أزمتا النفط وكورونا.. كيف سيؤديان إلى تآكل نفوذ دول الخليج في الخارج؟

عدد القراءات
1,417
تم النشر: 2020/07/28 الساعة 12:35 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/29 الساعة 09:37 بتوقيت غرينتش

تتعرض دول الخليج لأزمة مالية حادة ستدفع حكوماتها لاقتراض نحو 100 مليار دولار من الخارج خلال العام الجاري، كما ستدفعها نحو تكثيف عمليات السحب من الاحتياطيات النقدية المودعة في الخارج، كما فعلت السعودية التي سحبت نحو 51 مليار دولار خلال الشهور الأربعة الأولى من العام الجاري لتغطية الخسائر الناتجة عن تهاوي إيرادات النفط.

وهذه الأزمة المالية من المتوقع أن تستمر خاصة مع استمرار تهاوي أسعار النفط في الأسواق الدولية رغم الخطوات التي قام بها "تكتل أوبك+" لخفض الإنتاج النفطي ووقف تدهور الأسعار، كما تتفاقم الأزمة مع الخسائر الفادحة الناتجة عن تفشي فيروس كورونا، وتوقف الأنشطة الاقتصادية والتجارية في معظم دول الخليج، ووضع قيود شديدة على أنشطة السفر والطيران، وتوقف أنشطة مهمة لبعض البلدان الخليجية مثل الحج والعمرة في السعودية.

وقد وضعت الأزمة المالية الحادة التي تمر بها منطقة الخليج بعض الحكومات الخليجية وصناع القرار بها بين أمرين لا ثالث لهما، وعليهم أن يختاروا بسرعة قبل أن تشهد دول المنطقة اضطرابات سياسية واجتماعية، خاصة إذا ما قادت الأزمة الحالية إلى توقف بعض دول الخليج عن صرف رواتب وأجور موظفين بالدولة، أو اضطرت بعض الحكومات إلى تسريح عدد من الموظفين، من بين هذه الخيارات:

1- الاستمرار في تمويل الثورات المضادة في ليبيا وتونس والسودان والعراق، ودعم الأنظمة القمعية في دول الربيع العربي ودول عربية أخرى، أو توفير السلع الرئيسية للمواطن وبأسعار مناسبة لدخله، وتدبير التمويل اللازم لواردات البلاد من القمح والأغذية والسلع التموينية والملابس والبنزين والسولار والغاز المنزلي والسلع الوسيطة والمواد الخام ومدخلات الإنتاج وغيرها.

2- بين قتل أطفال ونساء اليمن والاستمرار في تخصيص مليارات الدولارات من الموازنات الحكومية السعودية والإماراتية، التي تعاني بعضها من عجز حاد، لتمويل حرب مفتوحة منذ شهر مارس/آذار 2015، أو توفير هذه المليارات لسداد الرواتب والأجور لموظفي الجهاز الإداري للدولة وتوفير فرص عمل للخريجين الجدد، ومساعدة الشركات على الاحتفاظ بالعمالة عبر منحها بعض الحوافز المالية والضريبية.

3- بين الاستمرار في سياسة عدم التوزيع العادل للثروات، وحصد عدد محدود من الأمراء والأسرة الحاكمة لنحو ثلث ثروة المجتمع الاجمالية، وحصدهم هؤلاء وحدهم عشرات المليارات من الدولارات دون الخضوع لأي نوع من الرقابة، أو بين استفادة الجميع من ثروة الدولة، وإخضاع الإيرادات العامة للرقابة الحكومية، وتوجيه جزء من تلك الإيرادات للأجيال المقبلة، وتقنين عمليات المزادات والمناقصات والصفقات التي تتم لصالح مؤسسات الدولة.

4- بين ضخ مليارات الدولارات في شركات العلاقات العامة والدعاية والتسويق الأمريكية والغربية بهدف تحسين الصورة الذهنية لأنظمة خليجية قمعية، وتشويه صورة دول وأنظمة أخرى كما تفعل دول الحصار ضد قطر منذ يونيو/حزيران 2017، أو توفير هذه الأموال للتوسع في تمويل الخدمات والمشروعات الصحية والتعليمية والسكنية المقدمة للمواطن وتحسين القدرة الشرائية للمستهلك.

5- بين إنفاق ملايين الدولارات على شبكات الذباب الإلكتروني لتشويه صورة "الدول الأعداء" أو الدول الأشقاء سابقاً، أو توجيه هذه الأموال لتمويل مشروعات إقامة مدارس وجامعات ومدارس ومعاهد فنية ومستشفيات ودور رعاية صحية ومشروعات تحلية مياه البحر المالحة ومساكن للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

6- بين شراء صفقات السلاح والطيران الضخمة وتخزينه حتى يصدأ بهدف شراء ولاءات أنظمة غربية ورؤساء دول كبرى، أو إنفاق مليارات تلك الصفقات في ترميم الطرق والجسور وبناء الكباري ومد شبكات إنتاج الكهرباء والمياه والصرف الصحي والحد من الفقر والبطالة، علماً بأن إجمالي الإنفاق العسكري للمنطقة للعربية يقدر بنحو تريليون دولار في السنوات العشر الأخيرة، وأن إنفاق السعودية وحدها على التسلح يتجاوز نحو 78.4 مليار دولار في العام الماضي 2019، حيث خصصت 10.1% من إجمالي الناتج المحلي للإنفاق العسكري لتتصدر دول المنطقة.

7- بين التمسك بأصول المجتمع وشركات الدولة وأراضيها واستغلالها بشكل يدر مزيداً من الأرباح والعوائد التي توجه للخزانة العامة، أو التفريط في تلك الأصول والإسراع في بيعها والتخلص منها بحجة سد العجز في الموازنة العامة.

