قالت امرأة إيغورية تعيش في هولندا السبت 7 ديسمبر/كانون الأول 2019، إنَّها ساعدت في نشر وثائق حكومية صينية سرية تلقي الضوء على كيفية إدارة بكين لمعسكرات الاعتقال الجماعي التي تحتجز فيها أقليات عرقية مسلمة، وفقاً لما نشرته صحيفة The New York Times الأمريكية.
إذ سردت كيف عاشت في خوفٍ بعدما تلقت هي وزوجها السابق تهديدات بالقتل، واتصل بها ضباط أمن صينيون بينما كان الصحفيون يستعدون لنشر الوثائق.
آسية عبدالوهاب (46 سنة) ذكرت في مقابلة عبر الهاتف أنَّها شاركت في نشر الوثائق، المكونة من 24 صفحة، التي نشرتها وسائل إعلام غربية في الشهر الماضي نوفمبر/تشرين الثاني، وأنَّها تحدثت الآن لحماية نفسها وعائلتها من الانتقام.
جاءت الوثائق، التي حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين وفحصها صحفيون من مختلف أنحاء العالم، عقب تسريبٍ سابق لـ403 صفحات من أوراق داخلية سرية -حصلت عليها صحيفة The New York Times الأمريكية- كانت تصف كيف أطلقت السلطات الصينية الحملة القمعية المستمرة على مليون شخص أو أكثر من أقليتي الإيغور والكازاخ، وكيف تُديرها وتبررها.
فيما كانت صحيفة De Volkskrant الهولندية هي أول من نشرت تقريراً عن دور آسية في نشر المجموعة الثانية من الوثائق، بناءً على مقابلاتٍ معها ومع زوجها السابق جاسور أبيبولا. وتجدر الإشارة إلى أنَّهما مواطنان هولنديان يعيشان في هولندا منذ عام 2009، ولديهما ابنة عمرها 6 سنوات وابن عمره 8 سنوات.
تهديدات من السلطات الصينية
قالت آسية في لقاءٍ استمر ساعةً بلغة المندرين الصينية مع صحيفة The New York Times إنها قررت التحدث علناً على أمل أن يُسهم إعلان قصتها في ردع السلطات الصينية عن السعي إلى إلحاق الأذى بأفراد أسرتها.
مشيرة إلى أنَّهم كانوا يعلمون بالفعل أنَّها لديها الوثائق، وأبلغت ضباط الشرطة الهولندية بوضعها. وأضافت أن خطورة وضعها اتضحت بعدما عاد زوجها من زيارةٍ إلى دبي في منتصف شهر سبتمبر/أيلول الماضي، حيث التقاه بعض ضباط الأمن الصينيين وتحدثوا إليه عن الوثائق، واستجوبوه بشأن آسية، وحاولوا تجنيده للتجسس عليها.
مضيفة: "اعتقدتُ أنَّ هذا الأمر يجب أن يُنشَر على الملأ. فالشرطة الصينية ستجدنا بالتأكيد. والأشخاص الذين التقوا بزوجي السابق في دبي قالوا له: "نحن على درايةٍ بجميع شؤونكم. لدينا الكثير من الأشخاص التابعين لنا في هولندا"".
كما ذكرت آسية أنَّها عملت في مكاتب حكومية في إقليم شينجيانغ، وهو منطقة شاسعة تقع في شمال غرب الصين وتشهد حملة قمع رسمية صينية ضد المسلمين، لكنها امتنعت عن الخوض في تفاصيل عملها.
وفي المقابلة التي أجريت أمس، أكدت آسية أنَّها تسلَّمت الصفحات الـ24 وساعدت في تسريبها، لكنَّها رفضت توضيح هوية الشخص الذي أرسل إليها الوثائق. وقالت إن الضباط الصينيين قالوا لأبيبولا إنهم يريدون معرفة مَن الذي أرسلها إليها.
وثائق سرية تكشف ما تمارسه الصين
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ صحيفة The New York Times كانت جزءاً من المجموعة التي نسَّقها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين -وهو منظمة مستقلة غير ربحية يقع مقرها في واشنطن- والتي نشرت المجموعة الثانية من الوثائق المُسرَّبة عن شينجيانغ.
