الدلالات الرمزية والحضارية لتحويل آيا صوفيا إلى مسجد

عدد القراءات
2,206
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/27 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/27 الساعة 12:17 بتوقيت غرينتش

حدث ليس بالعادي أن تعتمد تركيا بقيادة الرئيس التركي رجب طيب  أردوغان إزاحة كل العراقيل القانونية واتخاذ القرار بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد واستعادته لوضعه التاريخي والحضاري.

 القضية أخذت  أبعاداً حضارية ورمزية كبيرة،  ظهرت في جملة ردود الفعل التي صدرت من دول غربية ومن الفاتيكان، بل حتى من دول عربية توجد على خط الصراع مع تركيا مثل مصر والسعودية والإمارات، فاصطفت مع مواقف الدول الغربية، ضد مقتضيات هويتها وانتمائها الحضاري.        

المثير في الموقف أن الدول الغربية التي دخلت مع تركيا في مماحكة، هي دول علمانية،  لا وجه لتدخلها من زاوية القانون وحقوق الإنسان، إلا من جهة حماية ممارسة الشعائر الدينية، وهو أمر لا يمكن أن تزايد به الدول الغربية وفي مقدمتها فرنسا على تركيا وهي التي تمنع المآذن، بل وتمنع  الفتيات من ارتداء الحجاب  بدعوى أن ذلك يهدد الفضاء العلماني للدولة.

والمثير فعلاً للمفارقة أن عدداً من الدول العربية التي تحتج اليوم على تركيا وتحاول أن توظف هذا الحدث كورقة اعتماد في تدبير توترها السياسي معها، تصنف ضمن الدول الاستبدادية التي تنتهك الحقوق، كل الحقوق، بما في ذلك الدينية والمدنية والسياسية،  ولا تكتفي بذلك، بل تذهب بعيداً وتمارس الجرائم في تمثيليات دبلوماسية  يحيطها القانون الدولي بالحصانة الكاملة ومع ذلك تلقى دعماً غربياً حربائياً، ومنها من ظل لزمن طويل يمنع وجود أي كنيسة على  أرضه بحجة سد الذريعة إلى التنصير.

ليس القصد الدخول  في مساجلة مع مواقف الدول الغربية ولا حتى بعض الدول العربية، فواقع الأرض  يبقى في المحصلة هو ما يحكم لا  مواقف الدول، فتركيا تملك قرارها السيادي في أن تتصرف في مجالها الترابي، ولا تملك أي جهة وثيقة قانونية أو عهداً دولياً  يسمح له بالحديث أو التدخل في سلطة تركيا في اتخاذ القرار بشأن آيا صوفيا.

القضية إذن بهذا الاعتبار حضارية ورمزية، وليست متعلقة لا بخرق القانون، ولا بانتهاك الحقوق، وحتى ولو كانت بهذا التوصيف، فصوت الخارج ينبغي أن يكون صدى لصوت الداخل، وهو ما نرى عكسه، أن الخارج يحاول أن يبحث في الداخل عن صدى له، بدون جدوى.

وإذا كان الأمر يتعلق برسائل رمزية وحضارية، فالسؤال يطرح عن دلالات القرار التركي، وهو يمكن قراءته بمفرده أو باتصال مع باقي الديناميات  التي تفرزها تركيا في تفاعلها مع عدد من الملفات؟

قراءة الحدث بمفرده، أي بمعزل عن دور تركيا وتموقعها الجديد في العالم، لا يعني سوى الدلالة الدينية والتاريخية، وفي أحسن الأحوال التعبير عن تجسير العلاقة بين تركيا ما قبل إسقاط الخلافة وتركيا أردوغان،  أي تعبئة الوعي الشعبي والحضاري،  بأن تركيا تستعيد وعيها بانتمائها الحضاري، بالدور الاستعماري الذي حرف مسارها، وقادها نحو التغريب، وفقدت بذلك موقعها في العالم بعد تكالب دولي وعربي عليها.

لكن القضية لا تتوقف عن هذه القراءة، التي تنظر إلى الحدث بمفرده، بل إنها تأخذ أبعاداً مختلفة عند قراءة الحدث بارتباط مع ما يجري في العالم من تطورات، وما تشتبك فيه تركيا من أحداث كبيرة، لا تخص سوريا وليبيا فقط، بل تخص مصالحها الاستراتيجية في شرق المتوسط، والتي تعمل دول الغرب بشراكة مع إسرائيل على منع أي وطأة قدم لها فيها، وتخص أيضاً موقعها في العالم كقوة اقتصادية وأيضاً كقوة عسكرية، وتخص أيضاً طريقتها في التعبير عن قوتها في مواجهة سياسات التبئير التي تقوم بها عدد من الدول مثل فرنسا، لإضعاف الموقف التركي أو دفعه إلى الزاوية الضيقة.

