لم تكن مفاجأة له.. لماذا سمح السيسي لإثيوبيا ببناء سد النهضة؟

عدد القراءات
1,683
عربي بوست
تم النشر: 2020/08/05 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/08/05 الساعة 12:14 بتوقيت غرينتش

لا تبدأ الكارثة بالانفجار، بل رويداً رويداً.

في البداية، نفت إثيوبيا الشيء عينه الذي كان يخشاه 100 مليون مصري يعيشون على مصب نهر النيل، نفت أنَّ ملء خزان "سد النهضة الإثيوبي الكبير" قد بدأ.

وفي 15 يوليو/تموز، نشر التلفزيون الإثيوبي نبأً عاجلاً، ما لبث أن تراجع واعتذر عنه بعد ساعات. وكان وزير الري والطاقة الإثيوبي، سيليشي بيكيلي، قد زعم في البداية أنَّ الصور التي نشرتها وكالة رويترز تُظهِر مياهاً ناتجة عن "الأمطار الغزيرة".

لكن بعدما أكَّد السودان أنَّ العديد من محطاته على النيل خرجت من الخدمة بعد تراجع مفاجئ في منسوب مياه النهر، اضطرت إثيوبيا للاعتراف. "مبارك! لقد كان نهر النيل، وصار النهر بحيرة. لن يتدفق النهر مجدداً. وستحظى إثيوبيا بكل التنمية التي تنشدها منه. النيل في الواقع نيلنا".

أدلى وزير الخارجية، غيدو أندارغاشيو، ببيان النصر بنفسه على نحوٍ لا يُصدَّق، وتخلى عن كل مظاهر الدبلوماسية.

حلمٌ يتحقق

يمثل السد بالنسبة لإثيوبيا إنجازاً لحلم يعود إلى الإمبراطور هيلا سيلاسي في الستينيات. ولا يُعَد المشروع البالغة قيمته 6.4 مليار دولار "للإثيوبيين وبالإثيوبيين" (يتم بالتمويل الذاتي) مجرد وسيلة لتوفير الكهرباء إلى أمة متعطِّشة للطاقة، فالسد حجر زاوية في النهضة الاقتصادية والسياسية للأمة. علاوة على ذلك، يعني السد أنَّ القوى الاستعمارية لم يعد بإمكانها إملاء مطالبها على إثيوبيا مثلما كان الحال في الماضي.

وتستضيف البلاد مقرَّي الاتحاد الإفريقي ولجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا. ولديها جيش قوي أصقلته المعارك. وهذا بالضبط هو عكس المسار الذي سلكته مصر السيسي، من كونها قوة إقليمية إلى بلد مضطرب عاجز.

ففي ظل حكم السيسي، تضاعف الدين العام لمصر ثلاث مرات تقريباً منذ عام 2014، من نحو 112 مليار دولار إلى قرابة 321 مليار دولار. وأظهر تقرير للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أنَّ معدل الفقر بلغ 32.5% عام 2019، بعدما كان 27.8% في 2015، في حين بلغ الفقر المدقع 6.2% بعدما كان 5.3% في نفس الفترة.

ويتزايد سكانها، الذين كسروا بالفعل حاجز المئة مليون، بمعدل مليون نسمة كل ستة أشهر، وهو معدل تتنبَّأ الأمم المتحدة بأن يؤدي إلى نقص في المياه في غضون 5 سنوات، حتى بدون السد.

وتأتي 80% من المياه التي تصل مصر من إثيوبيا. وتنبَّأت دراسة للجمعية الجيولوجية الأمريكية في مايو/أيار 2017 بأنَّ البلد سيعاني نقصاً يبلغ 25% من حصته المائية السنوية في حال ملء السد خلال فترة من 5 إلى 7 سنوات.

صرَّح مصدر مصري رفيع، كان مشاركاً بالمفاوضات، لموقع Middle East Eye البريطاني قائلاً: "إذا مُلئ السد في خلال 3 سنوات مثلما يريد الإثيوبيون، سيكون منسوب مياه النيل في مصر منخفضاً لدرجة أنَّ الكثير من أنابيب المضخات ستبدو ظاهرة (فوق المياه)".

وأضاف: "حين يصبح هذا المنسوب منخفضاً بهذا الشكل، وإذا ما تراجع منسوب النيل هذا، ستتقدم مياه البحر، ما يعني أنَّ تربة الدلتا، وهي المنطقة الأكثر خصوبة في مصر، ستصبح مالحة وغير مناسبة للكثير من الزراعة".

انخفاض دائم

نشرت وكالة رويترز عام 2018 تقريراً يقول إنَّ 17% من أراضي مصر الزراعية ستتلف إذا ملأت إثيوبيا الخزان في ست سنوات، و51% إذا ملأته في 3 سنوات. ويتوقع الخبراء المصريون القضاء على 75% من المزارع السمكية.

