المكان – حي الأزهري جنوب العاصمة السودانية الخرطوم – الزمان .. 21 مايو 2017 .. برفقة بعض أصدقائي السودانيين نتجاذب أطراف الحديث حول أخبار نشرتها وسائل الإعلام السودانية عن قيام قوات الدعم السريع، ومعها قوات من الجيش السوداني بالاستيلاء على مدرعات ومركبات مصرية استخدمها متمردو دارفور في هجومهم على الولايتين "شمال وشرق دارفور" يسألني صديقي معاتباً كيف لمصر أن تتخذ هذا الموقف العدائي تجاه السودان بدعمها للمتمردين؟
صباح اليوم التالي للهجوم أعلن الرئيس السوداني عمر البشير تفاصيل المعركة التي حدثت في وادي هور "شمال دارفور"، وأن القوات المهاجمة انطلقت من دولة جنوب السودان وليبيا على متن مدرعات مصرية تم تدمير جزء منها والاستيلاء على الباقي.
تلقى الشارع السوداني هذه الأنباء، ويتناقلها بقوة وفخر عن قدرتهم العسكرية، وأن لديهم اليد الطولى القوية "حميدتي"، ورجاله، وهم قادرون على صد أي هجوم مباغت، ولو كان مدعوماً من دول إقليمية كبيرة في المنطقة.
استوقفني ذلك الاسم الذي لم أسمع به من قبل "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع، فمن ذلك الرجل الذي لا يوجد صغير أو كبير في الخرطوم لا يتحاكي باسمه؟ فقررت أن أبحث عن ذلك الاسم حتى علمت أن الرجل هو قائد ما يسمى بقوات الدعم السريع، التي جاءت من رحم ميليشيا الجنجويد المسلحة التي استخدمها نظام الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير عام 2003 في حرب دارفور لمواجهة حركات التمرد.
بعد أشهر قليلة وجدت اسم محمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي" من جديد في وسائل الإعلام السودانية بعد أخبار عن قيام – قواته – قوات الدعم السريع بـاعتقال موسى هلال، زعيم عشيرة "المحاميد"، ومعه 3 من أنجاله وكبار معاونيه.
الحقيقة التي عرفتها لاحقاً أن اعتقال "موسى هلال" كان وراءه خلافات شخصية سابقة وصراع على النفوذ بين هلال وأبناء عمومته في قبيلة الرزيقات، وعلى رأسهم قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي".
حميدتي وعمر البشير
دفعني ترديد اسم "حميدتي" إلى البحث عنه أكثر، فالرجل بات حديث الألسنة في السودان حتى وصلت بعد قراءة مطولة في تاريخ حميدتي إلى قناعة راسخة أنه كان من صناعة البشير بامتياز، استخدمه عمر البشير دائماً بداية من قتال المتمردين إلى توريد مقاتلين "مرتزقة"، يتم استخدامهم في دول خارجية كما حدث في ليبيا واليمن بدعم خليجي سخي، مما سمح لـ "حميدتي" بإقامة علاقات قوية مع قادة دول الخليج.
مع مرور الوقت لم يترك حميدتي أي مناسبة للظهور بجانب البشير، والتأكيد على علاقته الوثيقة به، وأنه مأمور جيد وحارس لنظامه حتى أن الرئيس السوداني السابق عمر البشير كان يتفاخر به في كل مناسبة منادياً إياه بـ "حمايتي" بدلاً من "حميدتي" – أي الذي يحميني-.
نتيجة لعلاقة حميدتي الوثيقة بالبشير الذي قدم له تسهيلات كبيرة وامتيازات حصرية في العديد من القطاعات استطاع حميدتي تكوين إمبراطورية اقتصادية كبيرة بدأت من سيطرة حميدتي وأسرته وهيمنتهم على مناجم الذهب مثل جبل عامر في دارفور والعمل في التجارة، وتلقي مساعدات مالية ضخمة من الاتحاد الأوروبي لوقف الهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى ميزانية مباشرة كان يتلقاها حميدتي من البشير خارج رقابة الدولة لتمويل حربه على المتمردين في دارفور، فضلاً عن التمويل الإماراتي السعودي.
كما اعترف البشير أثناء إحدى جلسات محاكمته بعد عزله عن السلطة لاحقاً أنه سلم شقيق حميدتي عبد الرحمن دقلو القيادي في قوات الدعم السريع مبالغ من الأموال التي حصل عليها من الإمارات والسعودية والبالغة 91 مليون دولار.
انقلاب حميدتي على البشير
في 2019 مع اندلاع الاحتجاجات في الخرطوم التي أفضت لاحقاً إلى عزل الرئيس السوداني السابق عمر البشير كان حميدتي يمجد في البشير ويحذر المتظاهرين أصحاب دعوات تسقط بس من ضياع السودان في حال سقوط البشير ومع دخول المعتصمين إلى شارع القيادة العامة وإعلانهم الاعتصام أمام قيادة الجيش حتى تتم الاستجابة لمطالبهم.
لقد سارع حميدتي بالقفز من مركب البشير وتسويق نفسه أمام المعتصمين ومغازلتهم بأنه وقف للبشير رافضاً أوامره بفض الاعتصام وروايته بأن الرئيس السوداني المعزول طلب منه إبادة ثلث الشعب السوداني الرافض لحكمه حتى ظن ثوار ديسمبر أن الرجل هو أحد حماة الثورة.
لقد هتف لـ "حميدتي" بعض المعتصمين آنذاك بـ"حميدتي الدكران اللي خوف الكيزان" قبل أن ينقلب عليهم ويشارك في مجلس السيادة الانتقالي نائباً لرئيسه ومشاركاً بقواته في مجزرة فض اعتصام القيادة التي خلفت مئات الضحايا .
حميدتي والبرهان
لم يكن خطأ صعود نجم "حميدتي" خطأ نظام البشير وحده، بل شارك فيه قائد الجيش السوداني "عبد الفتاح البرهان" الذي سمح لحميدتي بعد ثورة ديسمبر من التمدد داخل الخرطوم ونشر قواته في مختلف أنحاء العاصمة وحراسة منشآتها المهمة واستيلائه لاحقاً على مقرات المؤتمر الوطني وهيئة العمليات التابعة لجهاز الأمن عقب أحداث تمردها في يناير 2020.
سمح البرهان لـ "حميدتي" بعمليات تجنيد جديدة في صفوف الدعم السريع وتخريج دفعات جديدة من معسكرات الدعم السريع المنتشرة في أنحاء السودان، والتي كانت بمثابة معسكرات تفريخ للميليشيات حتى وصل الأمر إلى مشاركة مسؤولين حكوميين وعسكريين من الجيش السوداني في حفلات تخريج دفعات متخصصة من الدعم السريع في مكافحة الإرهاب والمدفعية وندب الجيش لبعض من ضباطه لقوات الدعم السريع للعمل داخل بنيتها العسكرية .
المتابع للشأن السودان يجد أن "حميدتي" كان لديه مخطط واضح، وطموح شخصي قوي في إرث الدولة السودانية ما بعد البشير، وأن محاولات إطاحته بالجيش والقوى المدنية بعد إقصاء الإسلاميين قادمة لا محالة بداية من خلعه للزي العسكري وارتدائه للزي المدني وذهابه لزيارات رسمية خارجية ولقاء عدد من قادة الدول مثل "روسيا – مصر – دول الخليج" وتعاقده مع شركات علاقات عامة في الخارج لإعادة تسويقه بصورة أفضل مما هي عليه حتى يستطيع تحقيق طموحه في حكم السودان.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.