لم يكن إعلان المرشح جون بايدن، في 12 أغسطس/آب الجاري، اختيار كامالا ديفي هاريس، عضوة مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية كاليفورنيا، مرشحةً لمنصب نائبة الرئيس بالمفاجأة للأوساط السياسية الأمريكية، فقد أعلن بايدن في مناظرته التلفزيونية مع السيناتور برني ساندرز، في 15 مارس/آذار الماضي، أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، عزمه اختيار امرأة لشغل منصب نائب الرئيس في حال فوزه بترشيح الحزب لخوض السباق الرئاسي.
وبعد منافسة محتدمة بين الرجلين نجح نائب الرئيس السابق في الفوز ببطاقة الترشيح، لتدور عديد من التكهنات حول هوية المرأة التي سيقع عليها الاختيار، غير أن حظوظ كامالا هاريس كانت الأوفر تحديداً منذ 25 مايو/أيار الماضي، في أعقاب مقتل جورج فلويد الأمريكي من أصل إفريقي على يد شرطي في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، وما تلا ذلك من احتجاجات وأعمال شغب اجتاحت أكثر من 30 ولاية أمريكية، تزامنت مع إحياء ذكرى انتهاء العبودية ومجزرة "تولسا" التي ارتُكبت بحق الأمريكيين الأفارقة قبل 99 عاماً؛ وهو ما دفع قيادات الحزب الديمقراطي إلى الضغط على المرشح جون بايدن لتكون نائبته من الأقليات.
سابقة تاريخية
في الـ10 من يونيو/حزيران الماضي، أعلن بايدن لبعض المقربين منه عزمه الاستجابة للمطالب التي تنادي بترشيح امرأة من الملونين لمنصب نائبه في أغسطس/آب الحالي، ومنذ ذلك الحين بدأ الحديث كثيراً داخل أروقة الحزب وفي وسائل الإعلام، عن تكهنات حول هوية المرأة التي قد تحظى بأن تكون أول امرأة تصل لمنصب نائب الرئيس الأمريكي، وثالث مرشحة في التاريخ وأول مرشحة من غير ذوي البشرة البيضاء، حيث نالت شرفَ الترشح الأول وجيرالدين فيرارو عن الحزب الديمقراطي في عام 1984، بينما كانت المرة الثانية من حظ سارة بالين عن الحزب الجمهوري في انتخابات عام 2008، وكلتاهما تنتمي إلى العرق الأبيض.
متنافسات على المنصب
حتى مع حديث بايدن عن تفضيله امرأة من السود، استمر الحديث بقوة عن إمكانية اختياره السيناتورة إليزابيث آن وارن عضوة مجلس الشيوخ الأقدم عن ولاية ماساتشوستس، وهي أول امرأة تشغل منصب سيناتورة عن الولاية في 2013 ولا تزال بمنصبها حتى الآن. وهي أستاذة القانون في جامعة هارفارد والتي شغلت منصب مستشار خاص للرئيس أوباما وعملت مع بايدن في الإدارة ذاتها. كما شاركت في الانتخابات التمهيدية للحزب في مارس/آذار الماضي، قبل أن تعلن انسحابها بعد نحو شهرٍ وتعلن دعمها لبايدن في سباق الحزب. وما دعّم من موقفها كونها من قيادات الجناح التقدمي اليساري في الحزب الديمقراطي، المناهض لهيمنة وول ستريت والداعي لمزيد من العدالة الاجتماعية وإقرار قانون التأمين الصحي الشامل وزيادة الضرائب على الشركات الكبرى ودعم الطبقات الأكثر احتياجاً، وهو الجناح الذي كان يميل بقوة نحو منافس بايدن الأقوى ساندرز، غير أن كونها من غير الأقليات وتقدُّمها بالسن (72 عاماً) حدّا من حظوظها في الظفر بالترشح.
مثَّلت سوزان رايس منافساً حقيقياً على المنصب؛ فهي امرأة من أصول إفريقية، ذات تجربة دبلوماسية واسعة مثَّلت خلالها أمريكا كسفيرة لها في الأمم المتحدة، ثم عمِلت مستشارة للأمن القومي في إدارة أوباما، كما أنها شابة في عُرف الحياة السياسية، إذ تبلغ من العمر 55 عاماً، وتتميز بمواقف قوية في القضايا الخارجية تحديداً ضد روسيا والصين، وهو ما يتوافق مع السياسات التي تبناها بايدن في أجندته الخارجية. إلا أنَّ ضعف خبرتها في دهاليز السياسة الداخلية الأمريكية وكونها لم تحصل على أي منصب سابق عبر الانتخاب، حدّا من قدرتها التنافسية.