وقد يؤدي هذا إلى تشريد ما يصل إلى 30 مليون شخص، أي ثلث السكان. وإذا كان بالإمكان إطلاق وصف الطوارئ الوطنية على أي شيء، فهي اللحظة التي يبدأ فيها منسوب مياه النيل الواهبة للحياة انخفاضه الطويل والدائم. لكنَّ السد لم يُوجَد من العدم، ولم يكن مفاجئاً.

إذ بدأت أعمال البناء جدياً عام 2011. وبعد ذلك بفترة قصيرة، صار محمد مرسي رئيساً وكان مُحِقّاً في قلقه.

وفي محاولة لمنح نفسه بعض أوراق الضغط على طاولة المفاوضات، قال مرسي إنَّ "كل الخيارات" مطروحة بخصوص رد فعل مصر على المشروع.

كان النيل دوماً قضية أمن قومي عليا لمصر في العصر الحديث. وذهبت مصر إلى الحرب مع إثيوبيا عام 1874 في محاولة فاشلة للسيطرة على النيل الأزرق.

وكشفت برقية للسفارة الأمريكية تعود إلى عام 2010، نشرها موقع "ويكيليكس" لاحقاً، أنَّ المصريين فجَّروا معدات كانت في طريقها إلى إثيوبيا في منتصف السبعينيات.

كان المصدر، الذي قُيّمت مصداقيته عن طريق الأمريكيين المسؤولين عنه بـ (A)، أي مصدر موثوق للغاية، والذي كان على تواصل مع حسني مبارك ومدير الاستخبارات العسكرية في إدارته، اللواء الراحل عمر سليمان، قد أبلغ الأمريكيين وقال: "لن يكون هناك أي حرب. إذا وصل الأمر إلى أزمة، سوف نرسل طائرة لتفجر السد وتعود في نفس اليوم، بكل بساطة".

وأضاف: "أو يمكننا إرسال قواتنا الخاصة لمنع/تخريب السد. لكننا لن نلجأ إلى الخيار العسكري الآن. هذا مجرد تخطيط طوارئ. انظر للوراء إلى عملية نفذتها مصر في منتصف السبعينيات، أعتقد في عام 1976، عندما كانت إثيوبيا تحاول بناء سد ضخم. فجرنا المعدات بينما كانت تُنقل إلى إثيوبيا عبر البحر. إنها دراسة حالة مفيدة".

لكن مرسي كان محط سخرية من نواب المعارضة، وجرى تقويضه من جانب الجيش بسبب حديثه الصارم.

مؤامرة السيسي

قبل ثلاثة أيام من أحد اجتماعات الأزمة بشأن السد مع مرسي، تواصل السيسي نفسه مع أيمن نور، أحد الساسة المنخرطين في الوساطة مع الدول الإفريقية الأخرى حول بنيةٍ مقترحة.

كشف نور في العام الماضي أن السيسي أطلعه على أن مرسي أراد استكشاف خيار التدخل العسكري، لكن الجيش لم يكن متأهباً لذلك، وأن الملف بأكمله يجب أن يجري التعامل معه عن طريق الجيش وحده.

جرى تخريب اجتماع مرسي. فقد أُبلغ مساعدو مرسي بأن الكاميرا كانت تسجل مجريات الاجتماع من أجل الاتصالات الداخلية، بينما كان كل شيء اعتقدوا أنهم يناقشونه سراً يُبث بثاً مباشراً. كان هدف السيسي واضحاً. فقد كان تركيزه منصباً على إحراج رئيسه قبل شهر واحد من إطاحة مرسي نفسه.

قال نور: "كان هذا الاجتماع جزءاً من مؤامرة لتوريط مصر في مشكلة كبيرة فيما يتعلق بسد النهضة. وكانت جزءاً من محاولة إثبات إخفاق النظام الحاكم في تلك المرحلة".

كان لدى السيسي هدف آخر لكبح جماح أي استجابة مصرية قوية تجاه السد.

فقد علم أنه بعد شهر من ذلك التوقيت، أي وقتما نفذ انقلابه العسكري، سوف يعلق الاتحاد الإفريقي عضوية مصر. استمر تعليق عضوية مصر من جانب الاتحاد الإفريقي -وهو الرد الدولي القوي الوحيد ضد الانقلاب- لعام واحد فقط، وقد أدت المعارضة المسالمة من جانب السيسي تجاه بناء السد وتفضيله الدبلوماسية مع إثيوبيا، دوراً في إنهاء عزلة مصر.

وعندما اضطلع السيسي والجيش بمسؤولية التعامل مع الملف، أبلغوا الإثيوبيين بأن مصر صارت في أيادٍ عاقلة وراشدة يمكن أن تتفاوض. وقالوا إن أيام الإسلاميين المتوحشين قد ولّت.

غير أن المفاوضات لم تصل إلى أي نتيجة.