في هذا السياق، يقرأ تحويل آيا صوفيا إلى مسجد بقراءات مختلفة، أولاها أن الحملات المسبقة، والتي تصل حد شيطنة تركيا ومحاولة دفع العالم كله لمواجهتها لمحاولة إرباكها داخلياً، لا يؤثر في القرارات السيادية، وأن تركيا حينما قررت ما قررت، فهي ماضية  إليه،  لا تؤثر فيها هذه الحملات، لأنها تدرك بوعيها حجم ممكنات هذه الدول، وأن الإعلام والتبئير  لا يعبران عن هذه الممكنات بقدر ما يعبر عن فوبيا تخويفية لتركيا.

الجانب الثاني من قراءة الحدث يرتبط بأسلوب تركيا في  تدبير الملف الليبي، ومواجهتها للتبئير الفرنسي خاصة،  ومحاولة تحريك مصر بقوتها العسكرية لشل قدرات تركيا على أن تدعم حكومة الوفاق، فالرسالة من آيا صوفيا، أن قرارات تركيا مدروسة،  لا تؤثر فيها مثل هذه التكتيكات، وأن أي محاولة لشيطنتها وشيطنة دورها المستقبلي في العالم لا  تتمتع بأي نجاح، وأن لجوء فرنسا على وجه الخصوص لشن حملتها ضد  تحويل آيا صوفيا إلى مسجد تعكس في البداية والمحصلة عجزها عن إقناع أقرب الأطراف إليها لدعم موقفها في ليبيا، أي منطقة المغرب العربي، وفشلها في جر دول الاتحاد الأوروبي لمربعها، كما  يقرأ الحدث من زاوية   مقابلة، يظهر أن الموقف التركي، في أريحية تامة، وأنه لا يشعر بأي ضيق أو  حصار وإلجاء إلى  الركن الضيق، ودليل ذلك أن تركيا  اتخذت القرار في لحظة التفاعلات الحرجة وفي عز الشيطنة  الفرنسية لموقفها في منطقة شرق المتوسط، أي أن تركيا تتحرك بثقة عالية في النفس، ولا تشعر أن قرارها سيزيد الوضع اشتعالاً ضدها، بل سيقوي موقفها التفاوضي، وموقعها في العالم كقوة صاعدة تتقدم الرتب واحدة بواحدة، وأنه لم يعد بالإمكان التعامل معها كحاشية على متن الأوروبيين أو الأمريكيين أو الروس، بل أصبحت نداً لهذه القوى، يحسب لها حسابها، ولا يمكن بحال تحاشيها.

الجانب الرابع في قراءة الحدث، هو أن تركيا تبعث برسالة إلى العالم بأن نموذجها  التنموي الصاعد  يأخذ مسافة عن الغرب، ولا يتماهى معه، بل إنه يقدم منظومة القيم التي يبشر بها الغرب بمصداقية محرجة له، ويؤسس لهذه القيم من منظور مختلف، نموذج يجمع بين الانتظام في التاريخ والانتماء الحضاري للأمة،  ويعتمد التحديث ويسارع الخطى نحو كسب معركته.

ما يؤكد ذلك، أن قرار تحويل آيا صوفيا إلى مسجد تزامن مع تأكيد تركي على اقتراب موعد إخراج السيارة التركية الصنع، ومع التقدم التركي في المجال الرقمي وفي مجال الصناعة المتعلقة بالأقمار الاصطناعية، وغيرها من منتوجات تحديثية، تثبت أن التحديث  ومواكبته بخطى متسارعة في تركيا، يسير جنباً إلى جنب مع الانتظام في التاريخ والانتماء للأمة، ويساير سعي تركيا لإعادة التموقع في العالم، وأن ذلك كله هو ما يجسد النموذج التركي الجديد.

ويبقى هناك جانب آخر لا يمكن إغفاله في قراءة الحدث، هو تلك العلاقة المرنة التي تجمع بين صلابة الموقف المبدئي  وبين الواقعية السياسية البراغماتية في سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وطريقة التنزيل وتوقيته،  فالرجل يدبر سياسته في ليبيا وسوريا وفي شرق المتوسط ضمن خيارات، هامش الخطأ فيها مكلف جداً، وحجم الخيارات المتاحة ليس واسعاً، ومع ذلك يدبر هذه الملفات جميعها، دون أن يفقد التوازن بين مبدئيته وواقعيته، وضمن هذه الظروف، التي يتحاشى فيها كثير من القادة اتخاذ مثل هذه المواقف، تتجه تركيا  إلى جعل الحدث رمزياً بكل المقاييس، لكن في الوقت نفسه، أداة من أدوات تعزيز الموقع التفاوضي مع الدول المهيمنة.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

بلال التليدي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
كاتب ومحلل سياسي مغربي
تحميل المزيد