إذ ذكرت آسية أنَّ شخصاً ما أرسل إليها الوثائق الصينية الداخلية المكونة من 24 صفحة إلكترونياً في يونيو/حزيران الماضي.
قائلة: "عندما تسلَّمت الوثائق واطَّلعت عليها، استنتجت أن محتواها مهمٌ للغاية. لذا اعتقدت أن أفضل شيء هو نشرها".
وبعدما نشرت آسية لقطةً مصوَّرة لإحدى صفحات الوثائق على تويتر، على أمل جذب الانتباه إليها، اتصل بها أدريان زينز، وهو باحثٌ ألماني متخصص في دراسة الأوضاع في شينجيانغ، وخبير آخر متخصص في شؤون الإقليم. ثم أوصلاها بأحد الصحفيين.
تعاون بعد ذلك الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين مع 17 منظمة أخرى، من بينها صحيفة The New York Times، لنشر تقارير تكشف الأوضاع داخل معسكرات الاعتقال بناءً على الوثائق المكونة من 24 صفحة.
جاء هذا المقال بعد أسبوع من تقرير نُشر في صحيفة The New York Times يستند إلى 403 صفحات مسربة تسلط الضوء على أصول الحملة القمعية في شينجيانغ وتوسيعها. وقال تقرير الصحيفة إن مصدر الوثائق المُسرَّبة هو عضوٌ في المؤسسة السياسية الصينية طلب عدم الكشف عن هويته.
قمع الحكومة الصينية للمسلمين
وفي بيان صدر في وقت سابق، رفض الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين القول ما إذا كانت آسية هي مصدر التقرير الذي نشره. وجاء في البيان: "الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين لا يُعلِّق على مصادره". وذكر البيان كذلك أنَّ زينز قال يوم السبت إنَّه لم يقدم الوثائق إلى الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين.
كما تجدر الإشارة إلى أنَّ هذين الكشفين أجَّجا حدة النقاش الدولي حول القمع المكثف الذي تمارسه الحكومة الصينية في جميع أنحاء الإقليم. فمنذ عام 2017، يشرف الحزب الشيوعي الصيني على موجة من الاعتقالات الجماعية في شينجيانغ، لدرجة أنَّه زجَّ بمليون شخصٍ أو أكثر من أفراد الأقليات ذات الغالبية المسلمة، لا سيما الإيغور، في معسكرات إعادة تأهيل تهدف إلى إضعاف معتقداتهم الإسلامية وتعلقهم بلغة الإيغور إلى حدٍّ كبير، وجعلهم موالين للحزب.
في البداية، كان المسؤولون الصينيون يتجاهلون الأسئلة والتقارير المتعلقة بعمليات الاحتجاز. ولكن في أواخر العام الماضي 2018، غيَّرت بكين ردها، إذ تعترف السلطات الصينية منذ ذلك الحين بوجود البرنامج، لكنها دافعت عن المعسكرات واصفةً إيَّاها بأنَّها مراكز تدريب وظيفي تهدف إلى تعليم لغة المندرين الصينية ومهارات عملية، وتحذير الأشخاص المقيمين فيها من مخاطر التطرف الديني.
هكذا اندلعت التوترات العرقية بالصين
يُذكَر أنَّ هناك توترات اندلعت بين الأقليات العرقية ذات الغالبية المسلمة وشعوب الهان الصينية -التي تمثل أغلبية عرقية في شينجيانغ- في العقود الماضية وتتحول إلى أعمال عنف من حينٍ لآخر. ويتكون حوالي نصف سكان المنطقة من الأقليات، بما في ذلك 11.7 مليون فرد من الإيغور و1.6 مليون فرد من الكازاخ. وكلا الأقليتين لها ثقافة ولغة تميزها عن شعوب الهان.
