تمتلك أوكرانيا تاريخاً طويلاً من المآسي والحروب عبر تاريخها الممتد لعقود مضت، حتى قبل أن تحظى باستقلالها في 1991.
فعلاوة على أن القوات الأوكرانية حاربت على الجهتين خلال الحرب العالمية الأولى، وتكبّدت خسائر فادحة في الأرواح، كان لسقوط الاتحاد السوفييتي، الذي كانت جزءاً منه خلال الحرب العالمية الثانية في قبضة الألمان تبعات خطيرة جعلت قرابة 4 ملايين أوكراني ينزحون بحثاً عن الحياة.
التاريخ الطويل من الدمار والدماء لم يتوقف على مخاطر خارجية بحُكم الحرب فقط، إذ عانت أوكرانيا بصورة خاصة من طموحات الاتحاد السوفييتي النووية، وكانت كارثة تشيرنوبل الممتدة آثارها حتى اليوم خير دليل على ذلك.
أوكرانيا والوقوع بين مطرقة روسيا وسندان النمسا
عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، تم استخدام اسم أوكرانيا جغرافياً فقط، إذ لم يكن المصطلح موجوداً على المستوى الوطني. وكانت المنطقة التي تشكل الدولة الحديثة لأوكرانيا جزءاً من الإمبراطورية الروسية مع منطقة تديرها الإمبراطورية النمساوية المجرية.
لذلك كان لاندلاع الحرب العالمية الأولى وبدء الأعمال العدائية بين روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، مطلع أغسطس/آب من العام 1914، تداعيات فورية على الأوكرانيين الذين شاركوا خطوط القتال مع كلتا الكتلتين المتحاربتين.
ومع تقدم القوات الروسية ووصولها إلى غاليسيا بأوروبا الشرقية بين أوكرانيا وبولندا في سبتمبر/أيلول، أعدم النمساويون المنسحبون بدورهم الآلاف للاشتباه في تعاطفهم مع روسيا، بحسب موسوعة Encyclopedia.
وبعد احتلال غاليسيا، اتخذت السلطات القيصرية خطوات نحو دمج أوكرانيا بالكامل في الإمبراطورية الروسية، فحظروا اللغة وأغلقوا المؤسسات ومنعوا الحياة السياسية بالكامل.
توقفت حملة الترويس تلك بعدما وقعت أوكرانيا مرة أخرى ضحية استعمار جديد، لكن هذه المرة كان الاستعمار النمساوي، الذي بدأ مع ربيع عام 1915.
حيث واصلت أوكرانيا الغربية كونها مسرحاً للعمليات العسكرية، وعانت من النهب الشديد، خصوصاً مع منتوجها الوافر من الثروة الزراعية.
لكن ما لبث أن تحول المشهد مجدداً، حينما جلبت الثورة الروسية، في فبراير/شباط 1917، حكومة مؤقتة إلى السلطة، وعكفت تلك الحكومة الأوكرانية الجديدة على تعزيز الحريات، بعدما تسببت الأحكام القيصرية الروسية في منع كافة أشكال الحياة الطبيعية في البلاد.
كيف حارب الأوكرانيون على الجانبين خلال الحرب؟
أراضيهم التاريخية التي طالب بها كل من القيصر الروسي والإمبراطورية النمساوية دفعت الأوكرانيين للقتال على جانبي الحرب العالمية الأولى.
فعمل بعضهم أعضاءً في وحدة تسمى Sich Sharpshooters، التي صدت الروس في مدينة ماكيفكا الأوكرانية، في أبريل/نيسان 1915، كمتطوعين للإمبراطورية النمساوية المجرية لسلالة هابسبورغ، التي حكمت الجزء الغربي من أوكرانيا منذ أواخر القرن الثامن عشر، كما خدم 250 ألفاً إضافيين كمجندين مع السلطة النمساوية.
من الناحية الأخرى، قاتل حوالي 3.5 مليون أوكراني، غالبيتهم العظمى من المجندين، من أجل الروس، الذين سيطروا على الأجزاء الوسطى والشرقية مما يعرف الآن بأوكرانيا.
