اثنتان من المغالطات التاريخية والقانونية ما زال الغرب يرددهما عن مسجد آيا صوفيا

عدد القراءات
1,511
عربي بوست
تم النشر: 2020/07/27 الساعة 11:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2020/07/27 الساعة 11:57 بتوقيت غرينتش
مسجد آيا صوفيا

 إن قرار افتتاح مسجد آيا صوفيا من جديد في 24 يوليو/تموز الحالي تم انتقاده من قِبل الكثير من وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية التي كتبت حوله مقالات صحفية عدة وأجرت لقاءات متلفزة وإذاعية كثيرة حوله، لكن اللافت هو أن هذا الموقف السلبي الغربي يرتكز أساساً على مغالطات ومعلومات خاطئة ألا وهي اتهام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتحويل كنيستهم إلى مسجد أو اتهام المسلمين الأوائل بأسلمة معبدهم قبل أكثر من خمسة قرون. وهذا المقال يناقش هذه المزاعم الغربية دون استعمال الطريقة الكلاسيكية التي يعالج بها كثيرٌ من المسلمين هذه القضية والتي تعتمد أساساً على الفقه الاسلامي الذي لا يفقهه الغربُ ولا غالبية سكان المعمورة، وبالتالي فلن يركّز هذا المقال على الوقفية السلطانية أو الشخصية لآيا صوفيا ولا على وقوعه في أرض فُتحت عنوةً في القرن الخامس عشر الميلادي بل يستعمل منطق الغربيين في التحليل والمحاججة الذي يتسم بالبساطة والوضوح لدحض حججهم وإقناعهم.

آيا صوفيا ينتمي إلى الشرق لا إلى الغرب:

إن كلام بعض وسائل الاعلام الغربية عن تحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد من قبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطأ كبير، لأنهم يتكلمون عن آيا صوفيا كما لو كانت كنيسة غربية بالأمس القريب فتَمَّ تحويلها إلى مسجد الآن، مع أن آيا صوفيا حُوِّل من كنيسة شرقية إلى جامع منذ 567 سنة، ولا يوجد على ظهر هذه الأرض الآن أحد عايش وعاين هذه الكنيسة! إن وضع آيا صوفيا الأخير- الذي يشهده معماره الحالي بمآذنه الأربع ومحرابه ومنبره ومقصورته السلطانية ونقوشه ولوحاته وسجاداته وشمعداناته ومرافقه الأخرى – هو أنه مسجد تم إغلاقه من قِبل نظام أتاتورك العلماني قرابة 3 سنوات (1931-1934) ثم حوّله إلى متحف منذ عام 1935 ولمدة 85 سنة. والغريب هو أن الغرب لم ينتقد تحويل آيا صوفيا إلى متحف في ذلك الوقت ولم يطلب إطلاقاً تغيير هذا المتحف إلى كنيسة!

أما انتقاد المسلمين من قبل بعض الأوساط الغربية بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى جامع عام 1453م ففيه ظلم للمسلمين وتزوير للتاريخ، لأن الغربيين هم أول من حوّلوا الوضعية الأولى لهذه الكنيسة التي ليست غربية في أصلها ولا في وضعها النهائي.

إن تاريخ آيا صوفيا واسمه يرجعان إلى قديسة قبطية مصرية (أفريقية) تدعى آيا صوفيا التي تحولت من الديانة الوثنية إلى المسيحية وبسبب كفرها بعبادة الأصنام تم تعذيبها وقتلها بأمر من الوالي الروماني الوثني أقلوديوس ثم نُقِل جثمانها إلى القسطنطينية (إسطنبول حالياً) بأمر من الإمبراطور الروماني الشرقي (البيزنطي) قسطنطين الأول حيث تم دفنها هنالك ثم بُنِي حول قبرها كنيسة أرثوذكسية (شرقية) في عام 360 م، وقد أعيد بناء هذا المعبد عدة مرات إلى أن أصبحت تقريباً في هيئتها الحالية عام 537 م.