خيار يلبي التطلعات كافة
وجد السبعيني العجوز غايته في كامالا هاريس، فهي متعددة الأصل، إذ إن أباها مهاجر جاميكي (جامايكا بلد كاريبي في أمريكا الشمالية ينتمي معظم سكانه إلى أصول إفريقية)- كان يعمل أستاذاً للاقتصاد، وأمها مهاجرة هندية كانت تعمل باحثة بمجال سرطان الثدي. ولم تقتصر مزايا النائبة المحتملة على عرقها الأفرو آسيوي، فقد حرصت فعلاً على أن تكون مميزة في حياتها، فتولَّت منصب المدعي العام "وزير عدل" لسان فرانسيسكو خلال الفترة بين (2004-2011)، كما اختيرت أيضاً كمدَّعٍ عام لكاليفورنيا (2011-2007)، لتكون بذلك أول سيدة وأول شخص ذي بشرة سوداء يسيّر المصالح القانونية لأكثر من ولاية في الوقت ذاته. كذلك تم انتخابها عام 2007، لتكون أول عضوة في مجلس الشيوخ من أصل هندي وثاني امرأة من أصل إفريقي. وتعد كذلك ثالث امرأة تشغل منصب السيناتور من ولاية كاليفورنيا.
تنتمي هاريس إلى الجناح اليساري التقدمي في الحزب وإن وُصفت بالمعتدلة، فهي تدافع عن حقوق المثليين وترفض عقوبة الإعدام وتدعو إلى إصلاح جهاز الشرطة وحرية وصول المواطنين للبيانات، كما أنها ناشطة في الدفاع عن حقوق السود، ولها سجل جيد في مساعدة المهاجرين غير النظاميين لتوفيق أوضاعهم القانونية، لا تتبنى النهج الراديكالي اليساري بفرض نسب عالية من الضرائب على كبار الممولين، مما جعلها تجذب مانحين كباراً في وادي السيليكون ومن وول ستريت لتمويل حملة بايدن، وجذبت أيضاً موجات من المتبرعين الأصغر عبر الإنترنت، وهو ما تم بالفعل فور إعلان ترشحها، بتحقيق أكبر كمية من التبرعات خلال ساعة واحدة.
تعويض قصور بايدن
يمكننا القول إن هاريس تملك ما لا يملكه بايدن، فهي شابة لم تتجاوز الـ55 عاماً، تملك سجلاً ناصع البياض من الجهة القانونية، اشتهرت بحزمها في مطالبتها بعقوبات صارمة في قضايا العنف والاعتداء الجنسي على النساء، وهو ما من شأنه أن ينظف قليلاً من سمعة بايدن التي تأذَّت مع اتهام إحدى موظفاته له بالتحرش بها عام 1993، وهي التهم التي وإن لم تثبت، فإنها أثارت كثيراً من اللغط في أوساط الناخبين المحتملين للرجل، خاصة من النساء. كما أنها تتمتع بثقة بايدن المطلقة، على الرغم من الانتقادات التي أطلقتها نحوه في المناظرات التمهيدية، لكنها تملك علاقة شخصية وثيقة مع الرجل لدرجة أنها تناديه أحياناً "جو" أمام الملأ، وذلك لأنها كانت قريبة من ابنه الراحل جوزيف روبينت بايدن (بو)، الذي فارق الحياة في 2015 بعد إصابته بمرض السرطان والذي عمِلت بشكل وثيق معه عندما كانت في منصب المدعي العام لولاية كاليفورنيا وكان يعمل ضمن مكتبها.
انتقادات ترامب لبايدن
في حوار متلفز مع برنامج "فوكس نيوز ساندي" بمنتصف يوليو/تموز الماضي، ادعى ترامب أن بايدن "في وضع صحي غير مناسب ولا يغادر حتى سرداب منزله، كما أن حالته العقلية لا تسمح له بقيادة البلاد"، وإن امتنع عن وصفه بالخرف. كما زعم أنه "يساري راديكالي سيسعى لرفع الضرائب على الشركات الكبرى"، وبالفعل فقد لوحظ على بايدن تلعثمه كثيراً خلال مناظرات الانتخابات التمهيدية للحزب، وأنه أحياناً كثيرة يفقد التركيز ولا يجيد الارتجال في خطاباته. وهنا تبرز إمكانات هاريس بوصفها امرأة ديناميكية شديدة البراعة في الرد على ادعاءات ترامب الهجومية؛ بل قادرة على مهاجمته ورجال إدارته بقوة بصفتها مدعية عامة سابقة، وهو ما تم بالفعل في مجلس الشيوخ حين قدمت استجواباً عنيفاً اتسم بالمنطقية والصرامة لمرشحي الرئيس ترامب في مناصب مهمة مثل بريت كافانو المرشح آنذاك لعضوية المحكمة العليا وجيف سيشنز لمنصب وزير العدل، ومن بعده وليام بار بعد رحيل سيشنز، كذلك استجواب المدعي العام وليم بارل بخصوص قضية التدخل الروسي في الانتخابات، وهو الأمر الذي رفع من أسهمها بين الديمقراطيين وأثار فضول جموع الشعب الأمريكي نحو تلك السيدة العنيدة.