ومن بين القوى الثلاث التي قامت بمعظم القتال على الجبهة الشرقية أثناء الحرب -روسيا القيصرية من جانب، والإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية الألمانية للقيصر فيلهلم الثاني من ناحية أخرى- لم ينجُ أي منها من الكارثة بحسب الموسوعة التاريخية للحرب العالمية الأولى WW2DP.
ففي غاليسيا، تم القبض على أكثر من عشرين ألف أوكراني ممن اشتُبه في تعاطفهم مع المصالح الروسية، ووضعوا في معسكرات الاعتقال النمساوية، في كل من تالرهوف وستيريا وقلعة تيريزين (جمهورية التشيك).
لم تنته الوحشية مع نهاية الحرب العالمية الأولى بالنسبة للأوكرانيين. فقد تصاعد القتال مع بداية الثورة الروسية عام 1917، إذ أججت الثورة حرباً أهلية داخل الإمبراطورية الروسية ووقع الكثير من القتال في المقاطعات الأوكرانية.
وقد تم إنشاء الدول القومية -جمهورية أوكرانيا الشعبية، والدولة الأوكرانية، وجمهورية غرب أوكرانيا الشعبية، وعدد من الجمهوريات السوفييتية العميلة المستوحاة من البلاشفة- على الأراضي الأوكرانية بين عامي 1917 و1920.
وفي أعقاب الحرب وجد الأوكرانيون أنفسهم منقسمين بين جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية وبولندا ورومانيا وتشيكوسلوفاكيا. ثم تمت الموافقة على دمج الأراضي الأوكرانية التي كانت في السابق ضمن النمسا والمجر في البلدان الثلاثة الأخيرة من قبل مؤتمر باريس للسلام ومؤتمر السفراء.
الاحتلال النازي لأوكرانيا السوفييتية في الحرب العالمية الثانية
بدأ الغزو الألماني المفاجئ لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية في 22 يونيو/حزيران 1941.
وأثناء انسحابهم السريع نفذ السوفييت سياسة الأرض المحروقة بتفجير المباني والمنشآت وراءهم، وتدمير المحاصيل والاحتياطيات الغذائية، وإغراق المناجم، وبالطبع كان الضحية الأكبر لكل تلك الفوضى هو المواطن الأوكراني صاحب تلك الأرض.
ونتيجة لذلك تم إجلاء ما يقرب من أربعة ملايين شخص شرق جبال الأورال طوال فترة الحرب. ومع تحرك الألمان السريع، وبحلول نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، كانت كل أوكرانيا تقريباً تحت سيطرة النازيين، وفقاً لـBritannica.
في البداية، تم الترحيب بالألمان كمحررين للبلاد من قبل بعض السكان الأوكرانيين.
في غاليسيا على وجه الخصوص، كان هناك اعتقاد سائد منذ فترة طويلة بأن ألمانيا بصفتها العدو المعلن لبولندا والاتحاد السوفييتي، كانت الحليف الطبيعي للأوكرانيين لتحقيق استقلالهم، لكن سرعان ما تحطم الوهم.
تقسيم أوكرانيا وتوزيعها على الدول المجاورة
بعيداً عن دعم التطلعات السياسية الأوكرانية، قام النازيون، في أغسطس/آب، بضم غاليسيا إدارياً ببولندا، وإعادة بوكوفينا إلى رومانيا، ومنح رومانيا السيطرة على المنطقة الواقعة بين نهري دنيستر وجنوبي بوه كمقاطعة ترانسنيستريا، وعاصمتها أوديسا.
تم تنظيم ما تبقى من إقليم باسم Reichs Commissariat الألماني لأوكرانيا.
وفي الأراضي المحتلة الجديدة، سعى النازيون إلى تنفيذ سياساتهم فبدأت بخريف عام 1941 عمليات القتل الجماعي لليهود، التي استمرت حتى عام 1944. وقُتل فيها ما يُقدر بنحو 1.5 مليون يهودي أوكراني.
نتيجة لذلك نزح أكثر من 800 ألف أوكراني إلى شرق كييف، كما قُتل ما يقرب من 34 ألف شخص في أول يومين فقط للقوات النازية في أوكرانيا.
