قام أحد المراكز البحثية الفلسطينية بترجمة ورقة بحثية بعنوان "الحروب الرخيصة" لكاتبين إسرائيليين هما جوناثان نتزان وشيشمون بيشلر؛ نظراً إلى أهمية البحث الذى يسلط الضوء حول الدور العسكري المتنامي في الاقتصاد الإسرائيلي والعالمي.
وجاء في الكتاب نصاً: "الحروب تساهم في خلق حالة من الازدهار الاقتصادي، حيث يستند دعاة هذه النظرية إلى حقيقة أن الصراعات العسكرية والإنفاق العسكري الطائل تحضيراً لمثل هذه الحروب يلعبان دوراً كبيراً في زيادة النمو الاقتصادي ويساهمان في خلق فرص العمل؛ ومن ثم الحد من تفشي البطالة، ولعل الإنفاق العسكري يبدو هنا جلياً باعتباره أداة مالية فعالة، فخلال سنوات الرخاء يمكن أن تزيد الحكومات الكنزية العسكرية -نسبة لنظرية كينز الاقتصادية- من خلال زيادة الإنفاق على التسلح والتصنيع العسكري؛ ومن ثم إنعاش اقتصادها الوطني وتجنب التدهور الاقتصادي..
ومما يثير الاستغراب أن الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2000، لا تحمل أي بُعد عسكري فقد تُركت الدول التي ثبت امتلاكها للقنبلة الذرية وشأنها كما هو حال باكستان وكوريا الشمالية، بينما تمت مهاجمة دول أخرى لا تمثل أي خطر كما هو حال أفغانستان والعراق، حيث تم احتلالهما بالكامل؛ ليشكل هذا الاحتلال نصيب الأسد من الإنفاق العسكري الأمريكي دون أن يلوح في الآفق أي حل للحروب المستعرة بهاتين الدولتين".
ولكن ما الوسائل التى ينفذ من خلالها الاقتصاد العسكري لتحقيق مآربه؟!
*****
مع سقوط الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن العشرين، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ العالم، حيث انفردت أمريكا وحيدة بقيادة العالم، ودشنت مرحلة جديدة لسيادة نموذج رأسمالية النيوليبرالية التي أكدت مقولة كارل ماركس بأن "الاقتصاد له اليد العليا" وسط تداعي الأفكار والأيديولوجيات، ولكن الاقتصاد أتى من وراء هدير المدافع وأزيز الطائرات الحربية، واجتاحت الجيوش الأمريكية الدول لتفتح أسواقاً جديدة عبر تدمير البنية التحتية لتلك الدول، وصولاً لاحتكار عقود الإعمار لشركاتها المنبثقة من تحالف شركات السلاح وشركات البترول العملاقة. ولعل النموذج العراقي مثال صارخ على هذا التحالف.
واعتمدت أمريكا في حركتها تلك على خفة الحركة العسكرية التي عرَّفها الكاتبان الإسرائيليان بـ"الحروب الرخيصة"، بمعنى أن أمريكا أصبحت لا تعتمد على الحشد العسكري الباهظ التكلفة ولكن تكفي دفعات من صواريخ كروز الجوالة، وضربات الطائرات الحربية والطائرات المسيَّرة من دون طيار، لتحقيق الهدف دون تكلفة مالية عالية أو تكلفة دم باهظة تضعها في مأزق داخلي أمام شعبها.
ومع بداية الأزمة الاقتصادية الحالية أصبح التنبؤ بحركة أمريكا عسكرياً أمراً سهلاً مع زيادة الإنفاق العسكري والضغط على دول العالم لشراء منتجاتها، ولكن هذا لم يصبح أمراً يخص أمريكا وحدها، فدور الجيوش حول العالم تعاظم بطريقة ضخمة، وزاد الإنفاق العسكري بطريقة لافتة؛ في محاولة من تلك الجيوش لتحفيز الاقتصاد بعد نشوب الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية.