ومنذ أكثر من ثمانية قرون ظلت هذه الكنيسة أرثوذكسية شرقية حتى حوّلها الرومان الغربيون للمرة الأولى عام 1204م بقوة السلاح إلى كاتدرائية كاثوليكية غربية إثر حملتهم الصليبية التي أسقطت الإمبراطورية البيزنطية. وقد ظلت هذه الكاتدرائية الكاثوليكية على حالتها مدة 57 سنة حتى استعادها الرومان الشرقيون عام 1261م بعد تأسيس إمبراطوريتهم من جديد وعادت آيا صوفيا كنيسة أرثوذكسية شرقية لمدة 192 سنة. وبعد الفتح الإسلامي للقسطنطينية عام 1453م أمر السلطان محمد الفاتح بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد وظل على حاله كمكان يتعبد فيه المسلمون مدة 478 سنة حتى أغلقه نظام أتاتورك زهاء 3 سنوات ثم حوله إلى متحف منذ عام 1935م.  

وهذه النبذة التاريخية لآيا صوفيا تُظهِر أن أصله لا يَمُتُّ للغرب بصلة بل هو قبطي وأرثوذكسي شرقي أساساً لأكثر من ثمانية قرون قبل أن يصبح في أيدي الصليبيين الغربيين قرابة نصف قرن فقط واستردّه البيزنطيون الشرقيون قرابة قرنين ثم أصبح في النهاية تحت أيدي المسلمين الشرقيين منذ أكثر من خمسة قرون، وبالتالي فهو تحفة معمارية شرقية لا علاقة له بالغرب لا في أصله ولا وفي وضعه النهائي. علاوة على ذلك، فإذا كان الغربيون هم أول من غيّروا طبيعة كنيسة آيا صوفيا من كنيسة أرثوذكسية شرقية إلى كاتدرائية كاثوليكية غربية فلماذا يلومون المسلمين بتحويلها الى مسجد بعد ذلك؟

أضف إلى ذلك أن النظام "الدولي" السائد قبل العصور الوسطى وما بعدها كان يسمح بتحويل طبيعة دور العبادة من قبل المنتصرين في الحروب كما حوّل الأوربيون مساجدَ المسلمين إلى كنائس كـ"مسجد غرناطة" في إسبانيا الذي حولوه إلى "كنيسة سانتا ماريا"، ومسجد قاسم باشا في كرواتيا الذي غيروه إلى " كنيسة سانت ميخائيل"، وتحويل "جامع إشبيلية الكبير" إلى "كنيسة ماريا" و"مسجد المرابطين " إلى "كنيسة خان خوسيه" وغيرها من المساجد التي غيّروها قديماً إلى كنائس.

وفي زماننا هذا فإن الغربيين هم من يغيّرون كنائسهم إلى مساجد لأجل المال، فكم من كنائس باعوها للجالية المسلمة في أوروبا وأمريكا ليغيّروها إلى مساجد! فإذا كانوا لا يتورّعون الآن من بيع دور عبادتهم لتُحَوَّل إلى مساجد فلماذا يتحسرون من كنيسة حُوِّلت إلى مسجد قبل أكثر من خمس مئة سنة؟ ومتى بدأت الدوائر الإعلامية والسياسية الغربية تهتم بقضية الكنائس؟ إذن فما يحدث الآن في تركيا لا علاقة له بتحويل كنيسة إلى مسجد بل هو افتتاح مسجد أُغْلِق مُدّةً مديدةً جوراً وظلماً من قِبل نظام لا ديني.

إعادة افتتاح آيا صوفيا مطلب شعبي قديم:

يركز الإعلام الغربي أيضاً على المرسوم الرئاسي الذي أصدره أردوغان لإعادة متحف آيا صوفيا إلى جامع ويصف هذا القرار الرئاسي كمجرد مراوغة سياسية لكسب مزيد من الشعبية للفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة، وهذا التحليل تنقصه الدقة من وجهين:

الوجه الأول:

هو أن افتتاح جامع آيا صوفيا كان مطلباً شعبياً قديماً لمختلف طبقات الشعب التركي من مثقفين وأدباء ورجال دين وغيرهم. وقد بكى ورثى الأدباءُ الأتراك إغلاقَ هذا المسجد وطالبوا بإعادة افتتاحه منذ إغلاقه من قبل نظام أتاتورك، وقد ظهر ذلك جلياً في أعمال الروائي التركي بيامي صفا (ت 1961م)، والأديب التركي عارف نهاد آسيا (ت1975 م) والشاعرين ناظم حكمت (ت 1963م)، ونجيب فاضل (ت 1983م)، وكل هؤلاء الأدباء فارقوا الحياة قبل أن يبدأ أردوغان حياته السياسية الفعلية!