وبعد تعيين مندوب ألماني على المقاطعة الأوكرانية المتبقية من الدولة، بدأ النزوح الجماعي للفلاحين والعُمال من المنطقة بحثاً عن الملاذ الآمن في المدن المجاورة.
وبحسب الموسوعة البريطانية للتاريخ Britannica، حُرمت المقاطعة أيضاً من المواد الغذائية، حيث تم توجيه جميع الموارد المتاحة لدعم المجهود الحربي الألماني.
علاوة على ما سبق، تم نقل حوالي 2.2 مليون شخص من أوكرانيا إلى ألمانيا كعمال بالسخرة. وبطبيعة الحال تم قمع الأنشطة الثقافية، واقتصر التعليم على المرحلة الابتدائية.
ثم في أواخر أكتوبر/تشرين الثاني 1944، تم تطهير آخر أراضي أوكرانيا الحالية من القوات الألمانية على يد الاتحاد السوفييتي، الذي مدد نطاق سلطته على المنطقة بالكامل؛ ليكون بذلك هو عيد "الذكرى السنوية لتحرير أوكرانيا من النازيين".
تشيرنوبل ولعنة الطموح السوفييتي لامتلاك السلاح النووي
كانت بلدة بريبيات بأوكرانيا موقع كارثة تشيرنوبيل، التي وقعت في 1986 عندما انفجرت محطة نووية. وقد لوثت التداعيات مناطق شاسعة من شمال أوكرانيا وحتى أجزاء من بيلاروسيا.
وبحسب الموسوعة البريطانية، كانت كارثة تشيرنوبيل عبارة عن حادث نووي وقع في 26 أبريل/نيسان 1986، في المفاعل رقم 4، في محطة تشيرنوبيل للطاقة النووية، بالقرب من مدينة بريبيات في شمال جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفييتية في الاتحاد السوفييتي.
وهي تُعتبر أسوأ كارثة نووية في التاريخ البشري من حيث التكلفة والخسائر المادية والأرواح.
تضمنت النجدة الأولية للكارثة التي راح ضحيتها على الأرض وبشكل فوري نحو 30 عاملاً وموظفاً من العاملين في المفاعل، علاوة على التطهير اللاحق للبيئة، أكثر من 500 ألف فرد، وكلَّفت ما يقدر بنحو 18 مليار روبل سوفييتي، أي ما يقرب من 68 مليار دولار أمريكي في عام 2019، عندما تم إجمال ما تلقته المدينة من مجهودات لتدارك الكارثة النووية.
ونتيجة لصعوبة جرد التبعات بشكل فوري بعد كارثة انفجار المفاعل النووي يتم توثيق الضحايا للإشعاع على مدى عقود وعقود من وقوع الحادثة، لأن الإشعاع يؤثر على معدلات الصحة العامة، ويؤدي للوفاة على فترات قد تمتد لسنوات.
في عام 2000 فقط مثلاً، قفز عدد الأوكرانيين الذين وثّقوا أنهم "يعانون من الإشعاع" والذين يتلقون إعانات حكومية إلى 3.5 مليون، أو 5% من السكان الأوكرانيين.
وقد أعيد توطين العديد من هؤلاء السكان من المناطق الملوثة في مدن أخرى للوقاية من تبعات الإشعاع على البيئة.
وتُقدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، أن عدد الوفيات المبكرة المرتبطة بالكارثة يبلغ حوالي 4000 أوكراني، بينما يُقدر أن 6000 منهم ربما ماتوا بسبب جهود الإنقاذ والإخلاء.
هذه الكوارث البشرية، سواء بسبب الحروب الدولية أو الطموحات العسكرية لم تؤثر على أية جهة سوى الأوكرانيين أنفسهم، الذين وقعوا ضحايا على مختلف الجبهات، قبل أن يقابلوا مطلع 2022 معركة جديدة نتيجة الهجوم الروسي الجديد، وبذلك ينتظر التاريخ سطوراً جديدة تُضاف لصفحة أوكرانيا المأساوية.