هي على النقيض من بايدن، تجيد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل تبرع في استخدام سلاح ترامب وهو "توجيه النقد العنيف للخصوم عبر التغريدات" التي استخدمتها ضده بكثافة منذ خروجها من سباق الانتخابات التمهيدية للحزب وتأييدها لحملة بايدن، حيث غردت مرة قائلة: "إن خطاب ترامب العنصري المتكرر يحاول توجيه اللوم في إخفاقاته المتعلقة بفيروس كورونا المستجد لأي شخص ما عداه"؛ وهو ما دفع ترامب إلى وصفها بالعضوة الأكثر لؤماً وفظاظة في مجلس الشيوخ.
دم جديد في شرايين الحزب
بانضمام هاريس، كسبت حملة بايدن مزيداً من الصخب، خاصة في أوساط الأقليات والمهاجرين والنساء، فهي ابنة لمهاجرَين ومتزوجة بأبيض يهودي، وهي من أشد مؤيدي حركة أيباك الصهيونية، كما أن كونها من الوجوه الصاعدة وتنتمي إلى التوجه اليساري التقدمي في الحزب سيمكِّنها من جذب أعداد غير قليلة من الشباب الديمقراطيين الذين كانوا يُلقون بثقلهم خلف حملة ساندرز؛ لكونه معارضاً لتوجهات القيادات التقليدية للحزب والذين يمثلهم بايدن؛ وهو ما دفعهم إلى التفكير في عدم الاكتراث كثيراً بالمشاركة في استحقاق 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
في الوقت الذي تبارت فيه القيادات التقليدية للحزب في التحدث دوماً في الإعلام عن أزمة العولمة والاقتصاد الرقمي ومساعدة الدول النامية وقضايا تغير المناخ، مما أظهرهم في صورة النخبويين المنعزلين تماماً عن تطلعات الطبقات العاملة والوسطى في المجتمع الأمريكي والتي تعنى بتوفير فرص عمل ورفع الحد الأدنى للأجور وإعادة تأسيس قاعدة صناعية في البلاد، ظهرت كامالا لتحدد أولوياتها في مكافحة العنصرية بجميع أشكالها سواء القائمة على اللون أو العرق أو الجنس، ومعالجة تداعيات فيرس كورونا الذي أصاب أكثر من 4 ملايين شخص وأدى إلى وفاة ما يزيد على 150 ألفاً آخرين، وقضية التحفيز الاقتصادي في ظل الأرقام المرتفعة التي سجلتها وزارة العمل الأمريكية للعاطلين عن العمل، فارتفع العدد الإجمالي للأشخاص الذين تم تسريحهم من العمل- على الأقل مؤقتاً- بسبب جائحة كورونا إلى 45.7 مليون شخص.
جاءت هذه الضربة بالتزامن مع انخفاض تاريخي لأسعار النفط الأمريكي لمستوى متدنٍّ جداً لم يشهد التاريخ له مثيلاً، وقد أدّى ذلك إلى إفلاس العديد من شركات النفط خاصةً الصخري، كما أدى الانكماش الاقتصادي المتوقع هذا العام إلى انخفاض أرباح البنوك الأمريكية بنسبة تقارب 70%.
نجحت هاريس في جذب الأضواء بشدة نحوها في ظل استطلاعات الرأي التي تؤكد تقدم جون بايدن في الاستطلاعات الأولية للانتخابات المقررة يوم الثلاثاء 3 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ربما أكثر مما جذب أي نائب محتمل سابقٍ الأضواء نحوه. ولعل هذا لا يرجع فقط إلى كل ما سبق ذكره فحسب؛ بل لإعلان بايدن نيته عدم الترشح لولاية ثانية في حال فوزه بالانتخابات؛ إذ سيبلغ من العمر مع نهاية ولايته عام 2024 نحو 82 عاماً، وهو ما قد يجعل ترشحه لولاية ثانية شبه مستحيل وخارجاً عن الأعراف في السياسة الأمريكية، وحينها ستتوَّج كامالا كقائد للحزب الحاكم والمرشح الأول للحزب لخوض الانتخابات على منصب الرئيس، وهو ما قد يعني أننا سنكون أمام نسخة أنثوية من أوباما كما وصفتها الصحف الأمريكية.
رغم كل هذا الزخم الذي أضفته هاريس على قاعدة الناخبين الديمقراطيين، لم تقم بالإساءة إلى الحزب الجمهوري، بل اقتصر نقدها على شخص ترامب وسياساته؛ مما قد يدفع بعض الجمهوريين من المعتدلين أو الغاضبين إلى التصويت لصالح بايدن في الانتخابات المقبلة، وهو ما قد يتضح خلال المناظرة المرتقبة لنائبَي الرئيس في حرم جامعة يوتا بمدينة سولت ليك سيتي، يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.