الضوء الأخضر

وقع قادة مصر والسودان وإثيوبيا في 2015 على اتفاق "تمهيدي" ثلاثي.

في حفل توقيع الاتفاقية، قال رئيس الوزراء الإثيوبي، هايلي مريام ديسالين، بجدية: "أؤكد أن تشييد سد النهضة لن يسبب أي ضرر لدولنا الثلاث، وخاصة للشعب المصري. ورد السيسي: "هذا اتفاق إطاري، وسوف يجري إكماله. اخترنا التعاون والثقة في بعضنا من أجل التنمية".

وتكرر هذا في عام 2018، عندما طلب السيسي من رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد آنذاك آبي أحمد، بأن يكرر وراءه ويقول: "والله، والله، لن نقوم بأي ضرر للمياه في مصر". كان السيسي يضحك ويصفق، بينما ينطق أحمد كلماته التي لم يكن يفهمها. إذ إن آبي أحمد لا يتحدث العربية.

وكان الأثر التراكمي للإعلانات التي لم يكن لدى إثيوبيا نية لتنفيذها، أنها حصلت على الضوء الأخضر للمضي قدماً في تشييد السد. مرت خمس سنوات ضائعة أخرى، وصار السد حقيقة على الأرض.

خيارات قليلة

حاول السيسي قدر المستطاع توجيه الانتباه إلى مكان آخر -مثل التهديد بإرسال قوات إلى ليبيا لمواجهة الدعم التركي المسلح للحكومة الليبية في طرابلس- لكن ملء السد يمثل صفعة هائلة على وجه مزاعم الجيش المصري بأنهم حماة البلاد. يجري تجاهل الجيش، ويمكن الكشف عن ضعفه الحقيقي عن طريق جارة إفريقية أكثر ثقة وأكثر نفوذاً وقوة.

لا يستطيع السيسي إلقاء اللوم على خصومه الإقليميين في تركيا، التي تعد ثاني أكبر مستثمر في إثيوبيا. في ظل أن الإمارات، حليفة مصر، تلعب اللعبة نفسها في إثيوبيا، من خلال حزمة استثمارات ومساعدات بقيمة 3 مليارات دولار. بالنسبة للإمارات وتركيا، يعد الصديق والخصم سواءً، وقد أمست مصر شيئاً ثانوياً بالنسبة لمصالحهما القومية.

صارت البطاقة الوحيدة التي يمكن للسيسي استخدامها ضد إثيوبيا، هي دونالد ترامب. أفادت مجلة Foreign Policy الأمريكية بأن عديداً من مسؤولي إدارة ترامب علقوا بأن الإدارة يمكنها وقف المساعدات إلى إثيوبيا إذا توقفت المفاوضات مرة أخرى. لكن فرص ترامب في الفوز بانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني تبدو قليلة.

إذ إن التوصل إلى مجرد تسوية بين إثيوبيا والسودان ومصر حول السد، ليست الأولوية الأولى على أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة. وإذا نجح المرشح الديمقراطي جو بايدن وخلف ترامب، فلن يعود السيسي -على أقل تقدير- "الديكتاتور المفضل" لرئيس الولايات المتحدة. تعهد بايدن بأن يجعل المساعدات الأمريكية إلى مصر مشروطة بسلوك السيسي حول حقوق الإنسان.

لن يدعم بايدن السيسي. ولا يمكن كذلك الثقة في تأكيدات إثيوبيا بأن السد سوف يكون انخفاضاً مؤقتاً في مناسيب مياه النيل.

أحد التأكيدات التي قدمتها إثيوبيا على الصعيد الدولي يتعلق بأن الخزان، الذي يعادل حجم مدينة لندن، سوف يستخدم لتوليد الكهرباء فقط.

وأعرف رجال أعمال خليجيين عُرض عليهم أسهم في الأراضي المحيطة بالخزان، مما يعني أن الأرض سوف تكون ذات قيمة متميزة بمجرد أن يجري ريها عن طريق مياه الخزان. سوف يستخدم الخزان في الري والزراعة، إضافة إلى توليد الكهرباء.

تبدو مصر عاجزة عن وقف ملء السد ومنع الإثيوبيين من استخدام المياه في الخزان بالطريقة التي يريدونها. وتواجه حقاً أزمة وجودية. فلن يستطيع بلد يضم أكثر من 100 مليون نسمة أن يعيش على مياه النيل التي تنحسر.

تعد هذه هي نكبة مصر، فلديها القدرة على التسبب في نزوح الملايين من الشعب. والسيسي مسؤول بنسبة 100% عن هذه الكارثة القومية.

– هذا الموضوع مترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

ديفيد هيرست
كاتب صحفي بريطاني
ديفيد هيرست، رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني، وكبير الكتاب في الجارديان البريطانية سابقاً
تحميل المزيد