مع غياب التحرك الأمريكي على الساحة العالمية في عهد ترامب، بات يتعين على الاتحاد الأوروبي التدخل لملء هذا الفراغ. ويمكن لألمانيا، التي تولت لتوها الرئاسة الدورية للتكتل الأوروبي، أن تستخدم الأشهر الستة المقبلة لتوفير القيادة اللازمة لتعزيز التأثير العالمي لأوروبا. ولكن هل هي مستعدة للتخلص من تحفظها التقليدي؟
وستهيمن التحديات الاقتصادية العاجلة على أول لقاء شخصي لقادة الاتحاد الأوروبي منذ بداية فترة الإغلاق في 17 و18 يوليو/تموز. وبرلين محقة في إعطاء الأولوية للاتفاق على ميزانية الاتحاد الأوروبي الجديدة لمدة 7 سنوات مقبلة وخطة التعافي من الجائحة، وهي مهمة يزيد من تعقيدها الانقسامات الداخلية والتنبؤات الجديدة التي تحذّر من ركود أعمق مما كان متوقعاً في الكتلة المكونة من 27 دولة. وعلى حد قول أنجيلا ميركل في مقابلة حديثة مع صحيفة The Guardian: "لكي تبقى أوروبا، يحتاج اقتصادها إلى البقاء".
لكن انتعاش أوروبا مرهون بحالة الاقتصاد العالمي. وبدون الولايات المتحدة إلى جانبه، يكافح الاتحاد الأوروبي من أجل إعادة إحياء الالتزامات المتعثرة تجاه أنظمة الرعاية الصحية التي تفرضها التحالفات متعددة الأطراف، ومواصلة الضغط لتحقيق أهداف المناخ العالمي ومكافحة الحمائية التجارية.
ويجب أن يتقبل الاتحاد الأوروبي تراجع الولايات المتحدة على الساحة العالمية ويأخذ هو بزمام القيادة العالمية، لأنَّ العالم بحاجة الآن للتعددية أكثر من أي وقتٍ مضى، بالرغم من تضاؤلها. وتقف ألمانيا في المكان المناسب في الوقت المناسب لإعطاء دفعة قوية لهذا المسعى. إذ لا تتولى حكومة ميركل رئاسة الاتحاد الأوروبي فحسب، بل لديها عضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي لمدة عامين حتى 31 ديسمبر/كانون الأول.
وتتمتع أوروبا بالقوة التنظيمية والسوقية اللازمة، بالإضافة إلى المؤهلات المتعددة الأطراف التي تهم جميع دول العالم. ونظم مسؤولو الاتحاد الأوروبي مؤخراً حدثين لجمع التبرعات لتمويل أبحاث لقاح "كوفيد-19″، ويحاول التكتل دعم كل من منظمة التجارة العالمية ومنظمة الصحة العالمية، وهما من بين المؤسسات متعددة الأطراف المهمة التي أضرها وأضعفها التنافس بين الولايات المتحدة والصين، وفي حالة منظمة الصحة العالمية، قرار الولايات المتحدة الانسحاب رسمياً من المنظمة.
ومع ذلك، تتعهد برلين، في برنامجها لرئاسة الاتحاد الأوروبي، بتواضع بتولي "مسؤولية كبيرة" للمساعدة في تشكيل نظامٍ عالمي. وطرحت كذلك قائمة جديرة بالثناء ولكنها طويلة من "الأولويات الرئيسية".
بيد أنَّ هذه هي الوصفة المثالية للفشل، إذ لن يتمكن الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، من إحلال السلام في الشرق الأوسط، مهما حاول. علاوة على ذلك، نسفت الولايات المتحدة محاولات الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وتعقِّد الانقسامات الداخلية العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا. ومن ثم، سيتعين على ميركل أن تكون انتقائية في تقرير متى وأين وكيف يتصرف الاتحاد الأوروبي، سواء في الداخل أو في الخارج.
ويكمن الحل في أنَّ تتخلص برلين وبروكسل أولاً من اعتمادهما المفرط على الولايات المتحدة، وهي حقيقة اعترفت بها ميركل. فهذا المأزق لا يخص أوروبا وحدها. فمثلما أكدت المستشارة الألمانية، يتعين على العالم الذي نشأ في "معرفة أكيدة" بأنَّ الولايات المتحدة قوة عالمية أن يتكيف الآن مع واقع جديد.
