصوّراً لكاميرا المراقبة المثبتة على باب منزله باقتحام قوات الأمن لمنزله للقبض عليه.
في 27 من يونيو/حزيران، صدر قرار بتجديد حبسه 15 يوماً على ذمة التحقيقات، لكن فجأة وبعد 5 أيام فقط أُخلي سبيله، ليتوفى بعد ذلك بعشرة أيام في مستشفى العجوزة، وهو مستشفى عزل لمرضى كورونا.
على الفور انتشرت أحاديث من مؤيدي النظام المصري هنا وهناك، تنفي تماماً واقعة وفاة منير بكورونا، وهي المحاولات التي تبدو عبثية على حدّ تعبير الكاتبة الصحفية إكرام يوسف، التي كشفت عن وجود إصابات بكورونا بين أفراد من أسرة محمد منير كانوا مخالطين له.
لماذا تُخفي الدولة وجود حالات كورونا بسجونها؟
بحساب الأيام التي قضاها منير في مقر الاحتجاز، وظهور الأعراض عليه، ومن ثم الإفراج عنه فجأة دون مقدمات يتأكد أنه أصيب داخل محبسه، سامح عبدالله، الباحث القانوني، يقول إن المسجون وديعة في يد السجن، أياً ما كانت جريمته فلا يجوز قانوناً تركه عرضة للفتك به.
وفي حالة الأوبئة مثل كورونا فالمسؤولية تزداد طردياً مع الخطورة، فالحُر قادر على عزل نفسه وارتداء الكمامة لحماية ذاته، أما السجين فغير متوفّر له كل هذه الضمانات، وعليه فالسجن مسؤول تماماً عن حياته، مشيراً إلى أن دولة مثل إيران قرّرت إخلاء سبيل 70 ألف سجين خوفاً على حياتهم من مرض كورونا.
لكن، إذا كان ذلك يحدث في إيران التي كشفت حقيقة انتشار الوباء بها، فإن الدولة المصريه تنتهج العكس تماماً، بل هي حريصة من اليوم الأول على التعتيم على أي صوت يتحدث عن احتمالية انتشار كورونا في السجون المصرية، التي مُنعت الزيارات فيها منذ مطلع أبريل/نيسان الماضي.
أسرة الناشط السياسي علاء عبدالفتاح كانت أحد هؤلاء الذين تم التنكيل بهم، لإصرارهم على تسلم خطاب منه يطمئنهم فيه على حالته الصحية، في ظل أنباء عن انتشار كورونا في سجن طره، لكن الأمن تعنّت بشكل مريب، ورفض تسليمهم ذلك الخطاب، وهو ما دفع والدته الدكتورة ليلى سويف إلى الاعتصام خارج السجن، متمسّكة بحقّها في تسلُّم خطاب يطمئنها فيه ابنها على حالته، لينتهي الأمر بالاعتداء عليهم، ثم القبض على شقيقته سناء سيف، وتوجيه تهمة نشر أخبار كاذبة إليها.
في مكالمة هاتفية مع الصول محمد (اسم مستعار)، ويعمل في سجن أبو زعبل، تحدّث لـ"عربي بوست" عن حقيقة انتشار وباء كورونا في السجون المصرية، قائلاً: "لا توجد زيارات في السجن لدينا، فنحن سجن شديد الحراسة، وأغلب المساجين من العناصر الإرهابية الخطرة، لذلك فالزيارة على أضيق الحدود، وبتصريح من الإدارة العامة بالقاهرة".
ولذلك لا توجد فرصة لدخول الفيروس إلى السجن، يستطرد الصول قائلاً: ومن حوالي ثلاثة أشهر أتت حملة كبيرة من مديرية الصحة بالقليوبية، وأجرت الكشف على المساجين للتأكد من خلوهم من المرض، والحمد لله، لا توجد لدينا حالة واحدة.
وبسؤاله إذا كان سمع عن حالات بسجون أخرى أجاب الصول محمد "لا لم أسمع".