ببساطة، الأزمة المالية الحادة ستغير شكل منطقة الخليج خلال السنوات القادمة، حيث ستتهاوى إيرادات النفط، المورد الرئيسي للموازنات الخليجية، كما ستواصل الاقتصادات الخليجية تأثرها بشدة جراء تفشي فيروس كورونا، والمنطقة التي سجلت فائضاً في ميزانياتها خلال العام الماضي قدره 88 مليار دولار، قد تسجل عجزاً قدره 33 مليار دولار خلال العام الحالي، وقطاع السياحة الخليجي تكبد خسائر فاقت 60 مليار دولار بسبب كورونا، وهناك توقعات بتراجع احتياطي النقد الأجنبي المجمع لدول مجلس التعاون الست بمقدار 133 مليار دولار خلال العام الحالي.

ومن المتوقع أيضاً تسارع عمليات السحب من الاحتياطيات الخارجية لدول المنطقة لسد العجز الضخم في الموازنات العامة وأعباء الديون الخارجية، وهو ما يعني استنزافها خلال فترة محدودة خاصة مع مواصلة حكومات المنطقة رصد حزم تحفيزية ضخمة تقدر بعشرات المليارات لمواجهة التداعيات الكبيرة لتفشي الفيروس، وتحريك الأنشطة الاقتصادية، والحيلولة دون إفلاس الشركات، والحد من مخاطر تسريح العمالة الوطنية.

في ظل هذه الأرقام السوداوية فإن على حكام دول مجلس التعاون الاختيار بين إنفاق عائدات النفط المتراجعة والمحدودة والاحتياطيات الخارجية على مصلحة الشعوب وتحسين أحوالهم المعيشية، ووقف موجة التضخم وارتفاع الأسعار، ومكافحة البطالة عبر توفير فرص العمل، والاهتمام بالقطاعات الإنتاجية والصناعية والزراعية والصحية، أو بين الإنفاق على التسلح ومساندة الأنظمة القمعية في المنطقة، ومحاولة شراء الولاءات الخارجية لضمان البقاء في الحكم.

هناك بالطبع بعض الأنظمة الخليجية التي لن تنحاز لخيار الشعوب رغم تفاقم الأزمة المالية الحادة وارتداداتها الخطيرة على المواطن والاقتصاد، فهذه الأنظمة ستواصل تدمير اليمن وسوريا وليبيا والسودان وغيرها من الدول العربية، وتمويل الثورات المضادة، وزيادة الإنفاق العسكري، على أن تعوض ذلك من جيب المواطن في صورة زيادات قياسية في الأسعار، وفرض الضرائب والجمارك خاصة على الدخل، وفرض الرسوم على الخدمات الحكومية، وبيع أصول الدولة، وخفض الدعم المقدم للسلع والخدمات الرئيسية من كهرباء ومياه ووقود وغاز منزلي، وتأجيل المشروعات الخدمية والاستثمارية خاصة المتعلقة بالمواطن.

لكن هناك بعض الأنظمة الأخرى قد تستغل الأزمة في إعادة ترتيب الأوراق والأولويات وترشيد الإنفاق العام، وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة والسكن، وبالتالي لا تضع شعوبها في فوهة المدفع.

هناك إذاً خريطة مالية واقتصادية جديدة يتم رسمها الآن لدول الخليج، خريطة باتت محصورة بين خيارين واضحين: مراعاة مصلحة الشعوب، أم مصلحة الأنظمة، وعلى الحكومات أن تختار بسرعة، خاصة أن خسائر الحالية فادحة وتكلفتها باهظة على الجميع، ويكفي الإشارة هنا إلى أن صندوق النقد الدولي حذر أكثر من مرة آخرها في فبراير/شباط الماضي من جفاف ثروات دول الخليج مع قفزات ديونها من 100 مليار دولار في عام 2014 إلى 400 مليار دولار في عام 2018، ونصح الصندوق هذه الدول بترشيد النفقات وتقليص الوظائف العامة وخفض الرواتب في القطاع العام التي تعد عالية بالمعايير الدولية.

لكن بعد تهاوي أسعار النفط، بسبب الحرب النفطية الشرسة التي قادتها السعودية ضد روسيا بداية شهر/مارس مارس الماضي، ثم تفاقمها بسبب تفشي فيروس كورونا، عاد صندوق النقد ليرسم صورة سوداوية لدول الخليج حيث توقع، نهاية يونيو/حزيران الماضي، انكماش اقتصاداتها بنسبة 7.6% في العام الجاري 2020، متأثراً بتداعيات تفشي فيروس كورونا، وهو ما يترتب عليه شلل في العديد من الأنشطة التجارية والاقتصادية واستمرار تسريح العمالة الأجنبية وربما المحلية.

بل إن وكالة ستاندرد آند بورز العالمية المتخصصة في التصنيفات الائتمانية توقعت ارتفاع دين حكومات دول الخليج برقم قياسي يبلغ حوالي 100 مليار دولار هذا العام، وأن تسجل هذه الحكومات عجزاً مجمعاً بنحو 180 مليار دولار، وأن تشهد ميزانيات دول مجلس التعاون تدهوراً حتى عام 2023.

الخليج بات على موعد مع التقشف الشديد، والتوسع الكبير في الاقتراض الخارجي شأنه شأن الدول العربية الفقيرة، وترشيد الإنفاق العام، والتخلي عن الدولة الأبوية وسياسة الطاعة لولي الأمر مقابل توفير كل احتياجات المواطن، وعلى الحكومات أن تراعي أن خريطة جيدة يتم رسمها لكل دول المنطقة، وأن هذه الخريطة قد يكون للمواطن بها صوت مسموع.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مصطفى عبد السلام
كاتب متخصص في الشأن الاقتصادي
تحميل المزيد