ويوجد في تركيا أشخاص كرّسوا حياتهم للكفاح قضائياً لإعادة فتح هذا الجامع كمدرس الرياضيات المتقاعد الأستاذ إسماعيل كانديمير الذي ناضل قانونياً مدة خمس وثلاثين سنة رافعاً دعاوى قضائية لإبطال قرار تحويل آيا صوفيا إلى متحف ولفحص صحة توقيع كمال أتاتورك في قراره الذي حول بموجبه هذا المسجد إلى متحف.

علاوة على ذلك، فإن زعماء الأوساط الإسلامية التركية طالبوا منذ زمن طويل بفتح مسجد آيا صوفيا كما عبّر عن ذلك مراراً الشيخ محمد ناظم الحقاني المعروف في تركيا بالشيخ ناظم القبرصي الذي ناضل ضد نظام أتاتورك حين منع إقامة الأذان في المساجد التركية بالعربية وقد كان الشيخ ناظم الحقاني لا يرى أي مستقبل لتركيا بدون إعادة فتح آيا صوفيا كمسجد.

وهذه الوقائع دليل على أن افتتاح جامع آيا صوفيا من جديد كان مطلباً شعبياً قديماً لا مراوغة سياسية أردوغانية كما يصوره الغرب. 

والوجه الأخير:

هو أن أردوغان لم يحول المتحف إلى مسجد بمرسوم رئاسي كما يزعم الإعلام الغربي، وكما فعل أتاتورك، بل إن المحكمة الإدارية التركية العليا هي التي حسمت صراعاً قضائياً طويلاً بناء على وثائق موثوقة وأصدرت قراراً ينص على أن آيا صوفيا ليس ملكاً للدولة التركية بل يرجع ملكيته إلى وقف أسسه السلطان محمد الفاتح، وبالتالي فلا يجوز استعماله لأي غرض آخر غير المسجد. إذن فالمرسوم الرئاسي الذي وقعه أردوغان تنفيذٌ لقرار المحكمة الإدارية العليا. وبما أن قرار المحاكم في الغرب ينبغي احترامه وتنفيذه فلماذا لا يحترم الغربيون قرار المحكمة العليا التركية؟

وبعيداً عن حكم نوايا وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية، يتضح من هذه السطور أن موقفهم السلبي إزاء افتتاح جامع آيا صوفيا من جديد يعتمد على أغلاط تاريخية وقانونية. فالوقائع التاريخية القديمة والحديثة تنفي ارتباط الغرب بهذا المَعلم التاريخي الموجود الآن في بلد شرقي ذي أغلبية مسلمة (تركيا) له سيادة تامة في استخدام منشآته ومبانيه كما تنص عليه قوانينه دون الحاجة إلى التدخلات الخارجية الغربية في شؤونه الداخلية.

أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:[email protected]

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
عبدالعزيز غي
أستاذ في جامعة ولاية بنسلفانيا الأمريكية
كندي الجنسية، حاصل على الليسانس والماجستير والدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة جنيف بسويسرا، وعلى دبلوم عالٍ في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها، وشهادة الليسانس في اللغة العربية. عاش 5 سنوات في الشرق الأوسط، و12 سنة في أوروبا، وأكثر من نصف عقد في أمريكا الشمالية. مهتم بحوار الأديان والثقافات والشعوب، وحالياً يعمل أستاذاً لدراسات الأديان واللغة العربية في جامعة ولاية بنسلفانيا وفي كلية نازاريث في أمريكا.
تحميل المزيد