لم يعد لدينا رفاهية الاختيار. هذا هو حالنا نحن مسلمي أمريكا، حيث تعتبر الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة بالنسبة لنا تحدياً غير مسبوق في حياتنا السياسية بالولايات المتحدة. ففي أمريكا ما قبل ترامب، كان كثيراً ما ينقسم المجتمع الأمريكي المسلم إلى عدة مجموعات، منا من يؤيد الحزب الجمهوري، ومنا من يؤيد الحزب الديمقراطي، ومنا من يؤيد المستقلين. كنا جزءاً من المجتمع الأمريكي بتعدده السياسي والفكري والثقافي، حيث تتبدل وتتنوع ولاءات واختيارات المواطنين للأحزاب والمرشحين تبعاً لتغير المواقف السياسية والتفاعلات الاقتصادية.
ثم جاء ترامب، الذي مثّل وصوله زلزالاً عنيفاً ما زال يهز أساسات البناء الديمقراطي الأمريكي الراسخ ليصل المجتمع الأمريكي إلى مرحلة غير مسبوقة من الاستقطاب السياسي والعرقي ربما لم تشهده أمريكا منذ ستينيات القرن الماضي، ترامب الذي وصل لأكبر منصب سياسي في العالم رغم أنه لم يمارس السياسة في حياته من قبل، وليس لديه قاعدة شعبية صلبة، كان لا يملك إلا سلاحاً واحداً للفوز: الشعبوية.. ومنذ اللحظة الأولى في مسيرته الانتخابية وكعادة كل زعيم شعبوي كان يجب إيجاد "عدو" أو "فزّاعة" يستخدمها لبناء قاعدة شعبية.
وجد ترامب ضالته في المسلمين عامة ومسلمي أمريكا خاصة ليتبنى خطاباً سياسياً عنصرياً يكون المسلمون فيه "شاةً سياسيةً" يضحي بها على مذبح معابد الوطنية الأمريكية من أجل إرضاء آلهة العنصرية البيضاء التي تعيش في عقول وقلوب جماعات دينية مسيحية ووطنية نشطة ترى في ترامب منقذاً يعيد أمجاد أمريكا البيضاء التي يحلمون بها، ويرى فيهم ترامب قاعدةً سياسية شعبية قوية لسياسيٍّ لم يمارس السياسة في حياته وليس له قاعدة أو مناصرون.. فنادى بمنع المسلمين من دخول أمريكا، وطالب بالتجسس على مساجدنا، ليرى أسهمه تصعد بشدة في أوساط اليمين الأمريكي المتطرف الذي يغذيه بالمال والأصوات، ويصبح المرشح الأول في قائمة المرشحين الجمهوريين تمهيداً لفوزه بالرئاسة.
"الإسلام يكرهُنا".. هكذا وصف ترامب نظرته لعلاقة المسلمين بأمريكا في لقائه التلفزيوني الشهير، ولاحظ أنه قال "الإسلام يكرهنا" ولم يقل "المتطرفون المسلمون يكرهوننا" كعادة الرؤساء الأمريكان السابقين، ليبيّن لقاعدته المتطرفة أنه يُعادي الإسلام كدين تماماً مثله مثل أي جماعة يمينية متطرفة، وأن خطابه متناغم مع خطابهم وأهدافه هي أهدافهم، وأن مسلمي أمريكا هم "أعداء كارهون" وليسوا "مواطنين صالحين".
لهذا بات جلياً واضحاً أننا كمسلمين أمريكان ليس لدينا رفاهية الاختيار، فاختيارنا الوحيد هو: "سنصوّت لأي رئيس غير ترامب. ولا يهم مَن هو".. فقط لأن أي مرشح آخر الآن مهما كان سيئاً فإنه سيكون بالقطع أفضل ألف مرة لنا ولأماننا وحاضرنا ومستقبلنا من ترامب الذي يصنع شعبيته على فزاعة الخوف من المسلمين والسود وجميع الأقليات في أمريكا.
ربما كان لنا بعض رفاهية الاختيار أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، حيث تنوّعت اختيارات المسلمين تبعاً لهواهم الفكري والثقافي والأهم تبعاً للمرحلة العمرية.. فبينما انتظم معظم النشطاء المسلمين الشباب في صفوف حملة بيرني ساندرز، كان هناك من المسلمين الأكبر سناً من يناصر مرشحين آخرين أكثر وسطية من بيرني ساندرز الذي يدفع الحزب بالكامل لتبني أفكارٍ شديدة اليسارية بالنسبة للمجتمع الأمريكي العريق في رأسماليته!
لكن حتى هذه الرفاهية قد انتهت بترشيح جو بايدن نائب الرئيس أوباما السابق كمرشح وحيد للحزب الديمقراطي وانسحاب بيرني والآخرين من السباق.
