بينما يهم كثيرون بالفرار من دخان الغاز المسيل للدموع وقنابل صوتية مرعبة، تطلقها قوات الأمن لتفريق المحتجين في الساحات العامة بالعاصمة العراقية بغداد، تشق العشرات من "عربات صغيرة" طريقها بصعوبة في الاتجاه المعاكس نحو الخطر.
تلك العربات، المعروفة محلياً باسم "التوكتوك"، تمد يد العون لمن تقطعت به السبل وسط الفوضى، فتنتشله إلى مكان آمن أو إلى مستشفى قريب لتلقي العلاج إن كان جريحاً أو إلى البرادات (ثلاجات حفظ جثث الموتى) لمن لم يحالفهم الحظ.
هذا المشهد بات سمة بارزة للاحتجاجات الشعبية في ساحات بغداد، وخاصة ساحة التحرير، معقل المحتجين المناهضين لحكومة عادل عبدالمهدي، منذ بدء التظاهرات، مطلع أكتوبر/تشرين الأول.
وتتسم عملية دخول "التوكتوك" في المشهد الاحتجاجي بعفوية، عندما تعجز سيارات الإسعاف الحكومية عن الوصول إلى أماكن الاحتجاج.
ويتزايد اعتماد المحتجين عليه، في ظل لجوء قوات الأمن إلى قمع الاحتجاجات باستخدام الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه والقنابل الصوتية والرصاص الحي والمطاطي.
ويومًا بعد آخر، أصبح "التوكتوك" إحدى أبرز "أيقونات" الاحتجاجات العراقية ضد "الفساد" و "المحاصصة".
وطالب المحتجون في البداية بتحسين الخدمات العامة، وتوفير فرص عمل، ومكافحة الفساد، قبل أن يرتفع سقف مطالبهم إلى إسقاط الحكومة؛ إثر استخدام الجيش وقوات الأمن العنف المفرط بحقهم، وهو ما أقرت به الحكومة، ووعدت بمحاسبة المسؤولين عنه.
500 "توكتوك"
أغلب أصحاب عربات "التوكتوك" لا تتجاوز أعمارهم 25 عاماً، ووسيلة نقل الركاب هذه هي مصدر دخلهم اليومي الوحيد.
لكن ذلك لم يمنعهم من التطوع لنقل المصابين خلال الاحتجاجات، بحسب قول أحدهم، ويدعى "أبو علي" (20 عاماً) للأناضول.
وأضاف: "لا نتقاضى أية أجور لقاء ما نقوم به في التظاهرات، ونستنفر كل جهودنا وطاقاتنا لنقل الجرحى والمصابين بالاختناق، ونوصل أيضاً المواد الغذائية للمحاصرين، وحاول متظاهرون جمع تبرعات من المال لنا، لكننا رفضنا".
وتابع: "أعدادنا قرابة 500 متطوع من أصحاب التك تك.. نشارك بشكل دوري في تقديم الدعم والمساعدة حين يتعرض المتظاهرون لإطلاقات مكثفة بالغاز والرصاص الحي".
وأعرب "أبو علي" عن قلقه من احتمال ملاحقته بعد انتهاء الاحتجاجات بقوله: "ربما ستكون هناك ملاحقة من الجهات الأمنية بسبب موقفنا هذا".
ومنذ بدء الاحتجاجات، تبنت حكومة عبدالمهدي عدة حزم إصلاحات في قطاعات متعددة، لكنها لم ترض المحتجين، الذين يصرون على إسقاط الحكومة.
إصابات بين السائقين
لأصحاب "التوكتوك" نصيب من الإصابات والأضرار أثناء عملية الإسعاف والنقل التي يقومون بها.
أحدهم، وهو حسن الحسيني، صادفته الأناضول يرقد في حدائق ساحة التحرير وهو يعاني من جروح غائرة في صدره؛ بسبب "إصابته برصاص مطاطي كثيف".
وقال الحسيني (17 عاماً): "نقلت الكثير من الجرحى في عربتي، وفي آخر مرة تعرضت لكثير من الرصاص المطاطي، بعد أن حملت سبعة متظاهرين جرحى، واحداً تلو الآخر إلى المستشفى".
وتابع: "سأبقى هنا، لن أعود إلى المنزل.. أنا هنا من أجل أخي الشهيد، الذي فقدته في الحرب ضد (تنظيم) داعش (بين 2014 و2017)، حيث قاتل حتى الموت، ثم تم استغلال دمه من قِبل اللصوص السياسيين الفاسدين".
احتفاء بـ "التوكتوك"
تخللت احتجاجات العراق، منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول، أعمال عنف واسعة، خلال محاولة قوات الجيش والأمن تفريق المحتجين بالقوة.
وسقط ما لا يقل عن 100 قتيل وآلاف الجرحى، منذ بدء الموجة الراهنة من الاحتجاجات، الجمعة الماضي.
يضاف هؤلاء الضحايا إلى 149 قتيلاً من المحتجين وثمانية من عناصر الأمن، في موجة سابقة، خلال الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول.
ويسود بين المحتجين شعور عارم بالغضب من الحكومة وقوات الجيش والأمن؛ جراء استخدام العنف المفرط بحق المتظاهرين.
بالمقابل يحظي "التوكتوك" وأصحابه بكثير من الإشادة والشعبية والشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق.
وكتب أحد المتظاهرين على صفحته بـ "فيسبوك": "خذلتنا الدبابة وأنقذنا التوكتوك".
وغرد آخر على "تويتر": "كنت في السابق أراكم بعين صغيرة، وأثبتم أنكم تنظرون للعراق بعين كبيرة".
ومازحتهم طالبة بنشر لافتة على صفحتها بـ "فيسبوك" كتبت عليها: "لن أتزوج إلا صاحب توكتوك".
وأصدر المغني العراقي، حسام الرسام، أغنية خاصة يتغنى فيها ببطولة "التوكتوك" وأصحابه.
وتداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي صورًا٦ لافتة لوصول رئيسة بعثة الأمم المتحدة في العراق، هينين بلاسخارت، الأربعاء، إلى ساحة التحرير وسط بغداد.
وظهرت بلاسخارت وهي تجلس داخل "توكتوك"، بينما تتبادل أطراف الحديث مع متظاهرين في تصرف رمزي، للدلالة على أهمية الدور الإنساني لـ "التوكتوك" وأصحابه.
وهو الدور الذي كان المحتجون يتوقعونه من مؤسسات دولتهم، وخاصة الجيش والقوى الأمنية.