لكن ما يقوله الصول محمد يتناقض تماماً مع أقوال أحد أشقاء المسجونين الجنائيين بسجن استئناف القاهرة، الذي أكد لنا صحة ما يقال عن انتشار الوباء في السجون المصرية، مشيراً إلى أن "الأوضاع خربانة"، على حد تعبيره، مضيفاً أنه تحدّث إلى شقيقه عبر تليفون مهرب داخل السجن، وأخبره بانتشار حالات كورونا لديهم، وأنه تم نقل أحد المساجين للمستشفى الأميري.
في وقت حصل فيه "عربي بوست" على معلومات تفيد بازدياد حالات الإصابات بالكورونا داخل سجن العقرب شديد الحراسة، ما دفع إدارة السجن إلى فصل عنبر كامل W4 بمبنى H4 لعزل المصابين، الأمر الذي وثقته منظمة "نحن نسجل" الحقوقية.
لكنه في ظل التعتيم الشديد، ومنع تواصل المسجونين مع ذويهم، يتعثر على المنظمات الحقوقية وحتى المحتجزين الوصول إلى أرقام دقيقة حول أعداد الإصابات داخل مقرات الاحتجاز المختلفة.
ليبقى الوصول لحقيقة ما يجري رهين شهادات متناثرة، ولعل ذلك تحديداً هو ما أقلق الداخلية من مرض محمد منير، ثم وفاته بعد خروجه من السجن مباشرة بمستشفى العزل بالعجوزة.
إذ إن ذلك يؤكد أن هناك حالات مسكوتاً عنها في السجون، وها هو أول شخصية عامة معروفة يتوفى بعد أيام قلائل من تركه مقرَّ الاحتجاز، وهو ما أشارت إليه الصحفية إكرام يوسف، والدة النائب (المسجون) زياد العليمي، قائلة إن منير تم إخراجه خشية أن يُتوفَّى لديهم، وتخلصوا منه سريعاً، نافية أن يكون تُوفي لأي سبب غير كورونا، وإلا لماذا حُجز في مستشفى العجوزة المخصص لعزل المصابين.
التعتيم خيار من البداية
التعامل المصري مع جائحة كورونا تميّز بكونه أداءً أمنياً بامتياز، تعاملت الدولة معه كانه صوت معارض يمكن إسكاته والتعتيم عليه.
ففي حين يكرّم العالَمُ الأطباءَ ويدعمهم ويشكرهم على عملهم في هذه الظروف الصعبة، تعتقل مصر الأطباء الذين يتحدثون عن أوجه قصور في التعامل مع المرض، أو يطالبون بوسائل حماية حقوقهم في الرعاية لهم ولذويهم.
هذا، وقد أصدرت النقابة العامة لأطباء مصر خطاباً للنائب العام، المستشار حمادة الصاوي، بخصوص الأطباء الذين تم القبض عليهم عقب نشر آراء لهم متعلقة بجائحة كورونا، طالبته بسرعة الإفراج عنهم.
وذكر البيان أسماء الأطباء المعتقلين على خلفية "حديثهم" عن جائحة كورونا، وهم: محمد حامد محمود، طبيب مقيم عظام بمستشفى جمال عبدالناصر. آلاء شعبان حميدة، طبيب مقيم بمستشفى الشاطبي. إبراهيم عبدالحميد بديوي، طبيب مقيم جراحة أطفال بمستشفى المطرية التعليمي. هاني بكر علي، أخصائي رمد. أحمد صبرة أحمد، أستاذ النساء بجامعة بنها.
ولم يقتصر التعتيم على الأطباء فقط وإجبارهم على الصمت وعدم الحديث أو الكتابة على صفحات التواصل عن حقيقة انتشار المرض في مصر، بل امتدّ الأمر ليشمل الصحفيين، فتم القبض على نورا يونس، رئيس تحرير موقع "المنصة"، بعد نشر موقعها ملفاً عن انتشار كورونا في مصر، بحجة وجود برامج غير مرخصة بالموقع!!
ورغم كل محاولات التعتيم تلك، ورغم تعامل الدولة المصرية مع كورونا كسرٍّ حربي، فإن وفاة منير تأتي لتكشف مدى تردّي الأوضاع داخل مقرات الاحتجاز المصرية، والتي تطرح علامات استفهام عن حجم الإصابات داخل السجون، خاصة شديدة الحراسة منها.