وجاء بايدن.. وعلى الرغم من عدم امتلاكه الكاريزما أو الأفكار الجديدة فإنه "ليس ترامب"، وهذا وحده يكفي، وكفيل بجعل المسلمين الأمريكان يناصرونه ويدعمونه بالمال والأصوات دون حتى انتظار أي وعود منه. فالجميع يعرف أن بايدن إذا فاز وأصبح رئيساً لأمريكا فإن ولايته ستكون "أربع سنوات أخرى من أوباما" التي تمتع فيها مسلمو أمريكا بحقوق مدنية وسياسية أفضل بكثير من عهد بوش الابن، كما أن المنظمات والمراكز الإسلامية قَوِيَ عُودها في هذه الفترة وتزايدت أعدادها بشكل يتناسب مع نمو مجتمع مسلم فتيٍّ أصبح يرى أنه "مجتمع إسلامي أمريكي" وليس "جالية" ويرى أمريكا وطناً وليس مجرد "أرض مهجر".
إلا أن بايدن فاجأ الجميع بتواصله ومغازلته السياسية لمسلمي أمريكا وإلقائه خطاباً غير مسبوق من مرشح رئاسي أمريكي، بدأه بحديث لرسول الله (صلى الله عليه وسلم): "مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه"، متعهداً بأجندة سياسة خارجية "عادلة" لأمريكا، تسعى فيها إدارة "الرئيس بايدن" للاعتراف بدول فلسطينية مستقلة، وتمتنع فيها عن دعم الديكتاتوريات في الدول الإسلامية والعربية، وتدافع فيها أمريكا عن حقوق الأقليات المسلمة في العالم أجمع. أما عن أجندة سياسته الداخلية فتعهد فيها بضمّ مسلمين إلى إدارته حتى يكون لمسلمي أمريكا "صوت في الإدارة الأمريكية الجديدة".
بالطبع كل هذه مجرد "وعود انتخابية" وليست عقوداً موثقة، وربما لا يتم تنفيذ أي منها.. فهذه هي السياسة وهذا ديدن المرشحين. ولكن تبقى هذه الوعود سابقة تاريخية لم تحدث في تاريخ أمريكا من قبل. فلم نرَ في تاريخ أمريكا القديم أو الحديث أي مرشح أمريكي له فرص حقيقية بالفوز يجتمع بمسلمي أمريكا قبل الانتخابات بأسابيع ويتعهد لهم بمثل هذه التعهدات "الجريئة" وغير المسبوقة. كانت كل خطابات المرشحين الرئاسيين السابقين إذا صادف وتحدث أي منهم مع مسلمي أمريكا قبل الانتخابات -وهو أمر نادر الحدوث- يكون التركيز فيها على نقاط المواطنة دون التعهد بأي شيء.. إلا أن بايدن وضع سابقة تاريخية تحسب له حتى وإن لم ينفذ تعهداته.
وكما توقعتُ، لم يكن قد مرّت ساعات قليلة على لقاء بايدن بالنشطاء والمنظمات الأمريكية حتى كانت تعهداته للمسلمين تتصدر مانشيتات المواقع الإخبارية وقنوات الإعلام اليميني الموالي لترامب معلنةً أن بايدن "يبيع أمريكا للمسلمين"، إلى حد أن أحد المواقع أطلق عليه لقب "بايدن الشريعة". وهو أمر متوقع تماماً، ومن المؤكد أن بايدن كان يعرف ما سيحدث لأن خطابه كان مكتوباً وليس مرتجلاً، إلا أنه مضى بخطاب تعهداته دون مبالاة باليمين الأمريكي، وهذا أيضاً سابقة تاريخية في تاريخ سباقات الرئاسة الأمريكية وفي توقيت حساس لا يريد فيه أي مرشح أن يخسر الكتل التصويتية البيضاء الكبرى لصالح إرضاء أقليات مثل المسلمين!
لا شك أن أمريكا كدولة بكل مكوناتها العرقية والسياسية الآن تخوض في مياه محيطات سياسية غير مأهولة لم يبحر فيها أحد من قبل. فقد علمتنا استطلاعات الرأي والتحليلات السياسية وآراء الخبراء في 2016 والتي أجمعت على خسارة ترامب أن تطبيق قواعد الاستشراق السياسي القديمة على واقع متجدد وغير مسبوق هو أمر غير عقلاني. أمريكا 2020 غير أمريكا التسعينيات والثمانينيات. ولا يمكن التوقع بمَن سيفوز في الانتخابات بناءً على قواعد استطلاع رأي وتحليل سياسي تشكلت في عصور ما قبل الاستقطاب السياسي أو عصور "ما قبل ترامب".. فالسياسة والحياة عموماً في أمريكا بعد ترامب لن تكون بتاتاً مثل ما قبلها حتى ولو خسر ترامب انتخابات الرئاسة. لقد فُتح صندوق باندورا وانتهى الأمر، ولا يهم إن كان مَن فتحه سيقف جانبه أم سيذهب ليأتي غيره.
أما نحن -مسلمي أمريكا- فما زلنا لا نملك رفاهية الاختيار.. سنصوّت لبايدن وندعمه ليس لتعهداته السياسية الجريئة غير المسبوقة ولا لأفكاره ولا لأننا نظن أنه الأفضل لقيادة أمريكا.. كل هذا لا يهم الآن، ما يهمنا فقط أنه "ليس ترامب".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.