وهكذا أصبحنا نعيش فترة تاريخية دشنت لدور أكبر للجيوش حول العالم! ولكن من يمنع الصِّدام بينها؟
*****
منذ الخمسينيات تم استخدام الدين الإسلامي كمسوِّغ لتبرير سياسات أمريكا لاحتواء خطر الاتحاد السوفييتي، وتم تجنيد وتجييش جماعات إسلامية في المنطقة العربية وحيثما وُجد الاتحاد السوفييتي من أجل المصالح الأمريكية، وبعد انفراد أمريكا بقيادة العالم، أصبح التخلص من تلك الجماعات المسلحة أمراً مُلحّاً بعدما هاجمت تلك الجماعات أمريكا حليفها السابق، فدشنت أمريكا زمناً جديداً عُرف بالحرب على "الإرهاب"، التي من خلالها تم تبرير احتلال العراق واستنزاف موارده الاقتصادية، وكذلك أفغانستان.
ومع بداية ثورات الربيع العربي التي رآها البعض جزءاً من السياسة العسكرية الأمريكية الاقتصادية لاستنزاف ما تبقى من موارد العرب، بدأت المشاكل مع صعود جماعة "داعش" الإرهابية التي أعطت الشرعية ليس فقط لأمريكا؛ بل لروسيا وفرنسا والصين لبيع السلاح والاستفادة القصوى من الصراع في العراق وسوريا واليمن؛ من أجل إنعاش اقتصادات تلك الدول، هذا بالتوازي مع العقود الهائلة لشركات النفط التي تأتي تالياً للاستفادة من العسكرة الاقتصادية للصراع كما حدث في بترول سوريا الذي أخذته أمريكا كسداد لفاتورة القضاء على إرهاب داعش.
ومن يتأمل الصراع الحالي في منطقة شرق البحر المتوسط سيجد أن كل الدول المطلة على ضفافه أنفقت مليارات الدولارات على التسليح والصناعات العسكرية، وأصبح الصراع على مخزونات الغاز أمراً واقعياً ولا نهاية له، ولكن تلك الدول لا تريد أن تحتكم إلى نزاع مسلح طويل الأمد يستنزف قدراتها، على الرغم من المناوشات التي تحدث بين الحين والآخر بين بعض الدول. وتريد حرباً "رخيصة" لا تكلفها إلا قِطع سلاح وبعض الطائرات المسيَّرة من دون طيار، وهو ما نراه في ليبيا، حيث تمترست دول المتوسط خلف طرفي النزاع الليبي تمدهما بكل أنواع الأسلحة تحت ذريعة الخوف من الإرهاب و"المرتزقة" وكلاء شركات السلاح الكبرى؛ من أجل الاستفادة من عقود الإعمار واحتكار البترول الليبي.
*****
يبدو أنه لا تلوح في الأفق بوادر نهاية قريبة للسياسة العسكرية الاقتصادية التي تنتهجها أمريكا والدول الكبرى لاستنزاف موارد الدول العربية، وأن الإرهاب أصبح عدواً جاهزاً باستمرار، يجري استدعاؤه لتدمير تلك الدول لتبرير التدخلات العسكرية الاقتصادية، وأصبحت تهمة الإرهاب سيفاً مسلَّطاً على الجميع للخضوع للسياسات الاقتصادية للنيوليبرالية العالمية المتوحشة التي خرجت عن السيطرة.
ومع بداية تجميع كل العناصر المسلحة من سوريا والعراق بليبيا أصبح في حكم المؤكد أن تلك العناصر ستكون مقدمة لتبرير الإرهاب مرة أخرى لتأسيس مرحلة اقتصادية جديدة للسيطرة على إفريقيا، وما تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي ومنظمة بوكو حرام إلا مبرر كافٍ من أجل السيطرة على مقدرات إفريقيا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.