وفي عام 2009، الذي غادرت فيه آسية الصين، اندلعت أعمال شغب عرقية في مدينة أورومتشي، عاصمة شينجيانغ الإقليمية، وقُتل ما يقرب من 200 شخص، معظمهم من الهان، وفقاً لتقارير حكومية. وتعلَّلت الصين بحوادث إراقة الدماء وسلسلة من الهجمات اللاحقة التي وقعت على أهداف تابعة لشعوب الهان من أجل تبرير سياساتها القاسية في شينجيانغ.
لكنَّ التسريبات تدحض الموقف الصيني الرسمي بالكشف عن الأسس القمعية التي تقوم عليها المعسكرات، والتلميح إلى وجود معارضة داخل المؤسسة السياسية الصينية ضد السياسات القاسية في شينجيانغ. غير أنَّ بعض المتحدثين باسم الحكومة الصينية ووسائل الإعلام الرسمية استنكروا التقارير المنشورة، ووصفوها بأنها "أخبار مزيفة"، وادعوا أنها جزء من مؤامرة لتقويض الاستقرار في المنطقة.
وفي هولندا، اكتشفت آسية أنَّ عدداً من حساباتها على شبكات التواصل الاجتماعي، وحساب هوتميل الخاص بها، تعرَّضت للاختراق بعدما نشرت اللقطة المصورة لإحدى الوثائق في تغريدةٍ على تويتر في يونيو/حزيران الماضي.
تهديدات صادمة لآسيا
وذكرت أنها تلقت كذلك رسالةً مكتوبة باللغة الإيغورية على تطبيق فيسبوك ماسنجر تقول: "إذا لم تتوقفي، سينتهي بك المطاف إلى تقطيع جثتك ووضعها في سلة القمامة السوداء أمام باب منزلك".
وقالت: "لقد أرعبني ذلك".
ثم في أوائل سبتمبر/أيلول، اتصل أحد أصدقاء زوجها السابق القُدامى، وهو شخص كان يعمل في محكمة في شينجيانغ، به بعد فترة طويلة من عدم التواصل بينهما، حسب ما ذكرت آسية. ودعا الصديق زوجها إلى دبي وعرض عليه التكفُّل بمصاريفه. وقالت إنه سافر إلى دبي في 9 سبتمبر/أيلول، حيث قابله صديقه وعدد من ضباط الأمن الصينيين الذين ينتمون إلى شعب الهان
بعد أيام من استجواب أبيبولا، سلَّمه الضباط ذاكرة USB وطلبوا منه وضعها في الحاسوب المحمول الخاص بزوجته السابقة، كي يتسنَّى لهم الاطلاع على محتويات الحاسوب، وفقاً لما ذكرته.
فيما تجدر الإشارة هنا إلى عدة إمكانية التحقق بشكلٍ مستقل من كلام آسية عن المضايقات والتهديدات. لكنَّ كلامها يتناسب مع نمط التهديدات الذي تحدث عنه بعض الإيغور الآخرين الذين يعيشون في الخارج، والذين سردوا التهديدات والضغوط التي يتلقونها من الصين لإجبارهم على التزام الصمت أو تقديم معلوماتٍ لوكلاء الاستخبارات.
بالرغم من هذه التهديدات، تتحدث أعدادٌ متزايدة من الإيغور والكازاخ عمَّا يتعرضون له، وغالباً ما يستخدمون منصتي تويتر وفيسبوك لنشر معاناة أقربائهم الذين اختفوا في شينجيانغ، وربما يكونون محتجزين في معسكرات إعادة التأهيل أو السجون. إذ تحدَّثت روشان عباس، وهي امرأةٌ أمريكية إيغورية تعيش في واشنطن، إلى صحيفة The New York Times عن بعض أقربائها الذين اختفوا بعدما تحدثت علناً عن المعسكرات.
في مقابلةٍ أجريت مع الباحث زينز يوم أمس، قال إنَّ نشر قصة آسية "يجعلها في أمانٍ أكبر" من الانتقام المحتمل.
مضيفاً: "فإذا حدث شيء لها الآن، سوف تصبح قصة جديدة. لذا فالصمت كان سيكون أسوأ بكثير".
من جانبها قالت آسية إنَّها تشعر بالارتياح لأنها كشفت هويتها.
وأضافت: "لقد بُحتُ بكل شيء. وصار ذهني صافياً الآن".