وتعد مناقشات الاتحاد الأوروبي حول مبدأ "الحكم الذاتي الاستراتيجي" خطوة في الاتجاه الصحيح. وبعدما كانت تتعلق في البداية بالأمن والدفاع، تسعى دول الاتحاد الآن وراء الاستقلال الاستراتيجي في التجارة والاستثمار الأجنبي والتركيز بعد الجائحة على إعادة تنشيط سلاسل التوريد المرتبطة بالمنتجات الطبية الأساسية.
ثانياً، في حين ينصب تركيز الاتحاد الأوروبي بقوة على علاقته المتقلبة مع الصين، فإنَّ موقفه العالمي يعتمد أيضاً على تطوير العلاقات مع الاقتصادات الآسيوية العملاقة الأخرى، بما في ذلك اليابان والهند وإندونيسيا.
ثالثاً، يجب على أوروبا وضع تصور جديد لعلاقتها القديمة مع إفريقيا، والتعلم من أخطاء الماضي والتخلي عن الرؤية الأوروبية المركزية والرعوية القديمة التي تنظر لإفريقيا على أنها شريك صغير يحتاج إلى إرشاد أوروبا. وستنتهي جهود الاتحاد الأوروبي الجديدة لبناء "شراكة متكافئة" مع الدول الإفريقية بالفشل، إذا لم يعززها الاستثمار ودعم منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية وتوثيق الروابط بين السلطات المحلية والإقليمية الأوروبية والإفريقية وقادة الأعمال والمجتمع المدني وجماعات المرأة والمهنيين الشباب والطلاب.
رابعاً، تضررت سمعة الاتحاد الأوروبي، وخاصة في ما يتعلق بالدفاع عن حقوق الإنسان، بسبب استجاباته الضعيفة لقضايا الهجرة والشعبوية. واليونان، المتهمة حالياً بدفع طالبي اللجوء على الحدود مع تركيا ومنع زوارق اللاجئين من الوصول إلى مياه الاتحاد الأوروبي، ليست الدولة الوحيدة في الاتحاد المشتبه في انتهاكها حقوق المهاجرين.
من جانبها، قالت أورسولا فون دير لين، رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، إنها تريد "بداية جديدة" من خلال اتفاقية جديدة للهجرة، لكنها أُجلَت حتى الخريف مع سعي المسؤولين لكسب تأييد الزعماء العنيدين مثل رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان. إضافة إلى ذلك، تحتاج أوروبا إلى تغيير ميلها للربط الدائم بين الهجرة والأمن، خاصة في ضوء الأدلة على التهديد المتزايد الذي يشكله التطرف اليميني المتطرف، أيضاً في ألمانيا.
وأخيراً، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى إظهار صفات قيادية فريدة لكي يسهم في تغيير العالم. لقد أظهرت جائحة "كوفيد-19" ضعف الشعبويين والرجال الأقوياء. ولا يمكن معالجة التحديات المعقدة من خلال الاعتماد على شرطي عالمي وحيد، بل يتطلب ذلك اتخاذ إجراءات من خلال مجموعة متغيرة من الجهات الحكومية وغير الحكومية التي تعمل بأشكال مختلفة وفي أوقات مختلفة. قد لا تزال القوة الصلبة مهمة بالنسبة لأولئك الذين شاركوا في حروب حقيقية، لكن دبلوماسية الاتحاد الأوروبي الهادئة والالتزام القوي بسيادة القانون هي التي تهم الكثير من الآخرين.
في عالم يزداد عدوانية، يمكن لألمانيا أن تتأكد من أنَّ حكومات الاتحاد الأوروبي تمارس في الداخل ما تعظ به في الخارج. وبإعلاء صوتها على ضجة صراعات القوى الكبرى والألعاب ذات المحصلة الصفرية، يمكن لبرلين توجيه شركائها في الاتحاد الأوروبي للتوقف عن النظر للخلف، والتركيز بدلاً من ذلك على مستقبل أكثر إثارة للاهتمام، وإن كان أقل قابلية للتنبؤ.
- هذا الموضوع مترجم عن صحيفة The Guardian البريطانية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.